28 فبراير، 2015



زغاريد  في العتمة
  
قصة قصيرة:

1

   ... فوق منصّة الشنق الخشبية في مدخل المعتقل يتأرجح جسد.. تحت قدميه الحافيتين جنود يلعبون الورق.. تزعجهم النسمة الخفيفة التي تؤرجح الجسد.. وتجعل اللوح فوق رؤوسهم يصدر صريراً بإيقاع ثابت.. مستفِزّ.. وفوق ذلك تمنع الورق من الثبات على البطّانية السوداء الخشنة. 

2

   ... تصرخ امرأة في العتمة.. يعقبها صمت.. يواصل الجنود لعب الورق.. تصرخ المرأة صرخة أخرى.. طويلة.. راعبة.. يتردد صداها في الظلمة.. يصرخ طفل صرخته الأولى.. ترتفع زغرودة مبحوحة.. تجاوبها زغرودة قصيرة مخنوقة من مكان ما.. ثم زغرودة طويلة رنّانة من الطرف البعيد.. وتضج العتمة المسيّجة بالأسلاك والعساكر بالزغاريد.. يتوقف الحرّاس عن لعب الورق.. ومن خلف الأسلاك الشائكة ينهض قمر.. راسماً على أرضية المنصة الخشبية ظل الجسد المتأرجح...

***
(2015)



ضفدع الوحل
 
قصة قصيرة:

 1

... أشم رائحة الثرى.. يبدو أنها بدأت تمطر.. أخيراً.. بعد عام كامل.. بشموسه وأقماره.. وأنا قابع تحت الأرض.. يسقط المطر أخيراً.. إنني أسمع صوت الأرض.. أنصت إلى أنينها الخفيّ وهي تتشرّب البلل.. نحن الضفادع نموذج للصبر.. ندفن أنفسنا عاماً كاملاً تحت التراب انتظاراً لعودة المطر.. صحيح أننا مجبَرون على ذلك بسبب الشمس والجفاف.. ولكن.. آآآآه.. ها هو البلل.. أحس ببرودته.. يلامس جسدي.. يبلل روحي.. الروح أيضاً في حاجة إلى البلل.. جفاف الروح ألعن من جفاف الجسد.

2

   ... يبدو أنني قد تأخرت كثيراً عن البِرْكة.. كل هذا بسبب الثرثرة.. ها هم قد اغتسلوا.. وشرعوا يزغردون للإناث.. بينما أنا لازلت مُلطخاً بوحل عامٍ كامل.. وحل مُعتَّق.. ما هذا؟ ثعبان يبتلع أحدهم..! النداءات ليست لك أيها اللعين.. تركنا لك الأرض عاماً كاملاً.. وتريد حرماننا من لحظة.. يا مَن يغيّر جِلده كل عام..! احذروا.. لقد رأيت ظل جناحين في البِرْكة.. أي عالم هذا الذي نعيش فيه؟ عالم يعجّ بالسموم والمخالب والمناقير.. لو لم أخف أن يكون تجديفاً لسألت الربّ لماذا خلق البِرْكة على هذا النحو؟ ما الحكمة من وجود القَتَلة المتوحشّين المغيّرين لجلودهم؟ بضعة أيام في السنة.. ريثما تجفّ البِرْكة.. ويستخسرونها فينا؟ ألسنا من مخلوقات الله؟ البِرْكة هي حياتنا.. استمراريتنا.. منذ ملايين السنين ونحن نفعل ذلك.. ألا يحقّ لنا أن نسبح وأن ننادي على إناثنا؟ وأن نتزاوج؟ على ذِكْر التزاوج.. كل واحد من هؤلاء الأوغاد يحتضن أنثاه.. بينما أنا لازلت أثرثر عن البِرْكة.

3

   ... ها هي البِرْكة تجفّ.. أطرافها موحلة.. تتشقق.. تنحشر شراغفنا.. ذرّيتنا في القاع اللزج.. على ذِكْر الذرّية.. لم يتسع لي الوقت للإنجاب هذا العام.. يا لي من أحمق.. قضيت وقتي في الصراخ دفاعاً عن البِرْكة.. بينما هم يستمتعون.. يبدو أنهم لا يأبهون لليِرْكة التي تستبيحها المخالب والمناقير والمبدّلون لجلودهم.. لا بأس.. ليس أمامي سوى أن أدفن نفسي مرّة أخرى انتظاراً لمطر العام القادم.. يا لهذا الجفاف.. يا رب.. أسألك أن تجعل كل أيامي موحلة..!

***
(2015)


حِسّ أمني..!!

