25 نوفمبر، 2009

دَرْبُ الحلازين

(إلى الصديق: محمد عطيّة محمود)

... في الصباحات الباكرة يوقظني غراب يَمرّ صائحاً من فوق البيت مباشرة.. أنا مَدِين لهذا المُنبِّه الحَيّ.

أتوجّه إلى عملي في المدينة.. أسير خارج قريتي مع الطريق الإسفلتي الذي يصل الطريق الرئيس.. طُرُق الصباح لا تخلو من رفقة.. رفيقي يُدخِّن.. ويدوس الحلازين الملونة..

ــ انتبه.. لقد دستَ حلزوناً.

يضحك:

ــ اسم جميل لمخلوق لزج!

ــ انظر.. هذا حلزون ملون لايزال في طور تكوين الصَدَفة.. إنه لا يحتمل أي لمس.. فالصَدَفة لاتزال هشة.

ــ العالم يتحدث عن حقوق الإنسان.. وأنت تبكي على (البوزويّة)!

ــ يا مولانا.. الحلازين كائنات وادعة.. غير مؤذية.. لا تلسع.. لا تعضّ.. رطبة.. هشّة.. لا صوت لها.. خطواتها صامتة.. وهي فوق ذلك ثنائية الجنس.. ذكر وأنثى في نفس الآن.. فإذا قتلتَ حلزوناً فأنت تقترف جريمة مزدوجة!

ــ هل سترفع فِيّ قضية باسم الحلازين؟!

ــ أرجوك.. كُفّ عن السخرية.. انتبه لخطواتك.. ولا بأس بعد ذلك أن تتحدث عن حقوق الإنسان.. والبنية التحتية.. وانقطاع الكهرباء اليومي.. وغلاء البنزين.. والكلاسيكو بين برشلونة وريال مدريد.. فقط أتوسَّل إليك ـ إذا كنت تريدنا أن نسير معاً ـ لا تدهس الحلازين.. لستُ أدري لماذا لا ينظر الناس تحت أقدامهم؟!

تَمرّ سيارة مسرعة.. تقرمش قواقع الحلازين تحت إطاراتها.. تتلاقى أعيننا.. لا أدري إن كان رفيقي يشمت بي.. يقول:

ــ لعله من الأفضل أن تضع لافتة في منطقة عبور الحلازين.. لافتة كبيرة عليها صورة حلزون ملوّن.

ــ ها أنت تسخر من جديد.. حتى لو فعلنا فلن ينظر إليها أحد. أنهم دائماً مستعجلون.. ينبغي أن يكون ظهور الحلازين عقب مطر الخريف عيداً!

ــ على كل حال هو طريق للسيارات وليس للحلازين.

ــ الحلزون قبل السيارة.

أنظرُ إلى الغربان تنغمس في الضباب.. تصعد مرة أخرى بأجنحة لامعة.. الحلازين بصدفاتها المخططة بالأحمر تنزلق بنعومة فوق العشب النديّ الذي يؤطر الطريق.

نلتفت فجأة على صرير الإطارات..

ــ اركبوا.

ــ كدتَ تدهس الحلزون.

ــ هل تعتقد أنني أعمى؟ وضعته بين العَجَلات.

... ألتقط الحلزون.. أضعه خارج الطريق.. أتساءل: لماذا يزحف بعضهم بينما يتشقلب الآخرون فوق الريح؟

تبتعد السيارة.. أحاول مراقبة الطريق من خلال غبش البخار.. يقول السائق وهو يمسح الزجاج من الداخل بظهر يده:

ــ الحلازين اسم جميل لكائنات لزجة.

