22 مايو، 2010

المخلاة

الرسم الساخر للفنان محمد الزواوي
1
... يستلقي.. يضع المخدّة تحت إبطيه.. يغرس مرفقيه في صوف النطع.. ويضع وجهه بين كفّيه.
... المطر يُنَقّط فوق السطح الصفيحي.. كان يتمنى أن يشتد تنقيط المطر ليغطي على ثرثرة زوجته.. وحين عجز عن تحقيق هذه الأمنية.. ولم يجد ما يفعله.. أخذ يتأمل زوجته..
كانت بريئة من أيّة استدارات.. ممسوحة.. رأسها مركوز فوق كتفيها مباشرة دون عنق.. أمّا ما عدا ذلك فهي كزهرة الدِّرْياس.. طويلة.. نحيفة.. معوجّة.. صفراء.. تشكو دائماً من شيءٍ ما.
انتشله صهيل حصانه أمام البيت.
2
... تحت القمر كانت ترذّذ.. رفع وجهه إلى السماء مُنتعشاً بالرذاذ. حين رآه الحصان حَمحم وتحرّك في مكانه.. رَبّت على عنقه.. مسح على ناصيته المُبلَّلة.. وعَلَّق عليه مخلاة فارغة.
***
(2004)

19 مايو، 2010

إصدار..

كتبَ مركز نهر النيل للنشر بجمهورية مصر العربية:
"الحرباء" لـ "أحمد يوسف عقيلة" بين متعة الابتكار ودهشة التلقي"
حين تدهشك الفكرة، حين تدهشك الصياغة، حين تفاجأ بأن ما لم تظنه قابلاً للكتابة قد كُتِب فناً قصصياً إبداعياً راقياً... تكون حتماً تطالع كتاباً لأحمد يوسف عقيلة.
"الحرباء" مجموعة قصصية للأديب الليبي أحمد يوسف عقيلة، تفرض فيها موهبته القصصية اللافتة نفسها على صفحات الكتاب، ويظهر خلالها ولعه الشديد بالحكي، فلا تترك فرصة للقارئ غير أن ينتقل من صفحة لأخرى دون توقف.
"الحرباء" تضم تسعاً وعشرين قصة منها: التراب الوطني، الرغيف، امرأة الحكاية، الحرباء، راعي الفحول، نزغات الملائكة، القبو... وغيرها، تتنوع فيها الأطروحات الفكرية والصياغات الإبداعية التي تمزج بصورة رائعة بين عمق الفكرة وسلاسة الطرح، بل تتعدى ذلك أحياناً إلى أن تضع البسمة فوق شفتي القارئ بينما يقرأ أشد الموضوعات قتامة وإيلاماً.
"الحرباء" مهداة من المؤلف أحمد يوسف عقيلة إلى روح صديقه "عمر سالم عطية، بكلمات غاية في الرهافة والشجن، ومصدرة بمقتطفات من كتابات وآراء كبار الأدباء والنقاد عن أدب أحمد يوسف عقيلة.
