30 أبريل، 2010

لماذا نَكْتُب؟

لماذا كتب الإنسان الأول؟ لماذا حفر كلماته ورموزه على جدران الكهوف؟ هل الكتابة جزء من محاولات الإنسان الدؤوبة للخلود؟ لماذا هذا التجسيد؟ هل الكتابة إيجاد شكل ملموس للمهموس؟ حين بدأ الإنسان يحفر على الجدران بأدوات حادة وبحواف صخور مدبَّبة.. هل كان نوعاً من الحفر في المعنى؟ أم كان بحثاً عن شكل أكثر ثباتاً؟ هل هو اتّهام للذاكرة التي يعتريها النسيان؟ الصخر ذاكرة مكشوفة.. وأكثر دواماً.. والسؤال هنا عن الكتابة الإبداعية تحديداً.. هل الكتابة نوع من إيصال رسالة إلى الآخر؟ (أُحاول دائماً أن أوصل شيئاً غير قابل للتوصيل) كما عَبّر كافكا.. هل للعبادة أثر في ذلك؟ كما قال كافكا أيضاً: (الكتابة شَكل من أشكال الصلاة).. هل هي نوع من التنفيس كما يقول همنجواي: (نكتب لكي نطرح عنا قلقنا).. هل طرح القلق سبب كافٍ للكتابة؟ أم هي أحد عوامل البقاء.. كغريزة الخوف التي تحفز الكائن على الهرب بعيداً عن الخطر.. يقول كافكا: (أنا أكتب بالرغم من كل شيء.. وبأيّ ثمن.. فالكتابة كفاحي من أجل البقاء).. لماذا نستبعِد المتعة؟ أليست الكتابة الإبداعية شكلاً من أشكال ممارسة المتعة؟
استوقفتني عبارة لجون رسكين: (إن الغروب الإنجليزي قد أصبح أكثر روعةً بعد أن سجّله تيرنر في لَوحاته).. اللوحة شكل من أشكال الكتابة.. فهل نكتب لتجاوز الواقع؟ لخلق عالَم أجمل؟
هل الكتابة نوع من الفَضح؟ في مجتمعنا يتحدثون شفوياً عن كل المحاذير.. خاصة الجنس والدين.. عندما تسمع حكايات الناس عن الجنس تسمع العجب.. لكن عندما نكتب عن هذه المحاذير تقوم الدنيا.. ونتهم بالفسوق والمروق.. إلى آخر قائمة التهَم.. كأنّ الاعتراض هنا على (فِعل الكتابة) لا على مجرد الكلام. هل الكتابة نوع من إثبات الذات؟ (إذا وُجِد ما يُمكنه أن يَمنعك عن الكتابة.. فأنت لستَ كاتباً) كما يقول سارويان.
هل الكتابة نوع من القتل والانتقام؟! أنا شخصيًّا حين أنتهي من كتابة القصة في شكلها النهائي يغمرني شعور بالانتصار.. ومن هنا يُمكنني أن أفهم قول وليام سارويان: (إن كتابة قصة أشبه ما تكون بهزيمة عدو).
ويظل السؤال الذي لَم تُقنعني جميع الإجابات عنه على كثرتها: لماذا نكتب؟
***

28 أبريل، 2010

الغَيث

1
... مساءً.. كن يتناولن الشاي في بيت ونِيْسة.
جعلت ونِيْسة من طرف كمِّها وقاءً.. أنزلت البرّاد من فوق الكانون.. رفعت الغطاء.. فتصاعد البخار اللذيذ.. واختلط برائحة القمح المُحمَّص.. وهي آخر حفنة من القمح المستورد.
2
... طلبن من محبوبة أن تستطلع التاقزة عن المطر.. وهل سيستمر الجدب؟ أم أنّ الغيث هذا العام سيضع حدًّا للسنين العجاف؟
أوقفت محبوبة مَلاكها العاري ـ كما كانت تسمِّي حفيدَها ـ فوق يدها اليسرى.. أسندته بيدها اليمنى.. ضغطت بأنفها وشفتيها تحت سُرّته.. أغمضت عينيها وهي تشمّه وتقبّله بصخب.. ثُم اكتسى وجهها سِمة جادّة.. وحرّكت شفتيها ببعض الكلمات المبهمة.
أراد الطفل أن يرفع قدمه اليسرى.. فقبضت عليها.. وأخذت تدغدغه وتميل يدها.. وتحاول الإيحاء إليه بأن يرفع قدمه اليمنى.. فابتسم في وجه جدته العابس.. عبوس المواسم المُجدبة.
فجأةً.. وقعت المعجِزة.. كما هو حال المعجزات دائماً.. هطل الغيث.. نبع من الأسفل.. من بين فخذي الملاك العاري.. شلاَّلاً دافِقاً فوق وجه جدته.. وسط الصرخات والضحكات.. لكن وجه محبوبة ظلّ صارماً.. وهي تحاول أن تسترجع نبوءتها الممزوجة بطعم البول!
***
(1997)

27 أبريل، 2010

في معرض تونس للكتاب 2010

أمام شوبان.. في جناح الاتحاد الأوروبي.. عدسة احمد العريبي

مع القاص التونسي سعيف علي
في مدخل المعرض مع القاصين: سالم الأوجلي وسعيف علي
في جناح ابوظبي

الموكِب

1
... في انتظار موكب جلالته.. الشارع مُسيّج بالبذلات المرقطة.. الخوذات.. البنادق.. الهراوات.. شجرة التوت على الرصيف يتسلقها الأطفال.
2
... يَمُرُّ موكب جلالته الضاجّ.. يلوّح بقبضتيه من فوق السيارة المكشوفة.. تتطاول الأعناق من خلف فوهات البنادق.. تهبّ دفقة ريح.. تمتلئ عباءته بالهواء.. وعلى الرصيف تسقط متأرجحة بعض أوراق التوت.
***
(2010)