***

(2009)

21 نوفمبر، 2009

تأبِيْن

ــ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. يا أستاذ (حَمَد).. كلمة تأبين لو سمحت.. بصفتك أعرف الناس بالمرحوم.. بينك وبينه عِشرة عمر.. الرجل له مقام في المجتمع.. زَوِّق لنا كلمتين.
يمسح الأستاذ (حَمَد) دموعه بطرف كُمّه.. ينشق نشقتَين:
ــ الأدوية تسعة.. والأمراض عشرة.. الموت لا دواء له.. ولأنني كنت مُقرَّباً من المغفور له.. فإنني في هذه العُجالة سأُلخِّص سيرته الناصعة.
يظهر الارتياح على وجوه الحضور لسماع كلمة (سأُلخِّص).. وتصدر همهمة.. فقد تعوّدوا أن (حَمَد) حين يتدفَّق في الكلام لا يُمكن إسكاته.. من ذلك النوع الذي تُعطية عَنْزاً من أجل أن يتكلَّم.. وتُضطر في نهاية الأمر لإعطائه جَمَلاً من أجل أن يسكت.. يتنحنح (حَمَد):
ــ رحمه الله.. كان رجلاً عصاميًّا.. يرَقِّع ثَوبَه بسرواله! بشوشاً.. يضحك للريح.. طيّباً.. يأكل عشاه القطوس.. أَرْنَب الله في حماية الله! وفجأة.. تزغرد له الملائكة.. تنفتح له الدنيا مثل ذيل طاووس.. بَخْت في السّحاب وعَقل في التّراب.. فيصبح مثل الطفل الذي بدأ الزحف لتوّه.. يسيل لعابه.. ما تطاله يداه يضعه في فمه.. وهل نلومه على ذلك؟ الدنيا حلوة.
يبلع (حَمَد) ريقه:
ــ الله يغفر له.. عينه فارغة.. لكن شاطر.. لا يفُوته فايت ولا عَيْش بايت.. هو من أولئك السادة الذين نقول عنهم (في جيوبهم عقارِب).. وهي نَغمة تتردد دائماً عن أنّ أغنياءنا لا يعرفون التبَرّع للأعمال الخيريّة.. ولكن للإنصاف فقد تبَرّع المرحوم ذات يوم أمام هذا الجامع بالذات.. وفي ليلة القَدْر تَحديداً.. أعطى متسوِّلاً أعمى ربع دينار.. صحيح أنّ الربع كان مُمزَّقاً بعض الشيء.. ومن الطبعة الثالثة التي سقط تداولها منذ زمن.. ولكن الأعمى فرح به.. أنا كنتُ شاهداً على ذلك.. فقد جاء في الحديث: (أحبّ الأعمال إلى الله إدخال الفرح على قلب المؤمن).. فالفقيد كانت له حسناته.
يُقهقه أحدهم في الخلف.
ــ اتقوا الله.. الناس يقولون (حاجّ مَرّة اكفِينا شَرَّه).. لذلك حَجَّ الراحل سبع مرات.. ولكن.. هو الحاجّ موسى هو موسى الحاجّ.. هذا حَدِّي من ذنبه.. مثل الدِّيك.. يؤذِّن وقدماه في الْخَراء! يأكل الغَلّة ويسبّ المِلّة.. إي والله.. أنا أعرفه جيّداً.. عاجنه وخابزه.. الصادقة نور.. علينا أن نعترف بخطايانا لنطلب المغفرة.. الله يخَفّف عنه التراب الثقيل.
يرن هاتف نَقّال.. يُشْهِر (حَمَد) سبّابته في وجه صاحب النقّال:
ــ اقطع اتصالك بالمخلوق.. ودَع اتصالك بالخالق وحده.. المهم.. المرحوم ـ أخشى أن يخونني التعبير ـ عَسَل في جِلْد كَلْب! فهو عسل بغّضّ النظر عن قيمة الوعاء.. وهل يهمّ شكل الأوعية؟
يرفع (حَمَد) يده لإيقاف الضحك:
ــ دعونا ننصف الرجل.. فقد قدّم خدمات جليلة للمجتمع.. بنَى أكبر قصر في المنطقة.. يمكنك أن تراه من الجهات الأربع.. أنشأ مزرعة نموذجية تنتج أغلى أنواع العنب.. بالطبع أنتم لا تستطيعون تذوّق ذلك العنب.. ولكن الإنسان يأكل بعينه! زرع وادياً من الطماطم.. على الرغم من أنّه مسح غابة من الصنوبر.. وأزال آثاراً إغريقية ورومانية.. ليست هناك حِجامة ولا خِتان بدون دم.. وماذا تعني الحجارة الرومانية؟ والمغفور له ساحر في الزراعة.. يضع الكيماوي في الليل.. فلا تشرق الشمس حتى يحمرّ الطماطم.. سبحان الله!
يصرخ صوت:
ــ لَخِّصْ يا حَمَد.
تخنقه دموعه.. يمسح أنفه:
ــ الله غالب.. هذه قصورهم وهذه قبورهم.. المغفور له ـ للأمانة ـ كان حمار شغل.. لا يكلّ ولا يملّ.. ليل نهار.. وأنتم تعرفون علاقتنا الحميمة.. على الرغم من أنّها ـ يعني ـ صحْبة عجُول.. تَلْحَسنِي ونَلْحَسَك.. ولكننا ـ بصدق ـ كنّا فُولة مَقْسُوْمَة! لا تقولوا: (كَلْب وطاحَت عليه نخلَة).. اذكروا موتاكم بخير!
***
(2009)

