09 مايو، 2009

جَلْد القارئ

القصة القصيرة ليست ضيقة كما قد يوحي اسمها.. والضيق والاتساع ليس في المساحة فقط.. بل في المحتوى أيضاً.. قطعة أرض جبلية محدودة بها آلاف النباتات والكائنات الحية وتشكيلات الصخور.. هي أكثر اتساعاً وغِنىً من امتداد شاسع لا يحوي سوى الحصى أو الرمل.. قد يصلح هذا مثالاً على الفرق بين التكثيف والإسهاب.
فمن التكثيف اختيار الشخصية كنموذج عام.. يُعبِّر عن شريحة كاملة من المجتمع.. أو حتى الإنسان أينما وُجِد.. ومن هنا يبدو الإغراق في وصف هذه الشخصية نوعاً من الإسهاب الذي لا طائل من ورائه سوى إثقال النّصّ وجَلْد القارئ.
ومن هذا المنطلق فإنني أُحاول تقديم نماذج.. ومن ثَمَّ لا يهمني أن تكون الشخصية ذات ملامح محددة.. عندما أُقدِّم شخصية الإمام مثلاً.. لا تَهمّني ملامحه.. بقدر ما يهمّني كنموذج للسُّلطة الدينية.. كذلك كل النماذج الأخرى في المجتمع.. بماذا يمكن أن أُفيد القارئ إذا وصفتُ المومس بأنها جميلة؟ لتكن قبيحة.. فهذا لا أهمية له.
ثم إنَّ فَنّ القَصّ بصفة عامة ـ رواية وقصة ـ قد أَسَّس لشخصيات وأمكنة مشترَكة بين كل الشعوب تقريباً.. فمثلاً بالنسبة للمكان.. كان القصّاصون الأوائل عندما يتحدثون عن المقهى يضطرون إلى وصف تفاصيل المكان من طاولات وكراسي ونادل.. وغير ذلك من معالم المقهى.. لأنَّ هذا المكان لم يتأسس بعد في ذهن المتلقِّي.. أمّا اليوم فلسنا في حاجة إلى ذِكْر هذه التفاصيل وقد تأسست.. فيكفي أن نقول (مقهى).. دون الخوض في التفاصيل.. لأنَّ ذلك سيُعَد تكراراً زائداً.. وكذلك بالنسبة للشخصيات.. لسنا في حاجة إلى وصف الشرطي.. أو الإمام.. أو القسّ.. أو المومس.. أو حتى الفقير.. خاصة في القصة القصيرة.. لأنَّ الوصف في هذه الحالة لن يُقدِّم جديداً.. بل ربما لن يرتقي إلى الصورة المتأسِّسة الراسخة في ذهن القارئ.
وأنا لا أُحب القصص التي تُدقِّق في أوصاف الشخصية.. كالطول والقصر واللون والملابس وتشكيل الجسد.. فتبدو أشبه بتقارير الْمُخبِرين! بعض الأحداث مُجرَّد إثقال للنَّصّ.. (حيث تكون الأحداث قليلة.. تَبْقَى في الذاكرة طويلاً) كما قال تشيكوف.
والقصة القصيرة ليست كيساً منفوخاً تضع فيه أي شيء كما قيل ذات يوم عن الرواية.. في القصة القصيرة عليك أن تقاوم إغراء الكتابة.. فالمساحة لا تسمح بالتمادي.. على عكس الرواية.. فهي تُرضي إغراء الكتابة.. لكنّ هذا الإغراء يظل خطراً على أي نوع من أنواع الكتابة.
لا أُمهِّد للشخصية.. فالقصة القصيرة لا تحتمل ذلك.. لا أُحِبّ أن أُقدِّم الشخصية جاهزة.. كصورة فوتوغرافية داخل إطار.. إنني لا أقول عن بطل القصة مثلاً (كان قلقاً) بهذا الشكل الجاهز.. بل أدع القارئ يفهم ذلك من خلال سلوكيات البطل.. إيْماءة بسيطة قد تكون كافية لوصف حالة نفسيّة.. يقول الكاتب الياباني جيكاماتسو: (عندما يقول أحدهم عن شيء حزين: إنه حزين.. فإنه يُضيّع متضمنات حالة الحزن.. وسيكون حتى انطباع الحزن ضئيلاً في هذه الحالة.. من الضروري أن يجعل المرء الحزين حزيناً بذاته.. لا أن يقول عنه: إنه حزين).
كانت الروائية (ناتالي ساروت) لا تضع أسماء لشخصيات رواياتها في كثير من الأحيان.. بل تشير بالضمائر: هو.. هي.. هم.. نحن... بينما نجد بعض الكُتّاب يصلون في تسمية الشخصية إلى الاسم الثلاثي!!!
إنني أُحاول جاهداً ألاّ أعتدي على منطقة القارئ.. لكن ذلك ليس بالسهولة الْمُتصوَّرة.. إنني أحاول كذلك ألاّ أَجْلِد القارئ بحجّة الاهتمام بالتفاصيل.. و(كثرة الكلام تحجب المعنى).. فالكوبيّون كانوا يقولون (إنّ كاسترو إذا أراد أن يقول شيئاً يتحدث ست ساعات كي لا يقول شيئاً!!).. فجَلْد القارئ أو المستمع يُمثِّل نوعاً من الساديّة.
***