22 أبريل، 2010

شَفافِية

1
... السيارة أمام البيت الرخامي ذي الطابقين.. السائق يمسح زوايا الزجاج الأمامي التي لا تطالها المسّاحات.
2
ارتدى بذلته الزرقاء المكوية بعناية.. قال يُحدِّث نفسه:
ــ القميص الأبيض سيكون لائقاً مع البذلة.. خاصة مع رباط العنق الأزرق.. فتبدو اللبسة بهذا التبادل: أزرق.. أبيض.. أزرق.. فإذا أضفنا الحذاء الأسود اللامع فإنني دونَ شَكّ سأسرق الأضواء هذا اليوم.. يبدو أنّ الأضواء بدورها تتطلَّب سرقة!
فرقع أصابع يديه.. وقف على مشطَي قدميه وفرقعهما.. ثم فرقع عنقه أيضاً.
ــ لا بأس لو تأخرت.. خَلِّيْهم يَرْجَوا.. فالاجتماع لن يبدأ بدوني على كل حال.. سيبقى الكرسي على رأس الطاولة شاغراً.. وهم ينظرون إلى ساعاتهم قلقين.. وعندما أفتح الباب سيلتفتون جميعاً ناحيتي.. يا لها من لحظة!
مسح على صلعته قبل أن يتقدَّم ناحية المرآة.
ــ للصلعة إيجابياتها.. فهي تُريح من عناء التمشيط.
وقف أمام مرآة المدخل.. مسح عينيه.. ضيَّقهما.. مسح المرآة بظاهر يده.. نفث البخارَ على سطحها.. لكن لا أثر لصورته.
ــ ما هذا؟ ما الذي أصاب هذه المرآة اللعينة؟ كيف تكون ساطعة إلى هذا الحَدّ.. تعكس كل شيء.. الساعة الحائطية.. المزهرية.. شجرة الرمّان التي تهتز خارج إطار النافذة.. بل وحتى هذه الذبابة الحقيرة التي حامت حول صلعتي وحطَّت لتوِّها خلفي على الجدار.. والتي يُفترَض أن أحجبها بكتفَيّ.. لا شك أنها الشفافية التي يتحدثون عنها! ها أنا قد حقَّقتُها دون عناء.
جاء صوت السائق من الشارع:
ــ السيارة جاهزة.
نظر في المرآة نظرة أخيرة.. جثا.. نهض مرَّة أخرى.. لكن لا جدوى.
كوَّر قبضته وسدَّدها إلى المرآة.. انحنى لينظر في الشظايا المبعثرة.. تملَّكه الغضب.. فأخذ يدهس الشظايا التي لم تكن تعكس سوى الثريّا المتدلية من السقف.
(2001)

20 أبريل، 2010

الغَدِيْر

بِرْكة في الجبل الأخضر.. عدسة عقيلة
1
... سماء مُثقلة بسحبٍ تسفعها الريح.. وبروق لامعة.. تهبط الغيمة.. تسيل في السفوح والمنحدرات.. تُسَرسِق.. تلثم الحصى.. تُوسوِس.. تتقافز فوق الصخور.. تصنع شلالاتٍ صغيرةً تنتهي برغوة ناصعة.. تتجمّع في الجُرْف.. تنحدر نحو قاع الوادي.. تجرف الضفاف الطينية.. ثم تتمدّد غديراً داكناً كَدِراً.
أول ضفدعٍ دخل مَنقع السيل أطلق البشارة.. تخلّت الغيمة عن بروقها اللامعة.. استبدلتها بالضفادع المُزغردة.. زغرودة الضفدع لا تقلّ بهجةً عن وميض البرق.. الزغرودة بَرق رنّان.
2
انحدر الكدَر نحو القاع.. بدأ الغدير يصفو.. حفنة من الطهارة في صدر الوادي.. تحت الأرض تتجه الجذور ناحية النداوة.. القبّرات تغطس.. تنغمس في الماء.. وتُفلّي ريشها.. العناكب تنسج بيوتها في الفجوات القريبة.. الهداهد تبني أعشاشها في تجاويف الصخور المُطلّة على الحواف المُعشِبة.
في النهار يعكس الغدير ألوان السحب العابرة.. وفي الليل ينْزرع بالنجوم.. ويتحوّل إلى قطعة من السماء في قلب الوادي.
تعطّرت المنحنيات.. انتشرت الخُضرة الداكنة على الضفاف.. وامتدّت الأغصان المُورِقة تُظلّل جوانب الوادي.
3
... وقف على حافّة الغدير.. تطلّع إلى صورته يعكسها السطح اللامع.. الْتقط حَجَراً.. رماه في الوسط.. تغضّن السطح المصقول.. تلاحقت الدوائر.. تموجت صورته.
... انتظَرَ حتى عاد السطح إلى صفائه.. ثم.. أخذ يبول...
ارتجّ الغدير.. ناثِراً الرذاذ البارد.. ارتجف.. فاض.. تَقلّع.. أحدث لَقلقة وهو يصعد إلى السماء.. عاد غيمةً بيضاءَ تسبح في الأفق الرحب.. مُخلّفاً وراءه أوحالاً لزِجة.. امتزجت بسائل كريه الرائحة.
***
(1998)