14 نوفمبر، 2009

باقة فطر

هذه باقة فِطْر (قمحي).. (فقعي)..

جمعتها لكم أمس السبت (2009.11.14)

من ضواحي قريتي.. أهديها لزوّار الخرّوبة.

كَاتِبُ الأماني

1
... إمام قريتنا يمتلك مفاتيح الجَنَّة.. حتى الأغنية الشعبية تقول ذلك: (في يديه مفاتيح الجنّة).. وهو في كل جمعة يُلوِّح لنا بالمفاتيح من فوق المنبر.. ومع أنَّ أبواب الجَنَّة ثمانية.. إلاّ أنَّ مفاتيح الإمام كانت تسعة!
في آخر جمعة من رمضان توعَّد الذين يتركون الصلاة بمجرَّد رؤيتهم لهلال العيد.. ووصف لنا أودية جهنَّم.. وادي العقارب.. ووادي الحَيّات.. وأطنَب في وصف الثعبان الأقرع.. فطوله سبعون ذراعاً.. طول كل ذراع سبعون شِبراً.. وإذا ضرب أحد الخُطاة بذيله فإنه يغوص في قبره سبعين ذراعاً.. طول كل ذراع مسيرة سبعين يوماً!
مسح عَرَقه بطرف كُمِّه.. ثم قال:
ـ الليلة هي ليلة القَدْر.. وما أدراك ما ليلة القَدْر.. إنها خير من ألف شهر.. يعني ثلاثة وثمانين عاماً.. يعني تساوي عُمْراً.. وقد وَعَد الله عِباده بأن يُحقِّق كل أمانيهم في هذه الليلة المباركة.. ستُومِض السماء بنورٍ خاطف.. فمن رآه فعليه أن يذكر أُمنيته.. وستتحقَّق في الحال.
بلع ريقه.. ثم أضاف:
ـ حتى إذا لم تروا النور.. فعلى كل واحدٍ منكم أن يكتب أُمنيته في ورقة.. ويضعها تحت وسادته.. فالملائكة ستطوف عليكم لتأخذ أمانيكم وتصعد بها إلى السماء.. إياكم أن تضعوا شيئاً آخر.. فالملائكة لا تأخذ هدايا ولا نقوداً.. ولا أي شيء من هذا القبيل.. ولا تكتبوا أمانيكم بخطٍّ رديء.. وأنت يا حاج امْحَيْمِيْد حَسِّن خطَّك.. ولا تُتعِب الملائكة في معرفة ما تُريد.. فأنت تَصُفُّ الحروف بطريقة غريبة.. يَعْيَا حتى الشيطان عن فَكِّ رموزها.. إنَّ خطَّك يُشبه أثر الخنفساء في الوحل.
توقَّف ليلتقط أنفاسه.. ثم تابَع:
ـ مَن لا يعرف الكتابة فعليه أن يَمُرَّ عليّ في بيتي بعد صلاة التراويح لأكتب له.. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
2
... انتهت التراويح.. عاد الإمام إلى بيته.. وجد حَشْداً من الناس أمام الباب.
ـ عليك أن تُعينني يا حاج امْحَيْمِيْد.. فيبدو أنني هذه الليلة سأكون كاتباً عمومياً للأماني.
ـ وماذا بوسعي أن أفعل في أمرٍ كهذا؟
ـ يُمكنك أن تفعل أي شيء.. (النواة تسند البرميل).
ضحك محيميد.. وقال بصوتٍ خافت:
ـ مع أنني لا أشبه النواة في شيء.. إلاّ أنك حقاً شديد الشبه بالبرميل!
ـ ماذا قلت يا حاج؟
ـ قلت لا إله إلاَّ الله.