06 مايو، 2009

الدِّهْلِيْز

1
... يجب أن آخذ نفَساً.. إنَّنِي ألْهَث.. منذ الصباح وأنا أحفر.. أيّ صباح؟ كائن مثلي يستوي عنده الصباح والمساء.. يُسَمُّونَنِي (بُوعَمايا).. عينا الأعمى تنظران إلى الداخل.. الظُّلْمة مُجَرَّد قصورٍ في الرؤية.. لا إحساس بالزمن إلاّ من خلال دفء الشمس.. أو بَرْد الليل.. أو حركة العالَم الفوقي وهم يدوسوننا.. على الرغم من أنَّهم يَمتلكون عيوناً.. إنّهم يُثقِلون الأرض.. ثقل الكائن الذي لا يُحْتَمَل.. هل هذا هو قَدَرُنا؟ نفترش التراب ونلتحفه ونتوسَّده أيضاً.. الْحَفْر.. الْحَفْر.. ولا شيء غيْر الْحَفْر.. لو تحوَّل الْحَفْر إلى حَدَثٍ أولِمبِي لَحَصلتُ على ميدالية الْحَفّار الأَوَّل!
2
... لا أعترف بأيّة حدود.. أحفر في أيّ اتِّجاه يروق لِي.. أُكَوِّم التراب في كُدْوَة فوق الأرض.. لأُعلن عن وجودي.. لأقول بأنَّنِي أكثر الْتصاقاً بالتراب.. بالطِّينة الأولى.. في بعض الأحيان أجد جذراً فأقضم منه وأمضي.. أو تعترضنِي صخرة فأدور حولها.. أمّا قواعد الإسمنت فهي ألعن ما يعترض طريقي.. تستعصي على مخالبِي وأسنانِي.. فأحفر إلى الأسفل.. أهبط.. أنحدر.. البشر يُقيّدون بيوتَهم بالأرض.. يربطونَها.. ينسون أنَّهم سيدخلون نفَقاً مُظلِماً كنَفَقي.. دروبِي مُتعرِّجة.. أسيْر على غَيْر هُدَى.. لا أملك خارطة.. لكنَّنِي لا أخطئ رائحة الأنثى ولو كان بينِي وبينها جبل.
3
... طال هذا السرداب وتعرَّج.. في كُلّ يوم أحفر نفَقاً جديداً.. حتَّى إنَّنِي لا أستطيع العودة في هذه المتاهة إلى نقطة البداية.. يبدو الحفر في كثير من الأحيان حاجة في ذاته.. أُحِسّ بقوّة خفيّة تدفعني إلى التوغُّل.. جائع إلى شيءٍ ما.. لا أعرفه على وجه التحديد.. حياتي كُلّها مُجرَّد بحث.. لكن بَحْث عن ماذا؟ أحفر فراغاً لا ينتهي.. فراغاً يَمتدّ خلفي كُلَّما أوغلت.. كائن مثلي لا يُتقِن شيئاً سوى السير في دروب ملتوية ينحتها بأظافره.. وصفي بأنني أعمى ليس دقيقاً.. فأنا لا أمتلك عينين أصلاً.. أنا أنف وأسنان قاطعة ومخالب مُدبَّبة.. آلة مُعَدَّة للحفر.. النفَق الأهمّ لَم أحفره بَعْد.. أحياناً أتساءَل: ماذا يتوجَّب علَيَّ أن أفعل؟ يَبْرق هذا السؤال في ذهنِي إلى درجة أنَّني أتوقَّف عن الحفر.. عملي محفوف بالمخاطر.. قد أدخل فجأة جُحْرَ الأفعى.. أو تنبش ملاجئي الثعالب.. أحياناً تندلق عليّ قاذورات الإنسان.. أمرٌ مُحَيِّر أن نكتشف بعد كلّ هذا العناء أنَّ ملاذاتنا غير آمنة.