يقول د. محمد المفتى: (شدتني لغة المؤلف الطازجة والجديدة.. أسلوب متقشف/مقتضب/رشيق.. لا أجد وصفاً دقيقاً.. لكنه أقرب إلى لغة العِلْم الوصفية.. أسلوب خالٍ من المحسنات العتيقة.. ولو أردت وصف أسلوب أحمد يوسف عقيلة بدقة أكبر لقلت إنه أسلوب على درجة لافتة من الاقتصاد.. أقرب إلى تقارير المصارف.. دونما استطرادات أو حشو.. وحتى لا يزعل الأدباء.. دعني أُذَكِّرهم بأن الشاعر الإنجليزي/الأميركي.. شاعر القرن العشرين (ت.س.إليوت) كان موظفاً في مصرف!
لغة أحمد يوسف عقيلة لغة طازجة.. متحررة من الإنشاء.. والى حد كبير حتى من واو العطف.. فعباراته صُوَر مستقلة متلاحقة.. بل إنه لا يتحرج من مفاجأتنا بنحت جديد للكلمات.. لقد عثر أحمد يوسف عقيلة على إحدى المعادلات الصعبة.. ألا وهي كيفية التعامل مع تراثنا الشعبي دون إسفاف أو سذاجة سردية رتيبة).
آراء أخرى لنقاد وأدباء من ليبيا والعراق وتونس تتصدر المجموعة القصصية.
فى قصة "الرغيف" يبدأ الكاتب هذه البداية المدهشة:
"... أحسَّ الرغيف بأن أطرافه بدأت تشتدّ.. وأخذ اليباس يعلو وجهه.. لكنه ظلَّ مُعتصمِاً بصمته. قال التنُّور.. بعد أن نفخ نفخةً طويلة بفعل الصهد:
ـ لماذا هذا الصمت؟ حدِّثْني ما دمنا ملتصقَين إلى هذا الحَدّ.. أم تنتظر حتى تنضج فتصبح طعاماً؟
ـ هذه مسألة لا فكاك منها.. لكنَّ ما يشغلني هو أنني لا أعرف من نصيب أي الأفواه سأكون؟
ـ بَسِيْطَة.. إذا كنتَ أحمرَ مقرمِشاً فستكون من نصيب الحسناوات.. وإذا كنتَ رطِباً فستلوكك العجائز.. أمّا إذا احترقتَ وعلاك السواد فستأكلك الكلاب.. أو الراعي في أحسن الأحوال!"
لينبهنا من السطر الأول في كتابه إلى أننا أمام كاتب لا يكتب الشائع من الأساليب والمكرور من الأفكار، بل يمهد لنفسه طريقاص جاداً ومبتكراً وجاذباً للقارئ في آن واحد.
"الحرباء" مجموعة قصصية للأديب الليبي "أحمد يوسف عقيلة" صدرت في مائة وخمس وثلاثين صفحة من القطع المتوسط عن مركز نهر النيل للنشر بجمهورية مصر العربية.
***