قصة قصيرة:

    ... انظر إلى تلك المنقّبة التي تحمل الحقيبة.. مشيتها لا تشي بأنها امرأة.. واضح.. إرهابي متنقّب.. وانظر إلى ذلك الشرطي الشبق الذي يتأملها.. يا حيوان.. لو كان لديك أدنى حس أمني لرأيت أنّ أردافها أرداف رجل.. واضح.. وحتى صدرها ممسوح.. ليس فيه أي بروز.. وفوق ذلك لا تخطو برشاقة امرأة.. تهز رأسها وتتمايل.. كما تمشي الناقة.. واضح.. وأقسم أنّ مقاس الحذاء لا يقل عن ثلاثة وأربعين.. هؤلاء الشرطة الملاعين يعلّمونهم في الأساس (اليسّ يمّ).. و (رِجل بدّل).. وبعض الشتائم.. ويمنحونهم في النهاية ورقة تخرّج.. وسترة واقية من الرصاص.. ويقول لك شرطة!! أي شرطة بدون حسّ أمني؟! الحس الأمني ينبغي أن يتحول إلى غريزة.. إلى حاسة سادسة.. بحيث يجعلك تشكّ حتى في ذلك القط الأصفر الذي يتشمم رائحة الشواء أمام المطعم.. انظر.. لقد دخل الإرهابي ذلك السوق الشعبي المزدحم.. واضح.. يريد إيقاع أكبر عدد من الضحايا.. يا ساتر.. هل أصرخ لتحذير الناس؟ هؤلاء الغافلون لا يستشعرون الخطر.. الانفجار مسألة وقت.. بووووم.. غريبة.. لقد تأخر الانفجار.. ربما الحقيبة أو الحزام الناسف لم يعمل.. يحدث هذا أحياناً مع الانتحاريين.. عليّ أن أتحلّى بالشجاعة.. وألحق بذلك الإرهابي.. فمحاربة الإرهاب ليست مسؤولية الحكومات فقط.. ها هو يدخل متجر العطور.. الملعون يعرف أنّ شظايا الواجهة الزجاجية تضاعف عدد الضحايا.. الأمر واضح.. ليس في حاجة إلى حس أمني.. عليّ أن أحافظ على مسافة كافية من الشظايا.. ها هو يرفع النقاب.. استر يا رب.. يا حفيظ.. يا واقي.. يا لطيييييف.. أعني.. إنها.. إنها زوجتي.. حرمنا المصون..!! يبدو أنني قد بالغت قليلاً في مسألة الحس الأمني.. لكن الاحتياط واجب.. الحمد لله.. قدّر ولطف.. امممممم إذن هي ترفع نقابها بمجرد الدخول إلى المحلّات..!!

***
(2015)


الذئب يختن أبناءه..!

قصة قصيرة.


(إلى صديقي عبد الجليل عبدالكريم صالح "اجليّل")

 1

   ... يستذري جبرين تحت شجرة بلّوط.. يتأمل خيوط المطر المائلة تلمع تحت الشمس: (إنّه "فرح الذيب".. الذئب الآن يختن أبناءه.. يا له من توقيت للختان.. المطر تحت إشراقة الشمس..! الذئاب تتمتع بالخيال.. على عكس الكلاب.. شياهي الآن في مأمن.. فالذئب منشغل بتهيئة ذرّيته للتناسل.. هذا يعني مزيداً من الذئاب..!).

     الماعز يصيح.. يطأطئ رؤوسه.. يلوذ بالأشجار والصخور.. الجدي المقرور يجثو على ركبتيه ليرضع.. يصيح صيحة مكتومة أثناء الرضاعة وهو يدفع الثدي بقوة.. ترفع أمّه رِجلها بانزعاج.. تبتعد.. يقف الجدي بركبتين موحلتين.. يبتسم جبرين: (حتى ثدي الأم يحتاج إلى توقيت مناسب).
     تثغو شاة.. يجفل الماعز.. تقفز الكلاب.. يلتقط جبرين عصاه.

 2

   ... يرتكب الذئب الخطأ القاتل.. يتجه ناحية الحرث.. الكلاب تشكّل خلفه نصف دائرة.. قوساً مكوّناً من خمسة كلاب.. اثنان من كل جهة.. الخامس في الخلف.. ليست هناك إمكانية للانعطاف.. الأرض مكشوفة.. المخالب تغوص في الوحل.. الكلاب تأمل أن تنتهي المطاردة قبل تجاوز الحرث.. الذئب يرى أن الحرث لا نهاية له.. كلب المؤخرة يكاد يلمس ذيل الذئب.. كلبا الميمنة يضيّقان المسافة لإبعاده عن طرف الغابة.. كلبا الميسرة يوسعان المسافة.. تكتيك كاد يؤتي أُكله.. لولا أن الذئب ــ بقفزة أخيرة يائسة ــ تجاوز خطوط الحرث صافعاً كلب المؤخرة بقطعة وحل.. يعرف أنه لم يعد يملك القدرة على صعود السفح.. خياراته تتقلّص في موت المسافات.. خطوة.. أو قفزة قصيرة فقط تحول بينه وبين خمسة أفواه مدجّجة بالأنياب.. يصعد.. لم يسمع في حياته الذئبية كلها أنفاس الكلاب ولهاثها بهذا القرب.. في أعلى السفح تظهر صخرة كبيرة.. تركت عليها الشتاءات المتعاقبة خطوطاً داكنة.. يلوذ بها.. تحاصره الكلاب.. يقعي.. ظهره للصخرة.. أنيابه تطقطق.. أرجله بلون الوحل تحت السيقان الرمادية.. المحاصِرون يكتفون بالهرير.. ودسّ ذيولهم بين أرجلهم.. يراقبون الأنياب المطقطقة.