16 أبريل، 2010

قُبلة برلسكوني

الناس تَحنّ إلى أوطانِها حين تغترب عنها.. أمّا نحن فيأكلنا الحنين إلى وطننا ونحن فيه! هذه ليست عاطفة زائدة.. بل بسبب إحساسنا بأننا لا نمتلك وطننا.. يُلازمني دائماً إحساس بأنني قد أفقد وطني في أيّة لحظة.. ليس بسبب تدخُّل خارجي.. فالتدخُّل الخارجي يُعزّز الشعور بحب الوطن.. ولكن لأنّني أرى وطني يُجرَف بالجرّافات العملاقة.. وتُشعل النار بقصد في غاباته.. تحت حُجَج مختلفة.. ومن جهات ليس لديها انتماء أو تعلّق بالوطن.. الوطن بالنسبة لهم مُجرَّد سلعة.. من الممكن أن يفقد المرء وطنه وهو فيه.. يوضع في زاوية ضيّقة مُعتِمة.. ذات كوّة صغيرة مُقَضّبة في أعلى الجدار.. وساعتها لن يرى إلاّ قطعة من السماء تُقطّعها قضبان النافذة الصغيرة.. لكنّه لن يرى الأرض.. من هنا ـ ربّما ـ جاء تعلّقي بالمكان في كل قصصي.. المكان هو الشخصيّة الرئيسة في قصصي.. هو البطل الحقيقي.. محاولة للالتصاق بهذا الوطن.. ولو على الورق!
حين أرى القبور المتناثرة في أودية الجبل الأخضر.. قبور أولئك الذين قٌتِلوا في الحرب ضد الطليان وهم ملتصقون بهذه الأرض.. و(التوامج).. متاريس الصخر التي كانوا يتحصّنون بها.. يُداخلنِي إحساس بالخطيئة.. وأستغرب كيف ندوس هذا التراب بأقدامنا! أمَا من طريقة أخرى للمشي دون أن نلمس هذا التراب؟!
أخبرتْنِي أُمّي عن مقتل (عبدالرحيم بوبكر البَيّ) سنة (1926) في (وادي العَقّارَة) بالجبل الأخضر في معركة ضد الطليان.. وأكلت من جُثّته الذئاب.. ورثاه الشعراء:
راعِي الجواد اللي لذِيْذ مسارَه .. باتَن عَلَيْه اذْياب فِي العَقّارَة
يا الله.. مات من أجل وطنٍ شاسِعٍ لَم يتَّسع لِجَسده.. فذهب في بطون الذئاب! وما أكثر الذين ماتوا من أجل هذا الوطن الشاسع ولَم يتّسع لقبورهم! ماتوا في الخفاء.. لا شواهد على قبورهم.. أولئك الذين يفضُّون بَكارة الفَجْر.. مُنحنِيْن خلف محاريثهم ومناجلهم.. وفوق آبارهم.. مع أغنامهم وإبلهم.. لا يعرفون القَيلولة.. الْمُكْتَحِلِيْن بالتراب.. الْمُتعطِّرِيْن بالشِّيْح والزَّعْتَر.. الْمُسارعين إلى ضيوفِهم حُفاةً.. الْمُتمترسِيْن بالعَراء.. الشاهرين صدورَهم الْحاسِرة للَفْحِ القِبْلي.. الْمُتضرِّعيْن بالغناوي إلى السماوات القاحلة:
يا كريم هات الغَيث .. الوطن صاف واولافي جلَوا
الراحليْن خلف الغَيْم.. الْمُزغردِين للسَّيل.. الذّائحين في شتات الْمَهاجر.. التائهين في منافِي إيطاليا وبَرّ الحبَش.. الْمُدَجَّجيْن بالانتظار.. الْمُسَيَّجِيْن بالخوف داخل المعتقَلات.. الذّائبين شوقاً إلى أوهامهم ومراعيهم.. وخلاءاتِهم الشاسعة:
امْرايف ارْياف الطَّيْر.. عَلَيْ اعْطَيْر واوْهام فاجْية
الذين إذا رحلوا حملوا معهم تُربة أرضهم في صُرّة.. ليستنشقوا ريْحها.. ويَخْلِطونه بالماء ويشربونه.. ليُخَفِّف من حُرقة الحنين.. قَتَلَهم الْحَنِيْن.. أكثر مِمّا قَتَلَهم الرصاص! لا أجد فَظاعة أكثر من حَشْر شَعْبٍ من طبيعته الرَّحِيل داخل أسلاك شائكة.. ثُمّ يأتي (برلسكوني) رئيس وزراء إيطاليا.. يأتي الآن بعد حوالي قَرْن.. ويُقَبّل يد (محمد عمر المختار).. يا الله.. هل تكفي قُبلة؟ هل تَمحو قُبلة فظاعة أربعة وثلاثين عاماً من الاحتلال؟ هل تكفي قُبلة السيد (برلسكوني) لنسيان إبادة نصف الشعب الليبي وتشريده في المنافي والمعتقلات؟ ولماذا هذا الغَزَل الآن؟ هل هي كعكة الاستثمارات والنفط والغاز؟ أم الخوف من هجرة الجنوب؟ لماذا تأخر الاعتذار قرناً كاملاً يا سَيّد (برلسكوني)؟ أم إنّك لم تكتشف إلاّ الآن أن بلداً على الشاطيء الآخر اسمه (ليبيا) ـ مساحته تفوق مساحة إيطاليا بأكثر من عشر مرات ـ كان مُحتّلاً من قِبَل إيطاليا؟!
على كل حال.. الليبيون يُجيدون شيئاً اسمه التسامح.. والنسيان.. إلى درجةٍ تستعصي ـ أحياناً ـ على الفهم.. لنقل إنّ ذلك أصبح من الماضي.. ونُسامح.. لكنّ هناك فارقاً شاسعاً بين مسامحة المستعمر وبين التغزّل فيه والتزلُّف له.. وكأنّ الجَلاّد حين يعتذر للضحية فهو صاحب جميل! فلنسامح.. فالتسامح سلوك حضاري.. لكن دون أن ننسى.. فالعرب قديماً قالوا: لعن الله من لَم يُسامح.. ولعن الله من ينسَى!
***

12 أبريل، 2010

رحلتي إلى عُمان بالصور

في مطار دبي قرية الشريجة في الجبل الأخضر
في جمعية الأدباء والكتّاب العمانيين
مع الشاعرين إسحاق الخنجري وزهران القاسمي
في بيت الصديق الشاعر زهران القاسمي
مع فرح وحمدان زهران القاسمي