16 مايو، 2010

شَمْس اطْياح

( خرّافة )
من كتاب: خراريف ليبية لأحمد يوسف عقيلة
الطبعة الأولى 2008 مجلس الثقافة العام.. ليبيا.
الرّاوية: سلِيْمة عبدالصادِق بُوخشَيْم.
الله يبْعد الشَّيْطان ويخَزيْه.. فِيْه هَذناك الصبايا الضّراير.. وحْدة بَيْضا ووحْدة شَوْشانة.. البَيْضا تعاير في الشَّوْشانة بسوادها وتقول لها: (يا خادِم).. وكلّ وحْدة عندها بنْت.. وَيْنما الشَّوشانة اتْدِزّ طعام ذَوْقَة للبيضا ما تخَلِّيْش بنتّا تاكِل منّه.. تكِبّه للكلاب ـ حاشاكم ـ وتقول: (ردِّي بالِك تاكلي منّه.. عَيْش الضَّرَّة باسِل).
الشَّوْشانة وَيْنما تْجِيْها بْنَيّة ضَرّتّا تعَطِيْها حَلْوَى.. وتخَلِّيْها تلعب مع بنتّا.. والضَّرَّة لخْرَى دَشّاعة.. وَيْنما تْجِيْها بْنَيّة الشَّوشانة تضربْها وتطردها.. (الضَّرَّة مضَرَّة).
كبْرَن البنات.. تَمَّن شبابات.. يَلْبسَن في الرّدا.. بنت البَيْضا طلَعت كَيْف امّها.. كرهَت أختّا الشَّوْشانة.. وتَمَّت تعاير فيها بسوادها.. وتقول لها: (يا خادِم).
هَذاك النهار الشَّوْشانة دَزَّت بنتّا للنَّجْع.. تْجِيْب لها في دَحي.. عندها دجاجة تريد ترَقِّد.. وما عندها شِي دِيْك.. الدَّحي اللي مَو دَحي دِيْك ما يدِير شي طيور.
النَّجْع بعيد.. يلْحظَوا فيه بالعَيْن.. غَيْر ياما دُونه.. وهي ماشية خَطّمَت عَلَيْ هَذِيْك النخلة العَطْشانة.. حذاها بِيْر.. قالت لها: (اسْقِيْنِي.. الله يسْقِيْك مِن بِيْر زَمْزَم).. سقَتّا.. صَبَّت عَلَيْها دَلْوَيْن والاَ ثلاث مِن هَذاك البِيْر.. قالت لها النخلة: (الله يَجْعَل طُولِي في سوالفِك مَو في طُولِك).. تَمَّا شعَرها طويل.. ينُوْش في أَقْدامها.. ومشَت.
خَطّمَت عَلَيْ هَذاك الغراب جناحه مَكْسُور.. قال لها: (جَبّرِيْنِي.. الله يجْبِر خاطرِك).. جَبّراته.. قال لها الغراب: (الله يَجْعَل سوادي في عيونِك مَو في لَونِك).. تَمّن عيونها سود.
خَطّمَت عَلَيْ هَذِيْك الرّخَمة كراعها مَكْسُور.. قالت لها: (جَبّرِيْنِي.. الله يجْبِر خاطرِك).. جَبّرتّا.. قالت لها الرّخَمة: (الله يَجْعَل بياضِي في لَونِك مَو في عيونِك.. واجْعلِك كَيْ شَمْس الطّياح وان غروبها).. تَمّا لَونها أَبْيَض بحمْرة.. كَيْ لَون الشَّمْس وان الغروب.
جابت الدَّحي.. وجَت لامّها سَمَّتّا (شَمْس اطْياح).. ضَرّتّا انقهْرَت.. قالت لبنتّا: (حَتَّى انْتِي عَدِّي للنَّجْع جيبِي لي دَحي.. والله ما ها الْخَدَم دجاجتِّن تدير رقاد قبل دجاجتنا.. وبالِك تَوّا تردِّي أسْمَح من شَمْس اطْياح).
عَدَّت البنت.. وهي ماشية خَطّمَت عَلَيْ هَذِيْك النخلة العَطْشانة.. حذاها بِيْر.. قالت لها: (اسْقِيْنِي.. الله يسْقِيْك مِن بِيْر زَمْزَم).. شربَت.. وسَيّبَت النخلة عَطْشانة.. قالت لها النخلة: (الله يَجْعَل طُولِي في طُولِك مَو في سوالفِك).. تَمَّت طويلة نَدْنُوْد.. وشعَرها قْصَيِّر ما يطول حَتَّى في نواوِيْر خدُوْدها.. ومشَوِّك تقول شبْرقة.. ومشَت.
خَطّمَت عَلَيْ هَذاك الغراب جناحه مَكْسُور.. قال لها: (جَبّرِيْنِي.. الله يجْبِر خاطرِك).. ضرباته عَلَي جناحه.. قال لها الغراب: (الله يَجْعَل سوادي في لَونِك.. مَو في عيونِك).. تَمَّت سَودا تقُول حَمّاس.
خَطّمَت عَلَيْ هَذِيْك الرّخَمة كراعها مَكْسُور.. قالت لها: (جَبّرِيْنِي.. الله يجْبِر خاطرِك).. تفلَت عَلَيْها ـ حاشا السامعين ـ قالت لها الرّخَمة: (الله يَجْعَل بياضِي في عيونِك مَو في لَونِك).. تَمَّن عيونها بِيْض تقول ملْحات.. انفضْحَت.. لاعَد قدْرَت تمشي للنَّجْع.. ولاعَد قدرت ترِدّ عَلَى امّها.. خايفة م الشّماتة.. قعَدَت بَيْن البَيْنَيْن.
ونا جِيْت جاي.. وهم عَدَّوا غادي.
مَرْحَبة بِك.. انتِي خَيْر منهم.