3

   ... يصل جبرين.. تتجرأ الكلاب.. ينهرها: (يا لك من كلاب حقيرة.. خمسة ضد واحد؟! هذا ليس عدلاً.. وأنت يا مولانا.. كيف أوقعت نفسك في هذا المأزق؟ ألا يُفترَض أنّك تختن أبناءك في هذه اللحظة؟ أو.. ربما تكون قد ختنتهم بالفعل.. وتعمل على صُنْع وليمة بالمناسبة.. يا لها من أنياب.. جعلت هذه الزمرة القذرة تدس ذيولها.. معها حق.. الواحد حين يخاف ينتابه القلق على ذيله!).

     فجأة.. يتحرّك السفح.. كما تفعل السفوح أحياناً أثناء المطر.. تنهار الصخرة.. تنقلع.. تتدحرج.. تبتعد الكلاب.. تواصل الصخرة طريقها.. مصحوبة بصوت تكسّر الأغصان.. يتتبّعها جبرين بنظره حتى تستقر في قاع الوادي.. يلتفت.. كان الذئب قد توارى.

4

   ... يفكر جبرين: (عجيب.. هذه الصخرة نابتة هنا منذ عشرات أو ربما مئات السنين..! أليس غريباً أنني أشعر بالارتياح لإفلات الذئب..؟!).

     يلحق بأغنامه.. يُمسك بطرفي العصا فوق كتفيه.. يصفر.. يبتسم: (لماذا لا أستطيع أن أخفي إعجابي بالذئاب التي تفترس شياهي.. بينما أحتقر الكلاب التي تحرسها..؟!).

***
(2015)


الكلب الراكض على حافّة الطريق

قصة قصيرة:


     ... لا أحد يعرف لماذا نشب الشجار.. بعضهم قال: (بدافع الملل).. فمنذ فترة طويلة لم يحدث أي عراك.. وهي حالة نادرة.. غير أن شهود عيان قالوا بأن كلب الحاج (امجيّد) قد بال على صخرة على جانب الطريق اتضح أنها تقع ضمن أرض الحاج (صالح).. وتصادف ذلك مع خروج التلاميذ من المدرسة.

ـــ كلبكم يا كلب يا ولد امجيّد ما يبول إلاّ في أرضنا.. ضاقت الدنيا..!
ـــ والله ما فيه كلب بعدك.. يا كلب الكلاب..!!

     تتعالى صيحات التلاميذ.. يشكّلون حلقة وهم يضربون بأيديهم فوق حقائبهم: (عركة.. عركة).. يصرخ أحدهم: (الديك يتفل على الدجاجة..!!).. فيبصق كل منهما على وجه الآخر.. يتبادلان الصفعات.. يقذف كل منهما حقيبته على رأس الآخر.. تتبعثر محتويات الحقيبة.. يسقط كتاب الدِّين في التراب.. يدوسان الحساب.. تتمزّق الجغرافيا.. يكسران ثلاثة أقلام.. يصرخ أحدهم من الحلقة: (اضربه بالمسطرة).. يتشابكان بالأيدي.. يأتي دور الشدّ مع الشَعر.. يهشمان عُلبة الهندسة.. ينقطع زرّ القميص.. يرتفع سقف الأسلحة.. يركلان بعضهما بالأحذية.. يحين وقت العَضّ.. والصراخ.. والدموع.. لم يستطع أحدهما إسقاط الآخر.. يفقد المتحلِّقون حماسهم.. يغادرون.. وينتهى الشجار.. يلهثان.. يمسحان دموعهما.. ينظران إلى أشيائهما المبعثرة.. يلتقطان ألوان الشمع.. ينفخانها من التراب.. يُخرج ابن امجيّد المنديل الورقي من جيبه.. يضمّد به جرح خصمه.. في تلك اللحظة يظهر الكلب.. يتمسّح بهما.. يتشمّم.. ثم يرفع رِجله ويبول على الصخرة.. ينظر كل منهما في وجه الآخر.. يبتسمان.. ثم يغادران سوياً والكلب يركض أمامهما وهو يبول على كل صخرة تصادفه..!

***
(2015)