4
ماذا يفعل مخلوق لا يَمْلك سوى أظافر موحِلة؟ وحاسّة شَمّ في دهالِيْز ملوَّثة؟ ما الغاية من وجود كائن أعمى لا يملك سوى الانزواء تحت الأرض؟ ألا تكفينِي ظُلمة العَمَى؟! في بعض الأحيان أُفَكِّر في فتح كُوَّة نحو السماء.. ليتني أقدر أن أحفر نَفَقاً إلى الأعلى.. عيب السماء أنها بعيدة أكثر مما ينبغي.. لا أستطيع لَمْسها بأظافري.. حتَّى إننِي لا أتمكن من شَمِّها.. تُرَى ما رائحة السماء؟
5
بدأتُ أشمُّ رائحة الأنثى من خلال مسامّ التراب.. أين أنتِ أيَّتها الْمَوؤُدة.. نحن الأحياء الْمَقبورون.. ليحفِرْ كُلٌّ مِنّا من جهته.. لا لقاء بغير حَفْر.. احفري قبل أن يهطل المطر فيعيقنا الوحل.. ما بَيْن غَيْمَتَيْنِ وقتٌ مُستقْطَعٌ للصَّحو.
6
... ما هذا البَلَل؟ لَم يعُد ينقصنِي سوى المطر.. الآن سأغرق في الوحل.. لكن لا بأس.. من إيجابيّات المطر أنّه يُسَهِّل الْحَفْر.. إذا أقبل الشتاء.. لم يكن الربيع بعيداً.. أين أنتِ؟ أسمعكِ.. أسمعكِ.. أسمع مخالبَك.. لا تتَّجهِي يَمِيناً.. إلى اليسار قليلاً.. أمامك مباشرة.. أشمُّكِ.. الوحل يتحرَّك.. أنا أحفر أيضاً.. وأرتعش.. أنا الذَّكَر الوحيد الذي يشقّ الأرض بأظافره من أجل أُنثاه.
7
... أخيْراً! طال انتظاري لهذه اللحظة الْمَحْمومة.. أستبشِرُ بالمطر في هذه الصحراء الْمُظلِمة.. يُبَلِّل روحي.. أنتشي برائحة الثَّرَى.. تعالي نقِيْم عرسنا في الظلمة.. نَهاراتنا بغَيْر شَمْس.. زمَننا بلا فواصل.. عُزلتنا أبديّة.. نفَقنا ضيِّق.. مُتعرِّج.. مُعْتِم.. مُجرَّد ثُقْب أسود.. لكنَّ أرواحنا تُضيئه.. كنتُ على يقِيْن من وجودكِ في آخر النَّفَق.. أنتِ أيضاً مقرورة وترتعشيْن.. نحن الآن نتمرَّغ فوق سريرٍ من الوحل.. مَن قال بأنَّ الرومانسيّة قد ماتت؟ أستطيع أن أقول بأننا الآن نَلْمس السماء.
***
(2006)