14 مايو، 2010

عقيلة يفوز بجائزة ناجي نعمان لعام 2010

جوائز ناجي نعمان الأدبيَّة لعام 2010

تتوِّجُ سبعةً وأربعين فائزًا جديدًا
بلغَ عددُ المرَشَّحين المُتقدِّمين لنَيل جوائز ناجي نعمان الأدبيَّة للعام الحالي 1012 مشتركًا ومشتركة، جاءُوا من إحدى وخمسين دولة، وكتبوا في ثماني عشرة لغةً ولهجة، هي: العربيَّة (الفصحى والمَحكيَّة في أكثر من لهجة)، الفرنسيَّة، الإنكليزيَّة، الإسبانيَّة، الرُّومانيَّة، الهُلَّنديَّة، الدَّنمركيَّة، التُّركيَّة، البلغاريَّة، الأسوجيَّة، البرتغاليَّة، الصِّربيَّة، الألبانيَّة، الأُزبِكيَّة.
وأمَّا قِطافُ هذا الموسم (الموسم الثَّامن) فجاءَ جوائزَ نالَها سبعةٌ وأربعون فائزًا وفائزة، وتوزَّعت على النَّحو الآتي:
1- جوائزُ الاستحقاق:
فلورينا إيزاشي (رومانيا)؛ فيصل مروكي ومحمَّد بن عاشور (تونس)؛ سعيد المغربي (مصر-أوزبكِستان)؛أحمد مذكوري وعمر قوسيح (المغرب)؛محمود عبد القادر ومحمَّد مسرجة (مصر)؛ سهام اليندوزي (المغرب-فرنسا)؛ إسماعيل القطعة (الجزائر)
.2 - جوائزُ الإبداع:
أندرِيا رادولوفيتش (المُنتِنِغرو)؛ كُنْسْتَنْتِن ت. سيوبوتارو وميهايلا بُرلاكو وجورج باداراو (رومانيا)؛ ميشال داشي (بلجيكا-كندا)؛ روزاريو ألونسو غارسِيا (إسبانيا)؛ جان سيمونو وماري-جوزِه شارِست (كندا)؛ كيث أ. سِمُّندس (بَربادوس)؛ عزيزة رحموني وأحمد شقوبي (المغرب)؛ منية بوليلة وحياة الرَّايس (تونس)؛ علي ظاهر النُّعيمي (الأردنّ)؛ طارق فرَّاج وأحمد كمال زكي وصباح حسني (مصر)؛ رفعت زيتون وطلعت شعيبات (فلسطين)؛ مروان ياسين الدُّليمي (العراق)؛ سعد العميدي (العراق-أسوج)؛ محمَّد علي سعيد والتَّوأم الباشق محمَّد بلغيث ويوسف الباز بلغيث ( الجزائر)
3- جوائزُ التَّكريم (عن الأعمال الكاملة):
نالَها كلٌّ من الشَّاعر والقاصّ الفرنسيّ أوليفيِه بيدشيرين؛ والمؤلِّف والممثِّل الفرنسيّ-الجزائريّ طيِّب بلمِهوب؛ والشَّاعر الفرنسيّ-اللُّبنانيّ إيصال صالح؛ والزَّوجان الشَّاعران الفنَّانان الفرنسيَّان سيمون غبرييِل ومَرْتِن غبرييِل؛ والأديبة الإسبانيَّة لوردِس آزو تورَلبا؛ والكاتب والفنَّان التَّشكيليّ المغربيّ عبد المجيد بن جلُّون؛ والكاتب والشَّاعر المغربيّ عبد الواحد بناني؛ والشَّاعر والرِّوائيّ المغربيّ محمَّد الصِّيباري؛ والكاتب اللِّيبيّ أحمد يوسف عقيلة؛ والكاتب الرُّومانيّ ميهاي-أثانازي بِترِسكو؛ والشَّاعرة والرِّوائيَّة الرُّومانيَّة كليوباترا لورِنسيو؛ والشَّاعر وفنَّان المَرئِيَّات الرُّومانيّ كُنْسْتَنْتِن سِفِرِن.
هذا، وسيتمُّ خلال شهر تمُّوز المُقبِل نشرُ الأعمال الفائِزَة، جزئيًّا أم بالكامل، في كتاب الجوائز لهذا العام من ضمن سلسلة "الثَّقافة بالمَجَّان"، كما ستوزَّعُ الشَّهاداتُ الخاصَّةُ على الفائزين، علمًا بأنَّ تلك الشَّهادات تمنحُ هؤلاء عضويَّةَ "دار نعمان للثقافة" الفخريَّة. والمعروف أنَّ جوائزَ ناجي نعمان الأدبيَّة تهدفُ إلى تشجيع نشر الأعمال الأدبيَّة على نطاقٍ عالميّ، وعلى أساس إعتاق هذه الأعمال من قيود الشَّكل والمضمون، والارتقاء بها فكرًا وأسلوبًا، وتوجيهها لما فيه خَير البشريَّة ورفع مستوى أنسَنَتها.