ـ قسِّمْهم إلى صَفَّين.. صَفّ للرجال.. وصَفّ للنساء.
الْتفَت الإمام إلى الحَشْد:
ـ يُمكنكم أن تتمنّوا أي شيء.. فالله عنده خزائن السماوات والأرض.
صمت قليلاً.. ثم أضاف وهو يُقهقه داخلاً:
ـ لكن بشرط ألاّ يتمنَّى أحدكم الإمامة.
جلس القرفصاء.. واضِعاً أمامه قلماً ورُزْمة أوراق.
ـ أول واحد يا امْحَيميد.
3
... دخل خَطّاب الراعي..
ـ كيف حال شِياهك؟ سمعتُ أنَّ أحد التيوس قد نَفَق.
ـ يعوِّض الله.
ـ أرجو ألاّ تُدخِل التيس في الأُمنية.. فالملائكة لا شأن لها بالتيوس!
ضحك الراعي:
ـ لا.. التيوس كثيرة والحمد لله.. أكثر من الهَمّ على القلب.. وقطيعي صغير.. يكفيني حتى تيس واحد.. وأُمنيتي أن يسرح القطيع في أمان.. أعني دون أن تَمسَّه الذئاب.
ـ هذا سهل.. رغم أنَّ السماء لا تُمطِر كلاباً.. لكنَّ الملائكة ستتدبَّر الأمر.
***
ـ الحاجّة مسعودة.. أمنيتك؟
تنحنحت.. سعلت.. حَكَّت رأسها..
ـ أنا عجوز في آخر عمري.. وحيدة.. وقليلة والي..
ـ فهمتُ.. الحاجة مسعودة تتمنَّى أن تعيش في كنَف رجل بقية عمرها.
ـ يسلم فمك يا سِيْدي.
خرجتْ.. سألتْها العجائز:
ـ أَيْش تمنَّيتِ يا مسعودة؟
ـ أَيْش تمنَّيت غير سترة وشهادة!
***
دخل بَدْر يتحسَّس الجدار..
ـ تيامَنْ.. تيامَنْ قليلاً.. ما هي أُمنيتك؟
ـ وماذا يتمنَّى الأعمى سوى قُفَّة مليئة بالعيون!
***
وقفت فضِيْلة صامتة.. صَعَّد الإمام نَظَرَه.. احمرَّت وجنتاها.
ـ اِمْ.. سأكتب أُمنيتكِ وسأعتبِر صمتكِ علامة موافقة.
بدأ يكتب وهو ينظر إليها بعد كل جُملة.
ـ فارس يختطفني..
ـ ………
ـ ولماذا الاختطاف؟ ولكن ما شأني بهذا.
ـ ………
ـ فارس يختطفني على صهوة جواده الأبيض.
ـ ………
ـ هل يجب أن يكون جواداً؟ كان هذا في الماضي.. فلتكن سيارة.
ـ ………
ـ إذا كنتِ تُصرِّين على اللون الأبيض.. فلتكن السيارة بيضاء.
ـ ………
ـ هل تُريدين تحديد نوع السيارة؟ عفواً.. يبدو سؤالي غبيّاً.
طَوَى الورقة وسلَّمها لها.. فخرجت.
ـ أماني العَذَارَى تكاد تكون واحدة.. يبدو أنه يتوجَّب عليّ أن أستعمل الكربون!
***
ـ أُمنيتك يا سُويْهِر.
ـ أنا خَبّاز كما تعلم.. وأُريد أُمنيةً تليق بالمقام.
ـ يا سلام!
ـ ما رأيك في أن تكون أُمنيتي أن يطرد الله إسرائيل؟
ـ يا عيني.. يا صاحب المقام العالي.. لا يا خُوْي.. لا تجعل إسرائيل تُلوِّث أمانينا الحلوة.. دعكَ من ذلك.. الصليبيون مكثوا في فلسطين قرنين كاملين.. ثم بعد ذلك طردهم صلاح الدين.. وإسرائيل ليس لها سوى نصف قَرن بالكثير.. وماذا تساوي خمسون عاماً من حياة الأُمَم؟ شُوف غيرها.