10 أبريل، 2010

الجوْكَر

(أن تكون بلا سِرّ.. سِرٌّ أيضاً!) (أدونيس)
1
... على الرصيف الإسمنتي العريض.. يفترشون بَطَّانيةً قديمة من بطاطين الجيش.. بعضهم يفترش نَطْعاً.. يلعبون الكارطة.. لا يجلس سوى اللاعبين الأربعة.. أمّا الباقون فكانوا وقوفاً.. وعلى الرغم من أنهم ـ في الظاهر ـ يُشكِّلون الجمهور لتلك المنافسة الساخنة.. إلا أنهم جميعاً يشاركون في اللعبة.. بالآراء.. التوقعات.. إسداء النصائح.. يصْفِقون أيديهم.. يُشيحون بوجوههم أسفاً بسبب لعبة خاطئة.. وقد يصل الأمر ببعضهم إلى التدخل شخصيًّا.. وانتزاع ورقة من يد اللاعب الغشيم.. وإلْقائها على البطَّانيَّة.. فتلك هي الورقة الصحيحة.. التي لا ينبغي العدول عنها.
في الخلفيَّة.. دكان خضروات.. تحمل واجهته لوحةً معدنيةً باهتة.. مكتوب عليها بخط صاحب الدكان نفسه (جَنّة الخضروات).. تتدلَّى تحتها مباشرة ربطة معدنوس ذابلة.
على يسار الخضروات مجزرة.. تحمل هي الأخرى لافتة معدنية بخط أحمر (دنيا اللحوم).. يتدلَّى في المدخل رأس جَدِي.. يعضُّ لسانه.. ويلتفّ حوله الذباب.
على يمين الخضروات جمعية استهلاكية تحمل لوحتها اسم الصحابي (المقداد بن عمرو).
2
... الجميع ـ لاعبين وجمهوراً ـ يترقَّبون الورقة المنتظَرة.. التي لا طعم للعب بدونها.. كلما امتدت يد إلى الأوراق المصفوفة.. تركَّزت كل الأنظار على الأصابع وهي تسحب مرتعشة.. العيون التي لا تملك زاوية رؤية مناسبة يكفيها أن تنظر في وجه اللاعب.. ففي ذروة المنافسة تحولت وجوه اللاعبين إلى مَرايا صقيلة.
أخيراً.. في إحدى السحبات المُوفَّقة.. ظهر الجوكر المنتظَر.. لباسٌ مُزخرَف.. طربوشٌ مائل.. حذاءٌ طويل برأسٍ معقوفٍ إلى الأعلى.. وعصا سحرية رقيقة.
تمطَّى.. فرقع أصابعه.. مسح العرق.. حكَّ رِجله بالعصا.. ثم ألقى نظرة فاحصة على الأماكن الشاغرة.. تجاوز الأوراق ذات النقاط المحدودة.. واندسَّ في مكان السبعة.
ــ لا بأس.. السبعة على كل حال ليست شيئاً سيّئاً ـ مرحليًّا على الأقل ـ لكن علينا حَرْق المراحل.. ثم دعونا نتذوق طعم الأنوثة! منذ بداية (الطَّرْح) وأنا منكفئ على وجهي فوق هذه البطَّانية العفِنة.. هِمَّتي لن تقصر دون الطبقة المُلوَّنة.
... واستمرَّ السحب...
3
ــ ها قد جاءت السبعة.. لقد انتظرتُكِ طويلاً.
صعد متسلِّقاً..
ــ أنا على مشارف الطبقة المُلوَّنة.. الفرصة سانحة الآن.. قد لا تسنح إلاَّ مرَّةً واحدة في الطَّرْح.
بخُبثٍ غرز طرف عصاه في كتف الولد.. ونَطَّ عالياً حتى احتضن بنت الديناري من الخلف.. فابتسمت.. مما جعل الولد يشتعل غيظاً.
ــ هنا.. حيث الدفء.. وبهجة الألوان.. والرؤية من فوق.. ما كنت أحسب أنَّ (المُوْجِيْرا) مُدجَّجة بكل هذا الدفء.. واو! لا أدري لماذا لا يُصنِّفون النهدين من ضمن أسلحة الدمار الشامل؟! ما حاجتي للستات والسبعات؟
الْتفت إلى الأعلى..
ــ شيء مذهل ألاَّ ترى أحداً فوقك.
4
... في سحبةٍ طال انتظارها.. ظهر (الرَّيّ).. ذلك الشايب الملتحي.. بشواربه المفتولة.. المعقوفة إلى الأعلى.. وتاجه المرصَّع.. وسيفه البرَّاق.
صاح الجمهور:
ــ نزّلوه.. حطُّوه في الأربعة.. هو المكان الوحيد الفاضي.
صرخ:
ــ لا.. لا يمكن.. بعد الملك أنحدرُ إلى الأربعة.. بعد العرش أنبطحُ على البلاط.. هذه صَعلكة.
احتدَّ الحشد:
ــ انزل.. انزل.
ــ انزل يا حيوان.
ــ انزل يا تَيْس.
رفع عصاه.. تصفَّح وجوههم باشمئزاز.. ألقى نظرة أخيرة على جلالة الملك.. وقفز إلى الأرضيَّة.. ثم قفزة أخرى إلى الرصيف.. انسلّ إلى الدكاكين الخلفية.. في اللحظة التي كانت فيها الدهشة كافيةً لإخفائه عن الأنظار.
5
... مكتب مختار المحلَّة.. أو بالأحرَى جمعية الصحابي المقداد بن عمرو الاستهلاكية.. مُزدحِمة بالزبائن.. البضائع مُكدَّسة في فوضى غريبة.. الدقيق بجانب الصابون.. البوطاس تحت البُنّ.. الحلوى فوق الزيت.. والملح فوق الجميع.. كانت الجمعية في حاجةٍ إلى مُعجِزة لتُعيد الأمور إلى نصابها.
أخرج المختار ورقة.. سحب القلم من فوق أُذنه.. وأخذ يُحصي بعض الحسابات.
قاطعه الزبائن:
ــ يا حاج نوَيقص.. نبِّي شهادة حسن السيرة والسلوك.
ــ يا عمِّي نويقص.. شهادة خلُوّ عمل.
ــ شهادة عدم ملكيَّة سكن.
صاح المختار وهو يخلع عباءته:
ــ صلوا على النبي.. (وما جعلنا لرجلٍ من قلبان في جوفه)!
ــ (قلبين) يا حاج نويقص.
ــ أيْش الفرق؟ قلبان.. قلبين.. نفس المعنى.. بلاش كلام فاضي.
ثُمَّ حدَّج صاحب التصويب:
ــ قريت القرآن من قبل بوك ياخذ أمَّك!
تنهَّد:
ــ إيييه.. كنَّا نكتب السُّوَر بالفحم.
ضحك الحاج خليفة:
ــ كنت تكتب أشياء واجدة بالفحم.. تذَكَّر الأشكال الداعرة اللي كنت ترسمها على الجدران؟
سرت عَدوى الضحك في الزحام.. أضاف العجوز خليفة وهو لا يزال يقهقه:
ــ والعبارات القبيحة الفجَّة.. اللي كنت تكتبها على الصخور؟
استشاط نويقص:
ــ وأنت يا بوعمايا.. كنت تكتب اسمك بالبول على التراب!
تعالت القهقهات..
ــ يا حاج نويقص لا تعطّلونا.. أنا مستعجل.
ــ العجلة من الشيطان.. تفضل يا مستعجل.. أيش تريد؟
تنحنح المستعجل:
ــ بصراحة يا حاج.. أنا نبِّي شهادة إتمام زفاف.. وشهادة عدم إتمام زفاف!
اتَّسعت عينا المختار:
ــ تريد شهادتين متناقضتين؟
ــ كل واحدة مطلوبة في جهة.
ــ اِم.. باهي.. باهي.
غطس نويقص تحت الدُّرْج.. أخرج رزمة أوراق مُجعَّدة.. نفخها من أثر الدقيق.
ــ عمَّك نويقص عنده كل شي.. نقدر نعطيك حتى شهادة وفاة.
ــ بعد عمر طويل إن شاء الله.
ــ نقدر نعطيك شهادة وفاة.. حتى وعمرك طويل.. صدِّقْني.. عندي نموذج يصلح لكل شي.. تفضَّل يا سِيدي.. يا مستعجل.. هذي شهاداتك.
ــ ختمتها بالمقلوب يا حاج.
ــ المُهم فيه ختم.
ــ الورقة عليها لطخة.
ــ لا.. بسيطة.. لحقها شويّة زَيْت بَسّ!
أدخل القلم في أُذنه.. أخذ يُحرِّكه مُغمضاً عينيه نصف إغماضة.. وأضاف:
ــ أَحّ.. أَحّ.. أَحّحح.. هذا أحسن.. الشهادات المزيَّتة أفضل من الشهادات الجافة.. الزيت يخلِّيها تمرّ بسرعة في الدوائر الحكومية!
وانفجر ضاحِكاً..
يبدو أنَّ الضحكة قد قصَّرت عن التعبير عمَّا يجيش في صدر المختار.. فَذَيّلها بصرخةٍ قصيرة.
في هذه الأثناء.. كان أحد الزبائن يبحث خلف الدرج عن شيءٍ يحمل فيه بضاعته.. ولمَّا لم يجد شيئاً.. حاول تفريغ بعض الأكياس.. ثم صاح رافعاً أحدها:
ــ أيش هذا يا حاج نويقص؟
حاول المختار انتزاع الكيس.
ــ هات.. خلِّيه عنَّك.
لكنَّ محتويات الكيس لم يكن في الوسع إخفاؤها.. فأخذوا يُخرجونها قطعةً قطعة.. (لباس مزخرف.. طربوش.. حذاء طويل برأس مُدبَّب.. وعصا رقيقة).
... وسط الدهشة الثانية.. اختفى المختار...
6
... ذات صباح قام الأستاذ رجب معلِّم الجغرافيا بجمع المدرسة كلها.. وزَّع على التلاميذ جوالات صغيرة (زغَابي).. جاعلاً كل واحدة منها على شكل طربوش.. في أعلاه بالون مُلوَّن منفوخ.. وعندما لبسوا الطرابيش.. وهم يتباهون كالديوك بالبالونات المُلوَّنة فوق رؤوسهم.. وضعَهم المعلِّم في طابورين طويلين متوازيين في الشارع العام.. وقال:
ــ نبِّي منكم كلمة واحدة.. بصوت عالي.. كلمة (واحد).. مهما قلت أنا.. قولوا وراي (واحد).. مفهوم؟ نبِّي صوت يزلزل الدنيا!
تحرَّك الطابوران.. طابوران من الشوالات.. يجوبان شوارع المدينة.. أخذ المعلِّم يصرخ مُلوِّحاً بقبضتيه في الهواء.. والتلاميذ يردِّدون خلفه بملء حناجرهم الطفولية:
ــ شعبٌ عربيٌ.
ــ واااااااحد.
ــ جيشٌ عربيٌ.
ــ واااااااحد.
ــ أُمة عربية.
ــ واااااااحد.
ــ لمَّا نقول (أُمة عربية). قولوا (واحدة) يا بهايِم.
ثم استمر يصرخ بشعارات معادية لكل شيء!
في اليوم التالي لم يحضر المعلِّم إلى المدرسة.. أمَّا تلاميذه فقد كدَّسوا الشوالات في المخزن.. واستمتعوا بفرقعة البالونات تحت أقدامهم.
7
... داخل مكتبه في دار البلدية.. كان الأستاذ رجب يجلس في كرسيه الدَّوّار.. قال يُحدِّث نفسه:
ــ هنا.. حيث الدفء.. وبهجة الألوان.. والرؤية من فوق.. ما حاجتي للتلاميذ.. قم يا ولد.. اجلسي يا بنت.. اسكت يا عيِّل.. يتسلل الطباشير إلى صدري.. وأُنفق العمر في الحديث عن كُروية الأرض!
أخذ يُقلِّب بين يديه لوحة بلاستيكية مقوسة.. من ذلك النوع الذي يوضع على المكاتب.. مكتوبة بخط زخرفي مُجسَّم.. أغمض عينيه.. وبدأ يُجرِّب قراءتها بطريقة (برايل):
ــ ع.. م.. ي.. د.. ا.. ل.. ب.. ل.. د.. ي.. ة.
أعاد اللوحة إلى مكانها.. أغلق الباب بالمفتاح.. ثم فتح دُرجاً في خزانة معدنية.. أخرج حقيبة جلديّة.. بدأ يضع المحتويات بعناية فوق الطاولة.. (لباس مزركش من قطعتين.. طربوش.. حذاء طويل ذو رأس مُدبب.. وعصا رقيقة.. ملساء لامعة).
خلع البذلة.. ارتدى تلك العدة بكاملها.. ثم وقف أمام المرآة المستطيلة بالقرب من المدخل.. تأمَّل نفسه.. أدار ظهره للمرآة.. ألْقى نظرة من فوق كتفه.. وابتسم.
أخذ يُجرِّب بعض الشخصيّات.. مَسَّ نفْسه بعصاه السحرية.. فقابَله في المرآة نقيب تُثقل النجوم اللامعة كتفيه.. وتُزيِّن صدره الأنواط والنياشين.
أخذ دورة كاملة..
ــ لا بأس.. يبدو طيَّاراً.. واضح.. لابِس (فلايت سُوت).
مَسَّ نفْسه مرَّة أخرى.. فواجهَهُ في المرآة رجل يرتدي بذلة زرقاء أنيقة.. برباط عنق.. قميص أبيض.. وحذاء أسود.
ــ هذا أيضاً لا بأس به.. يبدو دبلوماسيًّا.. وزيراً أو ما شابَه.
تطلَّع خلفه.. إلى الإطار الذهبي الذي يحوي صورة الجنرال.. بلحيته الكثَّة.. وصدره المرصَّع بالأوسمة.. والسيف البَرَّاق.. وعصا الشرف.. ثم شرع يضحك.. وقد أذهله الشبه الشديد بين عصاه.. وعصا الجنرال الرقيقة الملساء!
***
(1999)