13 مايو، 2010

البندقيّة

1
... اختفت السماء في ذلك اليوم.. حجبتْها غيوم سوداء قاتمة.. مع حلول المساء ومض البرق وقصف الرعد.
فزِعت أُمِّي.. قفزت حافية.. أتت بصُرّة الإكليل.. حلّت العُقدة بأسنانها على عَجَل.. وضعت قَبسة من المسحوق في الكانون.. أغمضت عينيها.. رفعت يديها إلى السماء.. بدأ الدخان يتصاعد في أرجاء البرّاكة.
2
... تساقطت زخّات المطر الأولى.. أحدثت دويًّا فوق سطح الصفيح.. لمع البرق.. أدخلت أُمِّي أصابعها المرتجفة في الصرّة مرّةً أخرى.. هَزّ الرعد أركان الكوخ.. وجنبات الوادي.. الْتَهَم الكانون مزيداً من الإكليل.
اشتدَّ رَخّ المطر.. استمر البرق يضيء.. والرعد يُغربل جسد أُمِّي.. حتى أتَى على آخر قَبسة من إكليلها.. فقلَبت بقايا الصرّة وأخذت تَحتّها فوق الجمْر.
3
... في منتصف الليل توقف المطر.. كنت أسمع هدير السيل في أَجراف الوادي.. وتساقط القطرات من زوايا البرّاكة.. ومن الصنوبر المقرور.. والجداول المُزغردة عقب الصحو.. واختلاجات الأعماق البُور تتشرّب البلَل.. ونداءات الذئاب.. أكثر المخلوقات فَرحاً بالمطر.. ومن بين فَرَجات الغيوم تسلّل القمر.. وتبعثر أقماراً في الغدران.
4
... نامت أُمِّي...
منذ زمنٍ كنتُ أنتظر هذا السيل.. وهذه اللحظة بالذات.. حين تنام أمي.
أنزلتُ بندقية أبي العتيقة.. التي حارب بها الطليان.. ثم حارب بها الأحباش في (بَرّ الحَبَش).. ثم حارب بها الحلفاء في (العلَمَين).. خرجتُ بخُطىً حذرة.. انحدرتُ نحو الوادي.
البندقية ثقيلة.. أخذتُ أُبدّلها بين كتفَيّ.. هذا ما تركه لي أبي.. منذ الخريف وأنا لا أعرف ماذا أفعل بهذا الإرث.. في حين كانت أُمِّي تنظر دائماً إلى البندقية القديمة.. المُعلقة في الزاوية إلى جوار قبضة السنابل.. تتنهد طويلاً.. وتظل ساهمة.
... أشرفتُ على الجُرف.. السيل تحتي مباشرة.. في هذا المكان يتسع الوادي ويزداد عمقاً.
تحسّستُ البندقية.. وزنتها بين يدَيّ.. ثم.. تركتها تسقط في الهاوية.. أَصَخْتُ.. حتى سمعتُ صوت الارتطام.. ثم طغى هدير السيل على كل شيء.
***
(1995)