ـ إذن فلتكن أُمنيتي أن أكون قادراً على الاستيقاظ طوال الليل.. فأنت تعرف تعب المهنة.
ـ الأمر أسهل من هذا بكثير.. يُمكنك أن تُعلِّق في رقبتك عَين بُومة.
***
دخل القِطُّ.. تمسَّح بالإمام..
ـ تعال.. سأكتب لك أيضاً.. وحيث إنك لا تستخدم الوسادة.. فسأُعلِّقها لك في رقبتك.. (القِطُّ يتمنَّى فأراً في الإفطار.. وآخر في الغداء.. وثالثاً في العشاء).. ما رأيك.. ثلاثة فئران في اليوم ليست بالشيء القليل.
فيما كان الإمام يطوي الورقة.. لعق القِطُّ شاربيه ومضَى.
... انتصف الليل.. والإمام مُنهمِك روحاً وجسداً وقلَماً في تدبيج الأماني.. فهو يعرف أنَّ الأشياء التي تصعد إلى السماء.. يجب أن تكون بالغة الدِقَّة.
أخذ يُراوِح في جلوسه بين القرفصاء والتربُّع.
دخل طفل صغير..
ـ يا أهلاً.. يا أهلاً.. عَطِيّة.. نعم يا اعْطَيوَة؟
ـ أُريد.. أُريد..
ـ نعم.. قُل.. ماذا تُريد؟
ـ أُريد نجمةً من السماء!
انتفض الإمام.. وضع القلم.. شَبَك يديه.. أخذ يتأمَّل الطفل.
ـ ما رأيك في الحلوى؟
ـ لا.. أُريد نجمة.
ـ حذاء جديد؟
ـ نجمة.
ـ صدقت.. الحذاء لا يُمكن أن يكون كالنجمة.. ورطة!
وضع رأسه بين كَفَّيه وأطرق..
ـ وجدتُها.. ما رأيك في درّاجة؟ تطوف بها يوم العيد على زملائك.. وتذهب بها إلى المدرسة.
ـ أُريد نجمة.. لا شيء سوى نجمة من السماء.
ـ هذا ما لم أحسب له حساباً.
طوى الإمام أوراقه.. دَسَّ القلم.. استلقَى على ظهره.. سحب الغطاء على وجهه وتظاهر بالنوم.. استدار الطفل.. وخرج باكياً.
ـ ما بك يا اعْطَيوَة.. لماذا تبكي؟
ـ الإمام.. لم.. يكتب.. لي.. أُمنيتي.
ـ ما الأمر يا سِيدي الشيخ.. لماذا لم تكتب للطفل؟
ـ اسكت يا امْحَيميد.. كفانا كذباً.. أنا نفسي كذبتُ الكذبة ثم صدَّقتُها.. ولاحِظْ أننا نكذب في ليلة القَدْر.
ـ وما الفرق؟ الكذب كذب في كل زمن.
ـ لا.. الكذبة في ليلة القَدْر تساوي أكثر من ثلاثين ألف كذبة.. رأسُك الصغير لن يستوعب هذا.
ـ اكتب له أي شيء.. حبر على ورق.. أنت خاسر حاجة؟
ـ لا أستطيع.. ثم ماذا لو تحقَّقت الأُمنية؟ ألا تُدرِك معنى هذا.. ألا تُدرِك معنى أن يحصل طفل على نجمة؟ جُمجمتك الصغيرة لن تتسع لهذا أيضاً.. لا يا امْحَيميد.. إنَّ أُمنية اعْطَيوة أكبر من أن تُكتَب.
4
... نام أهلُ قريتنا مُتحسِّسين ـ بين الحين والحين ـ أمانيهم تحت الوسائد.. الإمام وَحْدَه ظلَّ ساهِراً.. يَرْقُب النجوم بقلق.
***
(1995)

