22 أغسطس، 2010

الرُّوْحُ السابِعة

( أ )
... عيناه تبرقان في الظلام.. تتوهَّجان كجمرتين في أعلى الخَرُّوبة.. يُراقب بلهفةٍ القطَّة اللاهية.. عندما أدركَ أنَّ اللحظة مناسبة.. قفز في الفراغ الدامس.. كانت حساباته دقيقة.. أنشبَ مخالبَه وأسنانَه في عنقها.. فأطلقت زعيقاً حادًّا مُحاولةً التملُّص.. فازداد اشتعالاً.
( ل )
... اقتحم الصراخ كلَّ البيوت.. فاضِحاً تلك اللحظة المحمومة.
المرأة التي تستلقي بجوار زوجها.. رفعت رأسها.. أحسَّت بارتعاشٍ لذيذ وهي تُنصت إلى صرخات الأنثى.. الْتفتت إلى زوجها الذي يُدير لها ظهرَه ويشخر.. تنهَّدت تنهُّدةً طويلة.. وسحبت الغطاء على وجهها بعصبية.
في تلك اللحظة.. انطلقت رصاصةٌ أوقفت الصراخ.
( م )
... يستلقي.. يلعق الدم المُتخثِّر على صدره.
ـ لو لم تصرخ تلك العاهرة لما تنبَّهوا لوجودي.. ها قد فقدتُ الروح السادسة! هذه المرَّة بسبب الأنثى.
أخذ يسترجع في ذهنه كيف فقدَ أرواحه الخمسة...
ـ سيكون انتقامي هذه المرَّة أشدّ.. لن أدعهم يذوقون طعم الراحة أبداً.
رفع بصره.. راقَب بوبرَيص يتحرَّك ببطءٍ صاعِداً إلى سقف المغارة.
واصلَ لعق الدم..
ـ هاهم ـ مع مرور الزمن ـ يجدون الجُرأة الكافية لملاحقتي.. ولَّى ذلك الزمن الذي كانوا يُغلقون فيه أبوابهم ونوافذهم ويبيتون قبل المغرب كالدجاج.. لستُ أدري مَن الملعون الذي كشف السِّر؟ هل هو شيطان آخر؟ كانوا يعتقدون بأنَّ الكلب الأسود هو الشيطان.. هذا ما أَخبرَهم به الفقيه.. لهذا اخترتُ جسد القِطّ لأكون في مأمن.. ولأدخل كل بيت.. وفي أي وقت.. كنتُ أملك رصيداً من الأرواح.. لا بأس.. لازلتُ أملك الروح السابعة.. عليَّ أن أكون أكثر حذَراً.
( س )
... تشتَّتَ ضباب الصباح.. اكتشفوا أنَّ بعض الكهوف قد اختفت.. ظهرت مغارات جديدة.. استبدلت الأشجار أماكنها.. بعضها رحل إلى السفوح المقابِلة.. حتى الوادي غيَّر مَجراه.. فانحدر من الشمال إلى الجنوب.. أشياء كثيرة ذهبت مع الضباب.. يد خفيَّة أعادت ترتيب الأشياء!
وصفوا تلك التبدُّلات بأنّها لعنة جلَبَها الشيطان الأسود.
وسط الذهول جاءت الأخبار بأنَّه شوهِد هذا الصباح في أعلى الوادي.
( ك )
... يستمتع بأشعة الشمس المائلة.. والريح الخفيفة التي تبعث الحياة في الغابة.. يخطو بِهدوء.. بلا اكتراث.. يتوقَّف أحياناً.. يرفع رأسه.. يتشمَّم الهواء المُحيط.. ثم يواصل نزوله إلى أسفل الوادي.
عند اقترابه من أضيق نقطة في المُنحنَى.. كانت فوهات البنادق تُحاصره من الضفَّتين.. لم يكن الوقت يتَّسع لقفزةٍ واحدة.. بعد أن كَفَّ جسده عن الاختلاج.. فُصِل الرأس.. رُفِع فوق إحدى الحِراب.
( و )
ـ كم يبدو الموت أعمى.. ومجّانيًّا في كثيرٍ من الأحيان.. يا له من قطٍّ سَيِّئ الطالع.. قُتِل.. مُثِّل به.. فقط لأنه يُشبهني.. كم هو نافع أن يكون لك شَبِيْه!
( ن )
... وهو يسمع صيحات الانتصار.. والبنادق المُصوَّبة إلى السماء.. كان يتلصَّص بحذَر مَن لم يعد يملك سوى روحٍ واحدة.
(1999)