08 مايو، 2010

الفُقّاعة

(في كوبا بدا وكأنّ رجال الثورة يُفكِّرون في أَنَّهم سيجدون حَلاًّ
ـ حتى لمشكلة نُدْرة الحليب ـ بإطلاق الرصاص).
(ماركيز).
( ف )
... الجنرال هذه الليلة في مزاجٍ رائق.. حتى إنّه خلع البذلة العسكرية بكل أنواطها الملونة.. ارتدى بذلة عربية.. أصيلة.. بيضاء .. زبدة.. فضفاضة.. تخلى عن عصا الشرف أيضاً.. استبدلها بِمسبحة مزخرفة.. يُمرّر حَباتها باستمتاعٍ ظاهر.. فَضّل الجلوس على كرسي فوق مصطبة في طرف الساحة.. تحت وهج الكشافات المنصوبة على أعمدة طويلة.. بحيث تلاشت جميع الظلال والنقاط الْمعتِمة في الزوايا.. يسأل:
ــ أين الجماهير؟ أين الشعراء؟
( ق )
... الشعراء يقفون صفاً مُنحنياً تجاه الجنرال.. معظمهم يحمل مُسوّدات المديح.. يتخلّلها الكثير من الشطب.. لم يتسع لها الوقت للتبييض.. فلَم يُعلَن عن المسابقة إلاّ قبيل المغرب.. رجال الأمن يُشكّلون سوراً نصف دائري خلف الشعراء.. وراء حاجز الأمن المنحني تحتشد الجماهير الهاتِفة.. تترقَّب بشغف بدء المسابقة.
( ا )
... الجنرال ينظر إلى السماء مُضيّقاً عينيه.. واضعاً رِجْلاً على رِجْل.. شابكاً يديه حول ركبته.. متأرجِحاً قليلاً.. دون أن ينظر إلى الشعراء يقول:
ــ مللتُ سماع الشعْر.. أريد شيئاً مختلِفاً هذه الليلة.. أنا سأقترح المسابقة.
( ق )
... يُحضر أحد رجال الأمن سطلاً مملوءاً بالماء.. يرش فيه عُلبة كاملة من مسحوق الصابون.. يضع فيه قَصَبة طويلة.. علامات الاستفهام التي تزدهر مع شيءٍ من الخوف في رؤوس الشعراء.. تزدهر أيضاً في رؤوس الحشد.. وتثمر الكثير من الهمس والوشوشة.
( ي )
... يقول رجل الأمن:
ــ اسمعوا.. كلّ شاعر ينفخ في هذه القَصَبة.. ويُخرج أكبر فقّاعة بحيث تنعكس فيها صورة الجنرال سيكون الفائز.. الزمن ثلاث دقائق فقط.
( ع )
... تبدأ فعاليّات النفخ والبقبقة.. تنتفخ وجوه الشعراء.. تتكوّر.. تنفر العروق في الرِقاب.. تَجحظ العيون.. الفقاقيع تتصاعد.. تنفثئ فجأة.. قبل أن ترتفع إلى مستوى وجه الجنرال.. يتآكل طابور الشعراء.. يستجمع آخرُ الشعراء أنفاسه.. يَملأ صدره.. ينفخ.. تصدر غَرغَرة أشبه بالنباح.. يلهث.. يلهس.. يتدلّى لسانه.. يسيل لُعابه.. ينفخ نفخة طويلة.. تصعد فقّاعة ضخمة.. تصعد معها صيحة عالية من الحشد.. رجال الأمن يَدعمون تلك الصيحة بشيءٍ من الهمهمة.. يتطلع الجنرال باهتمام.. تتأرجح الفقّاعة.. تحلّق.. تَهبّ نسمة خفيفة.. ترتجف الفقّاعة.. تنفجر مُحدِثة طرقعةً كبيرة.. يقعقع السلاح.. سياج الأمن يلتف حول الجنرال مُصَوّباً البنادق إلى الحشد المذعور.. وإلى السماء المحجوبة خلف سطوع الضوء.
***
(2006)

05 مايو، 2010

إصدارات..

عن دار الحوار باللاذقية سوريا..
صدرت في أبريل 2010 الطبعة الثانية من المجموعتين القصصيتين:
ــ عناكب الزوايا العليا.
ــ الخيول البيض.