03 نوفمبر، 2009

الوظيفة السامية للتخريف

مدخل لقراءة مجموعة (حكايات ضفدزاد) لأحمد يوسف عقيلة
محمد عبد الله الترهوني
·عودة إلى نظام الليالي:

إن العودة إلى نظام الليالي.. يعني العودة إلى الليل الخلاق.. ليل المتعة.. ليل اللذة.. والفكرة الحميمية.. أو عودة إلى التفكير من خلال الطقوس الليلية.. للراوي طقوسه التي تحتفظ له بأُذن السامع.. وللسامع طقوس تحتفظ له بحرارة المروي.. طقوس وجودية [1].. تجعل من حضور الغريب.. أو العجائبي تمهيداً لتجلي السرد.. الليل سماء البوح بلا مباح.. (وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح).. في الصباح ومع شعاع الشمس الأول تتبخر الكلمة المبللة بخيال الراوي.. ويتوقف التداخل بين حلم الراوي وحلم المروي له.. في النهار نستطيع العيش أو النوم بلا أحلام.. بلا خيال.. لكن لماذا الليل؟ ولماذا يحرّم الصباح ما كان في الليل مباحاً؟ (وإذا بامرأة الملك شهريار قالت: يا مسعود فجاءها عبدٌ أسود فعانقها وعانقته وواقعها وكذلك باقي العبيد فعلوا بالجواري ولم يزالوا كذلك حتى ولى النهار[2]).. النهار هو وقت الخيانة.. فجعله شهريار وقتاً للقتل.. في كل صباح يقتل من تزوجها أول الليل.. لن تكون هناك خيانة أخرى.. كابوس آخر.. وبما أن زوجته لن تكون في أي مكان آخر فسينام النهار مرتاح البال.. شهرزاد جعلت من الحكي تعويذة تمنع القتل جعلت من طقوس الليل (أتكلم وتسمعني) تعويذة لاستمرار وجودها.. كيف فعلت ذلك؟ فعلت ذلك من خلال تأخير تجلّي السر لألف ليلة وليلة.. السر الذي لم تكن الحكايات وحدها تحتويه.. بل فضول شهريار هو ما كان يتيح استثمار التجلي البطيء في الليالي.. ولكن هناك سؤال ربما في الإجابة عنه يكمن سر الحكايات في ألف ليلة وليلة.. هل كان أهل ساسان على علم بسبب قتل شهريار زوجته الخائنة؟ أو هل حكى شهريار حكايته أمام شهرزاد فكانت حكايتها عملية تفكيك للحكاية الأولى حكاية الخيانة؟ إن قتل شهرزاد للجواري والعبيد عند رميه عنق زوجته[3].. يشكك في علم أهل ساسان بالسبب ولا ندري إن كان هذا الشك يطال معرفة شهرزاد.. فلاشيء يشير إلى أنها كانت تعلم على وجه التأكيد حكاية شهريار مع زوجته.. إن معرفة شهرزاد من عدمها بهذه الحكاية له أكبر الأثر على المسار التأويلي للحكايات.. وربما تفقد الحكايات دور أفق انتظار القارئ لو لم تكن حكاية الملك شهريار وأخوه والتي كتبها ناسخ الحكايات.. مكتوبة قبل حكايات ألف ليلة وليلة.. سؤال آخر هام وهو.. هل كانت شهرزاد قد قررت أن سلاحها في مواجهة شهريار هو الحكايات عندما طلبت من أبيها أن يزوجها لشهريار؟ إن قول شهرزاد لأبيها (يا أبتِ زوجني هذا الملك.. فإمّا أن أعيش وإمّا أن أكون فداء لبنات المسلمين وسبباً لخلاصهن من يديه).. إن ما قالته شهرزاد لا يوحي أبداً بموضوع الحكايات.. بل إنه يلمح إلى عدة أمور على رأسها أن شهرزاد قد قررت قتل شهريار والانتقام.. وإلا فما معنى كلمة فداء هنا.. ربما فكرت شهرزاد في قتله.. وهذا ما سيؤدي إلى موتها فتكون بذلك (فداء لبنات المسلمين وسبباً لخلاصهن من يديه) إن ما يشكك في صحة النظر إلى قرار شهرزاد بالشكل الذي عرضناه هو قولها في بداية حديثها (أما أن أعيش ...) كيف كانت تتوقع شهرزاد أن تعيش على خلاف كل البنات قبلها؟ إن كل إجابة عن هذا السؤال ما هي إلا طريقة من طرق عديدة يمكن النظر بها إلى مغزى الحكايات.. وما يزيد حالة الشك لدينا حيال قرار شهرزاد هو حديثها مع أبيها الوزير في شأن زواجها من شهريار هو حكاية الحمار والثور مع صاحب الزرع التي حكاها الوزير في محاولة لجعل شهرزاد تتراجع عن طلبها.. وفي رأينا أن هذه الحكاية في غاية الأهمية.. فهي في الوسط بين حكاية شهريار وزوجته.. وكل حكايات الألف ليلة وليلة.. وبالنظر إلى ما تدور حوله هذه الحكاية نجد الفضول وما ينتج عنه.. ومن خلال تتبع السرد نجد أن هناك حالة متعددة من الفضول ينتج عنها أمر يغير في مسار الأحداث.. هناك فضول استماع التاجر لحديث الحمار والثوار.. وهناك فضول الحمار الذي أدى إلى اشتغاله مكان الثور.. وهناك فضول الزوجة التي ألحت أن يبوح زوجها بسبب ضحكه حتى لو أدى ذلك إلى موته.. وفضول استماع التاجر إلى كلام الديك والكلب الذي نتج عنه ضرب الزوجة وردها عن ما كانت تلمح إليه.. في كل مرة كان للفضول نتيجة مختلفة.. كان التاجر سيموت بسبب فضوله (الاستماع إلى حديث الحمار والثور).. وقد نجا بسبب فضوله واستماعه إلى حديث الديك والكلب.. ما الذي كان يرمي إليه الأب من وراء هذه الحكاية؟ هل هو معرفته لفضول ابنته ومحاولتها القرب من شهريار ومعرفته عن قرب؟ أم أنه أراد من هذه الحكاية أن يمنح شهرزاد سلاحاً غير ما كانت تفكر فيه تجاه الملك؟ لو أننا أخذنا بعين الاعتبار وصية شهرزاد لأختها بعد هذه الحكاية مباشرةً والتي تقول فيها (إذا توجهت إلى الملك أرسلت أطلبك فإذا جئت عندي ورأيت الملك فقولي يا أختي حدثيني حديثاً طويلاً نقطع به الليل وأنا أحدثك حديثاً يكون فيه الخلاص إن شاء الله) فإننا سوف نشعر بأن هناك تغييراً في قرار شهرزاد.. وأن أباها قد أوحى لها بالفكرة الرئيسية التي ستخطط على أساسها لألف ليلة وليلة قادمة.. لقد كان كابوس شهريار ناتجاً عن فضوله (فلما عاد الملك ورأى تغير حال ( أخيه) سأله عن سبب ذلك فقص عليه[4] ما كان من حكاية زوجته مع عبده.. وحكاية زوجة الملك مع العبد مسعود وذهاب هذا الكابوس لن يكون إلا بنتيجة معاكسة لفضول جديد إنها حكاية التاجر فضول الاستماع إلى حكاية الحمار والثور أولاً ثم الاستماع إلى حديث الديك والكلب ثانياً هذا هو ما خرجت به شهرزاد من الحكاية..[5] يجب أن نشير هنا إلى أن النظر إلى حكاية الأب بهذه الصورة يتفق والرأي أن شهرزاد كانت تعلم السبب وراء كابوس شهريار (كانت تعلم السر) لأنها لا تستطيع الاكتفاء فقط بالحكي وتقطيع الحكى لأثارة فضول الملك وإجباره على السماع ليلة أخرى.. إن هناك هدفاً اكبر ولابدُ وهو خروج الملك من كابوسه.. وبهذا كان لابد أن يكون للحكايات مغزى يتماشى وهذا الهدف.. هنا يمكن القول إنه ما كان للحكايات أن تكون لولا معرفة شهرزاد بسر شهريار.. لولا التشخيص الدقيق لمرض شهريار ما كان لشهرزاد أن تحدد جرعاتها العلاجية لألف ليلة وليلة لقد وجدت شهرزاد نفسها في مواجهة تضخيم ما يرمز إليه خيانة الزوجة في عقل شهريار.. ولم تفعل شهرزاد غير حل هذا الرمز في كل حكاية بطريقة مختلفة للوصول في آخر الأمر إلى الهدف وهو أن يحكي شهريار حكايته ويتخلص من كابوسه ولو أن شهريار لم يتكلم لما علمنا بتفاصيل حكايته مع أخيه.. فربما كنا سنعرف من بعض من في القصر عن سبب موت زوجة شهريار ولكن أبداً ما كنا لنعرف أن أخاه قتل زوجته و لماذا قتلها.. إذن نحن مع شهرزاد أمام حادثة ماضية تحولت إلى كابوس وحلم مزعج من الماضي.. كان على شهرزاد أن تحارب البنية الرمزية لهذا الحلم في عقل شهريار.