05 مايو، 2009

الذاكرة والرائحة

حتى الآن ـ وبعد خمسين عاماً تقريباً ـ يُمكنني أن أتذكّر الأشياء في طفولتِي بالرائحة.. فلماذا الرائحة بالذات؟
حين أشمّ رائحة الشيح أتذكّر حادثة قبل أن أدخل المدرسة.. حيث وضع راعي أغنامنا ـ وهو من أولاد علي ـ الشيح في الشاي.. ونحن ليس من عادتنا أن نفعل ذلك.. بل نضع الزعتر والحندقوقة وأعشاباً أخرى.. حادثة بسيطة وعابرة.. لكنّ ذهنِي يستدعيها بِمجرّد أن أشمّ الشيح.
حين أشمّ رائحة الخروب أتذكر انّنِي وقعت من شجرة خروب تنمو في بئْر خربة.. ارتقيت الشجرة من أجل قرون الخروب.. انقصف غصن الخروبة فسقطت.. ثُم سقطت مرّة أخرى في البئر الخربة.. فقدتُ وعيي.. ولَم أفق إلاّ في البيت وهم يسقونني عسلاً.
حين ينزل المطر لأوّل مرّة في الخريف.. وأشمّ رائحة الثرَى.. أتذكر أنّ السيل اجتاح بيتنا ذات ليلة.. هربنا في آخر لحظة إلى مكان مرتفع.. وأخذ السيل بعض أغنامنا.
يُمكنني أن أسرد عشرات الحوادث المتعلّقة بالرائحة.. فكل شيء كانت له رائحة.. وكانت حاسة الشّم قويّة.. حيث إننا لَم نتلوّث بعد.
نقول في تعابيرنا: (يا خالتِي عليك بَنّة أمّي).. وحين نذم شخصاً نقول: (لا بَنّة لا صَنّة).. فمن لا رائحة له مشكوك في وجوده أصلاً.. وفي عالَم الحيوان تلعب الرائحة دوراً فاعلاً في تحديد الشريك أو العدو.. فالرائحة جزء من الهويّة.. إنّها (الكود).. وجواز المرور في كثير من الأحيان.
حين تنفر النعجة ولَدها.. أو يريدون منها أن تُرضع خروفاً آخر مع ولدها.. يقومون بتغيير الرائحة.. بأن يرشّوا عليهما ملحاً مذاباً في الماء حتى تتوحّد رائحتهما.. وإلاّ فمن المستحيل أن تتقبل النعجة الأم رائحةً غير رائحة ولدها.
(الشَّمّ هو حاسة الذاكرة) كما يقول مارسيل بروست.. ويعقوب ـ عليه السلام ـ قال: (إنّي لأجد ريح يوسف).. لا يزال يحتفظ برائحة ابنه بعد غياب أربعين عاماً!
***