17 أغسطس، 2010

سيادة المعنى

قراءة في مجموعة درب الحلازين لأحمد يوسف عقيلة
الطيب جمَازي/تونس
مدخل:
قبل أن أقرأ له وقبل أن أقرأ ما كتب حول أدبه وقصصه سمعت شهادات شفوية من بعض أدباء ليبيا و تونس هذه الشهادات تقول أن هذا القاص يعجب القارئ ويكتب قصة متميزة والكل يحاول التخلص من أن تحسب شهادته إطراء فينهي شهادته بكون هذا الكاتب يعجبه شخصيا.. نعم هذا الكاتب أعجبني شخصيا وقرأت قصصه بلذة كأني لم أقرأ قصص قصيرة من قبل.. يعجبني إلى درجة أنني أحفظ قصصه وأحفظ أفكاره ومقولاته التي نخرج بها من قراءتنا له وكأنها حكمة الأولين,مثل هذا القاص يعجب الشعراء لأنه يسرق ما يمكن أن يكتبوه أو يفكرون فيه... هذا القاص شاعر ضل الطريق إلى القصة وبضلاله أصاب الهدفين الشعر والقصة.
قصصه تعجب الشعراء وبالتالي يحملون أخباره أينما ولَوا وكثيرة هي جهات الشعراء ودروبهم وشهاداتهم وتعجب القارئ لأنه انصرف عن القراءة دون قصد( القارئ العربي)وإن قرأ يتفاخر بما قرأ وخاصة عندما يقرأ نصوص مثل نصوص أحمد يوسف عقيلة.
عندما انتهيت من قراءة الحرباء ودرب الحلازين تبادر إلى ذهني سؤالا نادرا ما يتبادر إلى ذهن القارئ أو الناقد وهو من أسئلتنا الحضارية المحرجة التي أرجأناها إلى أزمنة أخرى.
أين دعاة الحوار مع الآخر ؟
أين دعاة التبادل الثقافي وضرورة الانفتاح؟
أين مؤسسات الترجمة العربية التي ترصد لها ميزانيات كبرى لتعمل على إيصال أدبنا و فكرنا للآخر الذي غزا عقولنا حد الملكية فأصبحت عقوله؟
نقرأ الأعمال الفائزة بالجوائز العالمية الكبرى و منها جائزة نوبل والكثير منها أعمال لا تضاهي أعمال كتابنا خاصة في القصة القصيرة والرواية ولكن العرب لا يحصلون على هذه الجوائز و لو في خضم عنصريتها وتبعيتها.
كلما قرأت نصا جيدا لا أسأل هل هذا النص أخذ حظه من القراءة والنقد بل تحضر مشكلة الترجمة فكثيرين هم الكتاب الغربيين الذين لم تقرأ أعمالهم في بلدانهم و لم يذاع صيتهم إلا بعد أن قرأتهم شعوبا أخرى و بألسنة مختلفة.
مثل كتابات أحمد يوسف عقيلة جديرة بالترجمة الفعلية وليست تلك الترجمات الحكومية التي تترجم الأدب بغاية قراءته محليا بلغة أخرى ولا يوزع في العالم أو الترجمات الشخصية التي تتم بالتعاون بين المؤلف و المترجم و توزع أيضا في العالم ,الترجمة الحقيقية هي الترجمة التي تمكن الآخر من الإطلاع على آدابنا و فكرنا وبالتالي نمحو تلك الصورة التي رسمت لنا منذ قرون أن العرب بدو رحل لا علاقة لهم بتاريخ الإنسان الحضاري.
أمثال أحمد يوسف عقيلة من كتاب القصة في مغربنا العربي يعانون الغبن الإعلامي والنقدي الفعال في جعل أعمالهم تترجم رغم نجوميتهم في صحفنا ومآدبنا الأدبية.
كنت عزمت الكتابة حول المجموعة القصصية الحرباء ولكن قبل ذلك أردت قراءة المجموعة القصصية درب الحلازين فغيرت رأيي وذلك لأن درب الحلازين واضحة الحكمة التي يعمل المؤلف على تبليغها للقارئ أي واضحة المقاصد رغم الشعرية التي تعلو اللغة.
درب الحلازين صور حقيقية من الحياة التي نتعثر في رؤيتها رغم ووضوحها بسبب تأويلنا لفعل النظر أي بسبب عدم الثقة في عيوننا.
وهذا لا يعني أن الحرباء مجموعة مختلفة بل إن كل كتابات أحمد يوسف عقيلة شبيهة بالمشروع الواحد وخاصة على مستوى اللغة والمضامين فكأنه بالبحث الممنهج الذي وجب أن تكون عناصره مترابطة منظمة مؤدية لغاية و أهداف البحث.
الطيور والزواحف و الحشرات والحيوانات البرية والأهلية.
الطبيعة بكل عناصرها المتحركة والجامدة استنطقها المؤلف واستخرج منها الرمز أي الحكمة بهدف الحديث عن الإنسان و تأمل جوانب الحياة الخفية والسحرية التي نغفل عن إدراكها رغم أهميتها تقول فاطمة الزياني :"أحمد يوسف عقيلة لم يتعامل مع الكائنات والأشياء بقفازات وإنما تقرى بيده مواقع النبض وأقترب فرأى ما لم يره العابرون لقد تشرب بتفاصيل اليومي حتى امتلأ إبداعا آسرا ,إنه يحول أكل الخبز إلى فعل فني و هذا هو الجعل و القنفذ و صيد الليل و السحالي و الغراب و الصرصار والكلب و البوم و النمل –أنصت لها الكاتب بأذن سليمان و نقل لنا دفائن ما تخفي و أيقظ الرمز فيها"
هكذا هو أحمد يوسف عقيلة مع إضافة أنه أيقظ الرمز فيها بغاية إيقاظ الرمز فينا.
المعنى سيد اللغة:
اللغة خادمة المعنى و المعنى هو إرادة الكاتب في سعيه نحو تحقيق معادلة صعبة: اللغة السلسة الواضحة والمعنى العميق أي المعنى الذي يجنيه القارئ دون عناء و يحقق العبرة وينير سبل الفهم.