08 أبريل، 2010

غِناء الصَّراصِيْر

1
... أحد الأصباح الصيفية.. استيقظنا على جلَبة في طرف قريتنا.. أصوات مختلطة بلغة غريبة.. نداءات.. وطرقات حادّة.
امتدت تلك الضجة إلى الليل.. ثم سكن كل شيء.. واحتلَّت نجوم لامعة وقمر أبيض سماءَ قريتنا.
في الصباح تطلَّعْنا ناحية الشرق.. هالَنا منظر السطوح اللامعة.. التي تبرق تحت الشعاعات الأولى.. فقد وُلِدت في ليلةٍ واحدة قرية بكاملها من الصفيح المُتموِّج.. ذات أسطح مُحدَّبة.. وأزقّة ضيقة.. يتحرك خلالها أُناس ذوو سِحَنٍ سمراء.. وشعورٍ طويلة.. وعمائم مُكوَّرة.. ورطانة غريبة.
منذ ذلك اليوم.. أخذت تلك القرية اسم (براريك الهنود).
2
... في الضحى.. كانت العجوز رابحة عائدة إلى حَوشها.. فوق رأسها قُفَّة مملوءة بالجَلّة لإحماء التنور.. تمشي ببطء.. تتلفَّت.. تنحني بين الحين والآخر لالتقاط الرَّوْث.
هي بلباسها المُعتاد.. رداء أحمر.. تُقطِّعه خطوط صفراء مُتصالبة.. شال أحمر داكن.. جورب مُخطَّط.. حذاء مطّاطي أسود.. وشمٌ غابر.. وتكْلِيلة.
قابلها مندوب الشركة:
ــ كيف حالك يا حاجَّة رابحة؟
تنهَّدت:
ــ الحمد لله.. نعمة ورغيد.. اليوم اللي نشري فيه البرذعة نبيع فيه الحمار.. واليوم اللي نشري فيه الحمار نبيع فيه البرذعة!
ــ يا حاجَّة رابحة.. الشركة الهندية تريد نظّافة.. تاخذي معاش.. وتقدري تجمعي بين الحمار والبرذعة.
لكن العجوز تقاعدت العام الفائت.. ومنذ ذلك الوقت بدأت تُحس بأنها أصبحت كَمَّاً مُهمَلاً.
عندما أفهمها المندوب بأنَّ هذه شركة أجنبية.. لا تهتم لحكاية التقاعد.. وما يهمُّها هو أن تجد نظّافة.. تهلَّل وجهها.. والأكثر من ذلك أحبَّت الهنود قبل أن تراهم! هي هكذا دائماً.. قلبها مُشرَع للاستجابات الفورية للحُبّ.. فعندما دخلت المستشفى ذات مرَّة.. وأخبروها أنَّ الطبيب القائم على معالجتها عراقي.. أحبَّت العراقيين.. دون حتى أن تعرف أنهم عرب! وحين علمت أنَّ الممرضة المُشرفة على تمريضها إيطالية.. أغمضت عينيها وفكَّرت: كيف يمكن للطليان أن يوفِّقوا بين حشر الناس في المُعتقَلات وشنقهم.. وبين إنجاب مثل هذه (السُّورَيْلاّ) الحَنون! ولكن رغم كل شيء.. فقد وجد الطليان مكاناً في قلبها إلى جانب العراقيين.
يبدو قلب العجوز فندقاً.. يحوي من الغُرَف ما يتسع للجميع.. على اختلاف أجناسهم.
الصرصار هو الكائن الوحيد الذي لم يجد مكاناً حتى في الأقبية الخلفية لهذا الفندق.. كانت تلاحقه دائماً بمكنستها الخشنة.. وتدهسه تحت حذائها المطّاطي وهي تَكزُّ على أسنانها.. حتى وصل الأمر إلى حَدِّ المُتعة!
قالت:
ــ الله يجبر بخاطرك.
دخلت.. الْتقطت مكنستها.. كوَّمت جَرْدها فوق رأسها.. وانطلقت إلى مَقَرِّ الشركة.
3
... أحد الهنود يُصرُّ دائماً على أنَّ برّاكته ليست في حاجةٍ إلى تنظيف.. فهو ـ كما يقول ـ يكنسها بنفسه مرتين في اليوم.. ورغم أنَّ كل ما يقوله في هذا الشأن لا يتعدَّى جُملتين.. إلاَّ أنه يبذل جهداً كبيراً مُستخدِماً كل جوارحه لإفهام العجوز.. حتى إنه يأخذ منها المكنسة ويقوم بالكنس.. ويرفع في وجهها إصبعين.. لكنَّ هذا الأمر.. بدل أن يُشعرها بالارتياح.. فإنه على العكس من ذلك.. استفزَّها.. وأصبحت معرفة السبب في منعها من كنس البرّاكة تصل إلى درجة الإغراء.
ومما بدا أكثر غرابةً للحاجَّة رابحة هو مظهر الرجل.. اللحية الكَثَّة.. الملامح الرجولية.. العمامة المُكوَّرة.. الشعر الطويل.. والأقراط الحمراء.. وبدت هذه التَّوليفة أمراً مُحيِّراً.. وغير مُستساغ.. إذ ما حاجة الرجل إلى الدنادين؟! لكنها على كل حال.. لا تقف عند ذلك طويلاً.. بل تتنهَّد.. وتهزُّ رأسها ـ كعادتها عندما تواجه أمراً غير مفهوم ـ ثُمَّ تُعمِل مكنستها الخشنة في أزقَّة البراريك.
4
... في كل مساء.. بعد أن ينتهي العمل.. ويعود العُمّال إلى براريكهم.. يبدأ الهندي طقوسه العِبادية:
يُنْزل الصُّرَّة المُعلَّقة في السقف.. يجثو في محرابه.. يُغمض عينيه ضامّاً كفَّيه إلى بعضهما.. ثُمَّ يفتح الصُّرَّة.. التي تحتوي على دقيق يشبه النُّخالة.. يحفِن حفنتين ويضعهما في صحنٍ عريض.. يسكب سائلاً أحمر.. ويعجن النُّخالة بأصابعه حتى تتشرَّب السائل.. وما إن تنتشر في البرّاكة الرائحة الحادَّة.. حتى تنبثق الصراصير من كل الزوايا.. تهبط من السقف.. تعتلي الصحن.. الذي يختفي تحت الكُتلة السوداء.. بينما يعود الهندي إلى وضعه الجاثي.. مُغمض العينين.. ضامّاً كفَّيه إلى بعضهما وهو يُحرِّك شفتيه بصلاةٍ ما.
ينتهي القُربان.. تنطلق الآلهة في غناء جماعي.. تمرح.. تتقافز.. تتسافد.. وتصعد فوق جسد الهندي.. لتُكمل تراتيلها الليلية.
أحد الآلهة المُبجَّلين صعد مع الذراع.. ارتاح قليلاً فوق الكتف.. تسلَّق العنق.. تحسَّس حلمة الأذن.. ثُمَّ استأنف مِعراجه إلى الجبين.. وهبط من بين الحاجبين حتى أرنبة الأنف.. رفع قرنيه.. حرَّكهما في كل الاتجاهات.. ثُمَّ انحدر قداستُه وبارك الشفتين آخِذاً طريقه إلى الأسفل.
... ويظلُّ الهندي في حالةٍ من الهُيام والوَجْد.. حتى منتصف الليل.. حين يعتري الآلهة التعب.. فتكفَّ عن الإنشاد.. وتخلد إلى الراحة.
5
... ذات صباح.. عندما انصرف الهنود إلى عملهم في بناء المدرسة.. تلفَّتت رابحة في كل الاتجاهات.. ثُمَّ فتحت باب البرّاكة بحذر.. صدمت أنفَها الرائحةُ الكريهة.. لم تتبيَّن شيئاً للوهلة الأولى.. أسندت المكنسة إلى الباب.. بحثت عن الزِّرّ.. وأشعلت المصباح.
شهقت.. ضربت بكفَّيها على خدَّيها.. فقد كانت الجدران والسقف مُغطَّاة بالصراصير السوداء.
ــ قال نكنس فيها مرتين في اليوم!
كزَّت على أسنانها.. الْتقطت المكنسة.. أخذت تُطيح بالصراصير.. تَسحلها تحت حذائها.
الآلهة في خطر.
الآلهة بين المكنسة والحذاء.
الآلهة في حاجةٍ إلى عَون أرضي!
استمرَّت تلك المذبحة إلى الضحى.
توقَّفت العجوز.. تمسح عرقها.. وتلتقط أنفاسها.
ظهر ظِلٌ في فتحة الباب.. الْتفتتْ.
كان الهندي واقفاً.. فاغراً فمه.. ينظر بعينين هلِعتين.
سقط على ركبتيه.. أخذ يشدُّ شعره الطويل.. فاضت دموعه.. بدأ يرتعش.. يصرخ.. يتلوَّى على الأرض.. وهو يحسُّ بخطيئة العابد الذي تأخَّر عن نجدة آلهته في الوقت المناسب.
سرت رجفة في جسد العجوز.. فخرجت مسرعة.
6
... في المساء.. اقتربتْ بوجَل.. طرقت باب البرّاكة.. انتظرتْ قليلاً.. عاودت الطَّرْق.. ثُمَّ دفعت الباب ببطء.
كان الهندي في محرابه.. جاثياً وسط جُثَث الصراصير المسحوقة.
رفع عينين حزينتين.. أخضلَهما الدمع.
أنزلت رابحة جَرْدَها المُكوَّم من فوق رأسها.. أخذت تفكُّ طَيّاته.. أخرجت صندوقـاً خشبياً صغيراً.. فتحتْه.. قلَبتْه.. وأخذت تَحُتُّه فوق الأرضية.. وفي فضاء البرّاكة انطلقت مئات الصراصير.
قفز الهندي.. ضَمَّ كفَّيه إلى بعضهما.. انحنى بقلبٍ مُفعَمٍ بعرفان الجميل.. وأخذ يلمس قدمي العجوز...
(1998)

07 أبريل، 2010

العُشّ

( ق )
... حقل الشعير بحر أصفر يتموج بوشوشةٍ تحت الريح الخفيفة.. آلة الحصاد الخضراء (جون دير) تقص مقطعاً عريضاً بطول الحقل.
( ب )
... عش القبرة مُموّه بعناية تحت السنابل الصفراء.. مغزول بالقَش.. مُؤثث بالريش.. مسكون بالدفء.. أربعة عصافير في لون التبن.. تفتح مناقيرها لكل زقزقة أو رَفّة جناح.
( ر )
... الإطاران الأماميان لآلة الحصاد عريضان.. مضلّعان.. المنجل الدوّار يلوي أعناق السنابل.. يلفّها.. السكين الحاد المتذبذب يجزّ رؤوسها.. تاركاً خلفه درباً من التبن.. آله الكبس تغرف خط التبن المكوّم.
( ة )
... القبرة الأم ترفرف صائحة بفجيعة فوق العش.. نظرة إلى الأسفل.. ونظرة إلى الحاصِدة.. المناقير الأربعة مفتوحة إلى السماء.. آلة الحصاد تتبعها آلة الكبس تقطرها آلة الحرث.. يضيع صراخ القبرة تحت ضجيج المحركات والدخان الأسود.. الآلات تتقدم.. كُتل من التروس والأشياء القاطعة.. مخالب وأنياب.. أشياء تجزّ.. تقضم.. تلتهم.. تبتلع.. تسحق.. تدوس.. تهشم.. تدهس.. تهرس.. تسحل.. تكبس.. تُقولِب...
(2001)