03 مايو، 2009

هُموم الجحْشِ الأَشْهَب

1
... في ذلك المساء كان كل شيء يبعث على الكآبة.
بدأ العجاج يَعْصِف.. وفي السماء غيوم خريفية تسفعها الريح.. شمس مُحتجبة.. وبُومٌ ينعب في الخلوات.
الجحش الأشهب يُهدِّل أذنيه.. يُجرجر أرجله تحت ثقل أربعة براميل.. كان ساخطاً على كل شيء.. حتى على نفسه.. وهو مُستغرِقٌ في تفكير عميق:
ــ يحملون فوقك البراميل.. لا يكتفون بذلك.. بل يركبون هم أيضاً.. وإذا أبطأتَ.. ينخسونك في كتفيك حتى يسيل منها الدم الأسود.. أو يسوطونك على جانبيك.
انتبه على مشارف القرية.. أحسَّ بالارتياح.. فرفع عقيرته بنهيق احتفالي ممطوط.. وهو يفعل ذلك أيضاً عندما يلوح خيال الحمارة.. أو حتى يشم رائحتها عن بُعْد.. وأحياناً كثيرة ينهق بدافع الملل.
تلقَّى ضربةً بين أذنيه قبل أن يُكمل نهقته.. ترنَّح.. أحسَّ بالألم.. وبارتجاجات الضربة تسري في كل جسده.. ثُمَّ استعاد توازنه..
ــ يا للفظاعة.. إننا لا نملك حتى حقّ النهيق.. لكن لا بأس.. تقول حكمة الحمير: (اصْبِرْ.. فإمّا أن ينتهي الطريق.. أو يموت الحمار).. صبر الحمير إحدى الفضائل المُخيفة!
2
... في الخريف كانت عناقيد الخرُّوب الخضراء على موعدٍ مع السواد.. والحلاوة.. فاحت رائحتها عبر انعطافات الأودية.. ومسارب الغابة.
... كان الجحش ـ كعادته ـ مُستغرِقاً في هموم الرحلة:
ــ حَشُّ الخرُّوب على كل حال أفضل من جلب الماء.. وأهون من الحصاد وحمل الشوالات والغرائر.. فتحتَ الخرُّوبة يُمكنك أن تلوك بعض القرون الحلوة.. التي تسقط هنا وهناك.. ويبقى مذاقها في فمك إلى العام القادم.
تعثَّر بحجر.. فقال مُتألِّماً:
ــ هذه ثاني مرَّة أتعثَّر بهذا الحجر اللعين.. سيقولون تعثَّر به مرتين لأنه حمار! مع أنه من الممكن للواحد أن يتعثَّر بالحجر عشر مرات.
صمت قليلاً.. ثُمَّ استدرك:
ــ لكن.. على كل حال.. يقولون: (إنه لأمرٌ مُخجِل التعثُّر مرتين بالحجَر نفسه).
توقَّف وبال.. وعندما أبطأ تلقَّى سوطين على جنبه الأيمن..
ــ فليضربوا حتى مائة سوط.. الواحد إذا شرع في البول لا يمكنه التوقُّف حتى ينتهي.
نظر إلى أسفل بطنه وأضاف:
ــ انظر إلى عنوان ذكورتك.. لا أحد على وجه الأرض يملك مثل هذا الشيء.. يجب أن يكون في هذا نوع من العزاء.. بل يجب أن يكون مبعث فخر.. هناك دائماً نوع من التعويض.. فالواحد لا بُدَّ أن يجد شيئاً ما يزهو به في نهاية المطاف.
3
... اشتعلت جمرات الظهيرة.. لبست الأشياءُ ظِلَّها.
باعد الجحش الأشهب بين أرجله.. طأطأ قليلاً.. وبدأ يحكُّ ظهره بأسنانه.. ثُمَّ وضع أنفه في التراب وتمرَّغ.
بعد أن انتهى من طقوس القيلولة.. بدأ يحلم بأنه حمارٌ مُجنَّح!
ــ كم هو رائع أن أنتمي إلى الطبقة الطائرة.. من التراب إلى السماء.. من المَرَاغَة إلى الآفاق الرحبة.. وساعتها يُمكنني أن أعتلي أيَّة حمارة أريد.. بل أستطيع حتى اعتلاء الفرس.. يا إلهي لماذا لم تخلق الحمير بأجنحة؟! لا تقل لي بأنك لست قادراً على ذلك.. سبحانك.. لا يُعجزك شيء.. هكذا سيسمُّونني (الحمار الطائر).. أو ربَّما (الحمار المُجنَّح).. وستكون هذه (آخر نَهقة) في عالم الحمير.. كم هو مُدهش أن تمتلئ السماء بأسراب الحمير المُرفرفة.. وتتقطَّع أعناق الخيل وهي تنظر إلينا من الأسفل!