لغة أحمد يوسف عقيلة لغة ترابية تمشي على الأرض ولا تعلو على من يعترضها من الكائنات بل تصافحها و إن لزم الأمر تقيم هناك بينها تتعلم سر الوجود.
تزحف مع الزواحف و تطير مع الطيور تقدم على أي مخاطرة في سبيل فهم الكائنات وقراءة الحياة عبرها لكن حضور الحيوانات والطبيعة ليس إلا الأسلوب الذي إختاره الكاتب للبحث بالمقابل في البشري على حقيقته ليقف القارئ على الإنساني.
كأن المؤلف بدأ من الأول في تأمل حكمة الوجود ومحاولة فهم الإنسان دون الرجوع إلى البحث في الفلسفات القديمة والأساطير وذلك بتأمل الكائن الحي و سعيه في الطبيعة.
في درب الحلازين امتزجت التأملات بالواقعية و تحولت الأفكار إلى أفعال.
نحس بالكاتب يفعل ,يحضر بل هو من العناصر الرئيسية للمشاهد والحكايات لم يركب الخيال ويؤمن بحواسه عن بعد بل باشر الحياة في أدق تفاصيلها وغمرها بحواسه عله يكون أقرب للحقيقة للطبيعة التي كانت عند أغلب الأدباء مجازات واستعارات متخفية في تعالي اللغة على الكائن الحي.
الكائن الحي في درب الحلازين جدير بالحياة وكل هذه الطبيعة وديان وأنهار وجبال قد تكون خلقت من أجل نملة أو بالأحرى للنملة دورها ونصيبها ومثل هذه التأملات لابد من أن تجعل المؤلف صاحب لغة صافية فالتأمل يتطلب الصفاء الذهني والنفسي وللغوي.
لكن سيادة المعنى لا تعني أن لغة أحمد يوسف عقيلة تغرَبت عن الأدبية والشعرية العالية بل العكس كانت لغة صائبة في مقاصدها بعيدة عن الميوعة والإثارة التى تجتاح قصصنا الحديثة و رواياتنا الحديثة بتعلَة الواقعية والحقيقة ففقدت المواضيع واتكأت على التجريد لكن التجريد في القصة له ميزة خاصة عن التجريد في باقي الأجناس الأدبية والفنية.
في درب الحلازين كل المعاني تحاور الإنسان تنبهه إلى أنه يشترك مع الحلزون في الهشاشة وذلك عبر تناول الواقع الاجتماعي ونقل قصص من الواقع لا نصدق الكاتب أنها من وحي الخيال بسبب ملامسته للتفاصيل بصور ومشاهد نشاهدها كل يوم بل هي حياتنا اليومية يقول الدكتور محمد لطفي اليوسفي حول مثل هذه التجارب "إنه يمتلك مقدرة فائقة على الاتصال و الانفصال تمكنه من المحافظة على النظرة الأولى فتبدو الأشياء كما لو أنها تأتيه لتمنح ذاتها ذلك أن النظرة الأولى متميزة تلتقط ما لا تراه العين المثقلة بالمعتاد و يتجلى تفردها ذاك في شكل مقدرة فائقة على الإحاطة بالمدركات و النفاذ إلى دواخلها في عملية تركيز سريعة كالومضة تماماً".
قصصه علم أحياء لم يتسلح فيه بالمعادلات والفرضيات بل تسلح بالأمانة في نقل دروب الكائنات وتسلح بالهدف من وراء هذه التأملات فكانت هادفة وإذا كانت هادفة فهي بالضرورة هادمة بغاية البناء لكن ماذا يريد الكاتب أن يبني بعد الهدم؟
الوعي بالحياة صار أضعف عند الإنسان الحديث والإيمان بالفردية دمر الذات الإنسانية التي لا تتحقق إلا في الجماعة والإنسان الحديث تنازل عن سيادته في هذه الأرض وذلك بتدمير نفسه عبر الصراعات والحروب لذلك انطلق الكاتب من الطبيعة والحيوان ليتثبت من كيان الإنسان ويحاول النفاذ إلى مواضع العطب ...شيء لا يطاق أن تحمل فوق كتفيك رأسا فارغا..فمنذ ثلاثة أيام ونحن نعيش برؤوس فارغة..المفارقة أننا أحسسنا بثقلها أكثر من قبل.(درب الحلازين ص 56).
يمكن القول أن مجموعة درب الحلازين وجل المجموعات القصصية كانت متوغلة في المعنى ولم تكن إستعراضية جامحة لا معنى للمطلق فيها بل تنطلق أحيانا من تحت الأقدام لا تخلو قصة من القرية ومن نباح الكلاب ومن مشاهد الحياة اليومية.
قصص... فرص:
القصَاص البارع هو القناص وأحمد يوسف عقيلة يشعرك و أنت تقرأ قصصه أن يقتنص الفرص من الواقع ويخطف شخصياته وحيواناته وأشجاره و وديانه ..يخطف القرى و الأصوات والنبضات ويصنع من كل هذا صورة تتساءل كيف صورها ؟كيف استغل الفرصة ورسمها؟
إذن فرصة للقارئ كي يقرأ الحياة فهو يمزج الاجتماعي بالسياسي بالتاريخي بالنفسي بالطبيعي, المشاهد مكتملة يصور ما بين السماء والأرض وهو يتحدث عن الخفاش أو عجوز عاش ويلات الحرب ويعيش ويلات الحياة...فرصة للقارئ كي يحب نفسه ويحب الكائنات الحية ويدرك أن وحدة الوجود هي وحدة الكائن الحي, أما الحقيقة والصدق في القصص فمن الصعب جدا كما ذكرت أن نصدق أنها من محض الخيال.
***
تونس أوت 2010