04 مايو، 2010

المعنى وبطن الشاعر

هل صحيح أنّ المعنى في جَوف الشاعر أو في بطنه.. أو في أي عضو آخر من أعضائه؟! هل الشاعر أو المبدع عموماً وَصِيّ على المعنى؟ ألا يُمكن أن يقول النَّصّ معانيه التي تقتضيها تراكيب اللغة وسياقاتها.. بغضّ النظر عن قصد المبدع؟ أين القراءات المتعدِّدة للنَّصّ الواحد؟ أين اللاّوعي؟
دعونِي أسرد لكم هذه الحكاية التي قد تُعِيْن على إجابة الأسئلة السابقة: (كان أبونواس يسير في الشارع.. فسمع أحد المعلِّمين يسأل تلاميذه: لماذا قال أبونواس "اسقني خمراً وقل لِيَ هي الخمر"؟ فحاول التلاميذ الإجابة.. لكنّ إجاباتهم لَم تقنع المعلِّم.. فأجاب بنفسه قائلاً: حين تأتيك الخمرة فأنت تراها وتشمّها وتلمسها وتذوقها.. فهذه أربع حواس.. لازالت الحاسّة الخامسة.. حاسّة السمع.. لذلك قال أبو نواس: وقل لِيَ هي الخمرُ.. لأنه أراد أن يستمتع بالخمر بحواسّه الخمس.. ففتح أبو نواس الباب وقال للمعلِّم.. والله لقد أحسنتَ التعليل.. وإن كنتُ لَم أقصد هذا المعنى).
هذا المعنى الجميل لَم يكن في جَوف أبي نواس أو في بطنه.. ودلالة هذه الحكاية تقودني إلى مزيد من الأسئلة: هل صحيح أنّ المبدع يجب أن يدافع عن نَصّه؟ أم أنّ النَّصّ كفيل بالدفاع عن نفسه؟ ماذا يُجدي الدفاع عن نَصّ لا يقول شيئاً؟ ورولان بارت يرفض تفسير العمل الأدبي من خلال منتجه.. وهو ما أسماه موت المؤلِّف.
لديّ حكاية أخرى: حين قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (لا يسقي أحدُكم زرعَ غيره).. قال بعض الورعين الذين يسقون زروعهم في الوادي: عندما تفيض علينا المياه نسرّحها إلى جيراننا ونستغفر الله)! هذا مثال على القراءة الخاطئة للنَّصّ.. لأنّها وقعت في شِراك ظاهر الكلمات.. رسول الله كان يقصد العِدّة.. أي أنّ المرأة حين يموت زوجها أو تُطلَّق فيجب أن تبقى مدّة العِدة المعروفة قبل أن تتزوّج.. لأنّه إذا تبيّن أنّها تحمل جنيناً فهو (زرع) الزوج الأول.. الذي لا يصح أن يسقيه الزوج الثاني حتى لا تختلط الأنساب.
لديّ حكاية ثالثة.. فشهيّتِي انفتحت للحكايات: (حين سمع عَدّي بن حاتِم الآية الكريمة: (فكلُوا واشربوا حتّى يتبيّنَ لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ من الفجر).. وضع إلى جانبه قبل أن ينام خيطين.. واحداً أبيض.. والآخر أسود.. وكان في كل مرّة يستيقظ ينظر إلى الخيطين في الظلمة.. وحين عَلِمَ رسول الله بذلك.. استدعاه وقال له: إنك امرؤ عريض القفا)!!
هذه أيضاً مشكلة ظاهر النَّصّ.. وعلى الرغم من أنه نَصّ قرآني.. إلاّ أنه نزل بالعربية.. ولابُدّ أن يُفهم وفق أساليبها.. ودلالة ألفاظها.. فحتّى النَّص القرآني يخضع لقراءات متعدِّدة.. نقصد من حيث التأويل.. وليس من حيث القراءات والروايات المعروفة للقرآن.. لذلك قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ عن القرآن بأنّه (حَمّال أَوْجه).. ومن هنا أيضاً جاء اختلاف المفسرين والفقهاء في استنباط بعض الأحكام من الآية الواحدة.. فعذراً للشاعر.. ولأيّ مبدع.. المعنى في بطن النّص.. وليس في بطن أحد.
***