03 أبريل، 2010

الضَّمَّة

1
... في عِز القيلولة تفزعه طرقات عنيفة على الباب..
ــ يا أستاذ حِلّ.. أفتح أفتح.. الله يفتح عليك.
يقفز حافياً.. يُحسّ بلذة بَرد البلاط فيتمهل قليلاً.
ــ افتح يا أستاذ.. حِلّ.
يُدير المفتاح فيدفعون الباب في وجهه..
ــ خير؟ من اللي مات؟
ــ أيّ مات؟ فال الله ولا فالَك.. راقِد؟! هذا وقت نَوم؟ ما تَشبع من النوم كيف القطاطيس!
يقول بشيء من العصبيّة:
ــ خير.. أيش فيه؟
ــ فيه كل خير.. يا سِيْدي قالوا آمر الْمنطقة يريد يمرّ علينا في العشيّة مرور الكِرام.. مستعجل.. الله يرحم اللي قَرّاك.. تَكتك له برقيّة تأييد.. يسمع خبرها اللي ما نظَرها.. عَجّلْ.. الراجل في الطريق.
2
... يجلسون على الصالون.. يُحضرون منافِض السجائر.. يدخل أحدهم إلى المطبخ لإعداد الشاي..
ــ يا أستاذ.. أنت اهتم بالبرقية بَسّ.. وَين السكّر؟
3
... يدخل حجرته.. يجلس أمام شاشة الحاسوب.. يتّكئ بمرفقيه على حافة الطاولة.. يضع رأسه بين كفّيه.. يُمَرِّر أصابعه داخل شَعره وهو يتأمّل لوحة المفاتيح.. ويحاول أن يعرف الفَرق بين مرور الكِرام ومرور الجنرالات.. ثم يقول:
ــ صيغة البَرقيات تكاد تكون واحدة.. سأحاول أن أكتب شيئاً مختلِفاً.. فالبرقية تظلّ نَصاً على كل حال.
4
... في المساء يصطف أهل القرية بِمحاذاة الطريق ترقّباً لآمر المنطقة.. ينظرون إلى ساعاتِهم.. وإلى امتداد الطريق الذي تبتلع نهايتَه الغابة.. يتطوع أحدهم لقراءة البرقية.. ينظر إليها ويتمتِم.. ثم يسحَب أحد الواقفين بجانبه.. يجرّب عليه نَبرة الصوت التي سيستخدمها في قراءة البرقية.
5
... يقتحمهم الرتل فجأة من طريقٍ فرعيٍّ آخر.. يتوقف.. تُحدث الإطارات صريراً حادًّا على الإسفلت.. يلَوّح الجنرال بيده.. يأمر الرتل بالتحرك..
ــ فيه برقية يا سَيّدي.
ــ بارك الله فيكم.. أنا مستعجل.. هاتوا البَرقية.
يتوارَى الرتل في الْمنعطَف مُخلّفاً خيبة أمل كبيرة على الوجوه.. فالبرقيات الْمقروءة بصوت احتفالِي.. يتخللها التصفيق والهتاف.. لها وَقع خاص.
6
... قُبَيل الفجر تُفزعه طرقات عنيفة على الباب..
ــ أفتح يا حيوان!
يجلس العساكر على الصالون بأحذيتهم.. يقول النقيب ـ وهو يضع عَصا الشرف تحت إبطه ـ:
ــ أنت الحيوان كاتب البرقية؟ يا بهِيم.. فيه واحد يقول للجنرال: (أنت القَمع الذي يجمع شتات الأمة).
ــ لا يا فندي.. والله فيه ضمة على القاف.. القُمْع.. والقُمْع هو المحقن.
ــ ما علاقة المحقن بالجنرال يا حمار؟!
ــ يا فندي بدون المحقن يحدث إهدار للمُقدّرات.. مثلاً.. أنت لا تستطيع أن تسكب الماء في البرميل إلا عن طريق القُمْع ـ بضَمّ القاف ـ هذا اسمه في الفصحى.. وكذلك الحليب في الشكوة.. كل السوائل لا يمكن أن تُسكَب في الأواني الضيقة إلا عن طريق القُمْع ـ بضَمّ القاف ـ أقسم لَك بالله فيه ضَمة.. حتى الْمَحشي ـ يا فندي ـ لا يدخل المصارين إلا عن طريق القُمْع.. شفت أهمية القُمْع؟!
ــ أيّ مَحشي وأيّ مصارين؟ تضحك علَيّ؟
ــ لا يا فندي هذا تشبيه.. هَذي بلاغة..
ــ تَوّا نورّيك البلاغة.. أَطرحوه.
يطرحونه على البلاط..يفكون أحزمتهم.. يستعملون أعقاب بنادقهم.. وأحذيتهم.. وعلى الرغم من زحمة الأدوات.. إلا أن عصا الشرف تَجد لها مكاناً أيضاً!
7
...في غرفة العناية الْمركزة تقول له الْممرضة:
ــ نفتح لَك الروشن يا أستاذ؟
يصرخ بفزَع:
ــ لا..لا .. بلاش الفَتح.. ضمِّي.. ضمِّي الروشن والبطاطين والفراش.. ضمِّي كلّ شي.
يتكور على نفسه.. يضمّ رُكبتَيه إلى صدره.. يضمّ كَفيه إلى بعضهما.. يَهذي:
ــ ضمُّوا.. ضمُّوا كلّ شي.. ضمُّوا.. ضمُّوا.. ضمُّوا..
***
(2006)