05 أغسطس، 2010

مَن يُوقِفُ المطر؟!

1
... (امرأة تستذري من المطر.. تُلصق ظهرها بساق الصنوبرة التي تظلل الطريق).
أنفاسه تتلاحق.. أصابعه ترتعش.. يواصل الكتابة:
(بُومة تحط على الصخرة المجاورة بعد طيران صامت وسط المطر).
يضع يده على صدره.. يتغضّن وجهه.. ثُم.. يموت…
2
... كان ذلك منذ زمن بعيد.. لكن المرأة لا تزال هناك.. إذا مررتم مع ذلك الطريق يمكنكم رؤيتها تستذري من المطر.. تحت الصنوبرة المنتصبة على حافة الطريق.. يمكنكم أيضاً رؤية البُومة المبلّلة فوق الصخرة.. لا يزال البلل يقطر من أطراف ريشها.. فالمطر لم يتوقف بعد.. مَن يوقف المطر إذا كان القاصّ قد مات قبل أن تكتمل القصة؟!
***
(2010)

01 أغسطس، 2010

جاذبية

1
... تزيل الوشم الأخضر عن وجهها.. ثعبان الحنّاء يتثنَّى صاعداً مع ربلة الساق.. كما في خرائط الكنوز.. فستان ضيّق قصير مشقوق.. سَبّاط يطرقع مع كل خطوة.
2
... في الضحى تظهر مرشوشة بالمساحيق.. نظرة عابرة من لاعبِي الورق أمام الدكّان.. يواصلون اللعب.. تُكمل الشارع.. تعود.. تتثنّى فوق طقطقة السبّاط.
3
... مدمنو الجلوس على الأرصفة ـ الذين لا يغيب عنهم ظلّ امرأة ـ لا يلتفتون.
4
... في المساء تظهر مرة أخرى.. تجمع إلى طقطقة السبّاط طرقعة العلكة.. مع إضافة مزيد من الشقوق للفستان.
5
... يتطوع أحدهم باقتراح وهو يقهقه:
ــ عندي الحلّ.. حل جذري.
ــ هل ستشتري لها حذاءً طبيًّا؟! أم سترصف لها الشارع؟!
ــ بل سأخبرها أنّ إسحاق نيوتن قد اتّصل منذ الصباح الباكر ليُخبرنا أنّها لا تَملك أيّة جاذبية على الإطلاق؟!
6
... القطّ ــ الذي يُنظِّف نفسه فوق إطار النافذة البارز ــ يُلقى عليها نظرة عابرة من زاوية عينه دون أن يلتفت.. يتثاءب.. ثُم يواصل لعق وَبَره.
***
(2008)