03 مايو، 2010

الَخُروج من الغابة

1
... في البدء كان الكَلْب في الغابة...
... الذئب والكَلب يُقعيان فوق الحافّة الصخرية التي تظلِلها الأغصان.. يراقبان الراعي في الأسفل حيث تنحسر الغابة.. ويمتد سهل مُعشِب.. ينحني متوكئاً على عصاه.. يتلفت ناحية الأدغال.. يصفر.. يُلقي بالأحجار أمام الماعز.. ويصرخ أحياناً.
قال الذئب:
ــ أترى تلك العَنْز التي ولدت لتوِّها؟ سآخذ جَديها عند حلول المساء.
حَكَّ الكلب رقبته مُصدِراً أنيناً متقطعاً:
ــ سيكون هذا مثل المرّات السابقة.. يتفطن لك الراعي.. يُحاصرك بين الصخور.. ويُوسعك ضرباً بعصاه.
لعق الذئب أثر الجرح على ساقه.. وقال:
ــ كان ذلك في القمراء.. أمّا الليلة فالأمر يختلف.
ــ الراعي أكثر حذراً في الليالي المظلمة.
ــ مهما يكن.. سأتمدد هنا.. وأكتفي بمراقبة ذلك الجدي حتى الليل.. انظرْ إليه وهو يحاول النهوض.. لا يزال البخار يتصاعد من ظهره.
تثاءب الكلب ثم نهض:
ــ أمّا أنا فلن أستطيع الصبر على الجوع حتى المساء.. أمعائي تقرقِر.. سأنزل.
ــ في النهار؟!
ــ كفانا تشرداً.. سأعقد صفقةً مع الراعي.
أخذ الكلب ينزل بحذر.. صرّ الذئب على أسنانه:
ــ هذا جنون.. الراعي لا أمان له.
ــ أمعائي تقَرقِر.
ــ أتتخلى عن الغابة؟
ــ أمعائي تقَرقِر.
ــ أتتركني؟
ــ أمعائي تقَرقِر.
ــ غبي.. غبي!
أومأَ الكلب برأسه إلى شجرة العرعر وقال:
ــ سئمتُ أكل الزنباع.
2
... عينا الذئب خلف الصخرة..
الراعي يتناول عشاءَه.. اللهب ينعكس على مؤخرة الكلب.. ووجهه غائب في الظلمة حيث يوجِّه نباحه إلى الغابة.. يقطع النباح.. يهز ذيله.. يلتقط العظم.. يتمدَّد قرب النار فتضيء وجهه.. ينهض مرَّةً أخرى نابِحاً نحو الظلمة.
3
... وثب الكلب إلى الناحية التي جفل منها الماعز.. اشتمّ الرائحة.. أخذ دورة واسعة.. وفي لحظة كان وجهاً لوجه مع الذئب.
ــ أعرف كل مساربِك.
ــ يبدو أنّ أمعاءك لا تزال تقرقِر.. لا تكذب.. رأيتُ كل شيء.. أهذه هي الصفقة؟!
ــ لم أكن أعرف معنى الدفء قبل النار.
ــ ألم تعد تحسِن العواء؟
ــ الماعز لا يستأنس بالعواء.
ــ ولماذا تهز ذيلك كثيراً؟ هل هي عادة اكتسبتها أيضاً؟ ثم أين وَبرك الرمادي؟
ــ الراعي لا يحب الوَبر الرمادي.
ــ كلّ هذا حدث في عشيّة واحدة! هكذا إذن.. في الليل حارس.. وفي النهار ناعِس.
ــ دفء النار لا يعدله شيء.. سئمتُ الليالي الباردة المطيرة.. أَبِيتُ مقروراً وأمعائي خاوية.. بإمكانك أن تتبعني.. جرّب مرة واحدة دفء النار.
كشّر الذئب:
ــ النار مُغرية حقًّا.. ولكن ابتعد عن طريقي.
ــ ماذا ستفعل؟ هل ستأكل الزنباع؟
التفت الذئب:
ــ أتعرف ماذا سأفعل؟
صمت قليلاً.. ثم أضاف:
ــ سأعوي.. سأعوي وأُنصت إلى صدى عوائي تردده الغابة.
اتجه إلى الغابة.. وقال في الظلام:
ــ بالمناسبة.. نباحك مزعِج.
***
(2004)