صهل الحصان.. فأفاق الجحش من حلمه.. نخر مُثيراً الغبار.. ثُمَّ قال وهو ينظر إلى الجواد:
ــ يا للإجحاف.. يغسلونه.. يُبدِّلون له مربطه.. يضعونه في الإسطبل.. بعيداً عن صهد الشمس.. ولَفْح البرد.. يُزيِّنون أرجله بالحدوة.. ويُعلِّقون في رقبته مخلاةً مُزخرفة مليئة بالشعير.. وماذا يفعل مقابل ذلك؟ لا شيء سوى الصهيل والرَّوث!
نفض أذنيه الطويلتين فأحدثتا فرقعة.. واستأنف:
ــ يقول أحد أمثال الحمير: (يموت الحمار وشَوقه في المخلاة).. هذا صحيح للأسف.. حمير كثيرة تموت وشوقها في المخالي.
4
... الجحش يُحدِّث نفسه.. وهو ينوء تحت حزمة الحطب:
ــ هذا اليوم ليس ككل الأيام.. فهو أكثرها سوءاً على الإطلاق.. فليس هناك ما هو أسوأ من جلب الحطب.. حيث تنغرز في جنبيك الأعواد الناتئة.. وتنحدر وتصعد عبر الأودية والسفوح الوعرة.. ويَحيدون بك عن الطريق.. فأنا لا أُحسِن السير في الدروب غير المطروقة.
يسير مطأطئ الرأس.. يشمُّ قَشَّ الشِّعاب.. يُثير الغبار بحوافره.. ويُسلِّي نفسه باجترار بعض الأفكار:
ــ لا أدري لماذا يعتقدون أننا بلا ماضٍ.. هذا ليس صحيحاً.. أعرف إحدى أساطير الحمير تقول بأنَّ الحمار هو آخر من ركب في سفينة نوح.. وقد كان الشيطان مُتعلِّقاً بذيله.. فرفض نوح أن يحمله في سفينته ما لم يتخلَّص من الشيطان.
نهق الحمار.. ارتفع في الهواء.. ورفس الشيطان بقائمتيه الخلفيتين.. ولكن.. هل يُمكن رفس الشيطان حقًّا؟! كان الأمر مُضحِكاً.. فالرفسات كانت تذهب سُدىً في الفراغ.. وأحسَّ الحمار بأنَّ قِواه قد خارت.. فتهالك.. وبدأت السفينة تتحرَّك.. والدنيا على وشك أن تغرق.. فصرخ نوح طالباً منه الصعود حتى بالشيطان.. يا لها من مفارقة.. ننقذ الشيطان.. ونعجز عن إنقاذ أنفسنا!
شعر بوخز الأعواد في خاصرته وهو يصعد من مجرى السيل.. وبدأت النعْرَة تلسعه في سيقانه من الداخل.. تصبَّب العرق من جانبيه وانحدر إلى أرجله.. تهدَّلت أذناه.. أخذت أنفاسه تتلاحق.. حاول التوقّف.. لكنه أدرك أنَّ هذا سيزيد الأمر سوءاً.. فتحامل على نفسه وواصل الصعود.
رفع رأسه.. حافَّة الوادي لا تزال بعيدة.. وتعرُّجات الطريق الصاعد تُضاعف المسافة.. انغرزت الأعواد في خاصرته.. انبثقت دماء لزجة.. أحسَّ بجريانها فوق ساقيه.. مما أثار النعْرَة فاشتدَّت لدغاتها.
كان يريد أن ينهق طالباً النجدة من أحدٍ ما.. حتى من الشيطان.. صحيح.. الشيطان مَدين له.. يجب أن يردَّ له الجميل.. لكنَّه لم ينهق.. فليست لديه الأنفاس الكافية لذلك.. ثُمَّ هو يُدرك أنَّ بطنه ستنتفخ.. وستخترق جلده كل الأعواد الناتئة في حزمة الحطب.. وهذه الحشرة اللعينة بدأت تقرصه في أماكن حسّاسة.
... فوق حافَّة الجُرف.. ينعطف الطريق بشكلٍ حادٍّ إلى اليمين.. بعد ثلاث خطوات على الأكثر.
نظر إلى الهاوية السحيقة.. وإلى الصخور المُسنَّنة.. والجذوع المُدبَّبة.. وتذكَّر في تلك اللحظة حلمه المُجنَّح.. فأغمض عينيه.. وأخذ يسير بشكلٍ مستقيم...
(1998)