أمّا مع ضِفْدزاد فقد كان الأمر مختلفاً.. كان ضفديار يعاني هو أيضاً من حلم يتكرر كل ليلة تحول إلى كابوس.. لقد رأى في منامه ( ثعباناً).

(وياله من كابوس.. شئٌ مُفزِع.. مُرعِب.. رأيت ثعباناً دَخَل البِركة.. وأخذ يُفتِّش عنِّي.. تصوَّري.. يُفتِّش عنِّي أنا بالذات.. هنا في القاع.. مع أن المستنقع يعجُّ بالضفادع) تكرر هذا الكابوس في الليالي اللاحقة.. علينا أن نلاحظ أن ضفديار قد قام بالبوح بسره من البداية عكس شهريار الذي انتظرت شهرزاد ألف ليلة وليلة ليقوم هو بالكلام "أحسَّت ضِفْدَزاد بأن مصير البِركة قد أصبح متوقِّفاً عليها" كما كان مصير جنس شهرزاد متوقفاً عليها.. ماذا فعلت ضفدزاد؟ "لقد آن الأوان للاستفادة من مخزون حكمتها.. حتى تعيد الأمور إلى نصابها".. "وأدركتْ بأنها أصبحت في مواجهة وصراع مع الثعبان الذي يقتحم مخدعها كل ليلة".

علينا أن نشير هنا إلى أن شهرزاد كانت في صراع مع تذكر فعل الخيانة التي تحولت إلى كابوس.. وتحول إلى خطر يهدد حياتها هي نفسها في آخر الأمر.. أما ضفدزاد فقد كانت في صراع مع حلم تحول إلى كابوس لكنه يهدد الملك نفسه.

إن هذا الأمر يعني استخدام سلاح مختلف في هذا الصراع (إنه لا يرى الكوابيس إلاّ في الليل.. هل هي كراهية للظلام؟ حسناً.. إذن يجب أن لا ينام.. أعني في الليل.. حتى إذا نام نهاراً بعد طول السهر.. نام نوماً عميقاً.. ولكن ما الذي يجعل ملكاً لا ينام؟".. "المشكلة أنني أُحارب ثعباناً وهمياً.. إنه يلتفُّ ويتثنَّى هناك.. بعيداً في تجاويف الرأس.. تُرى ما الذي يطرد الثعابين من ليل الملوك؟!).. "قرَّرت أن تشحذ ذاكرتها.. وأن تسترجع كل الحكايات التي تعرفها.. أن تخرجها من الظلام.. لتفرغها في رأس الملك.. حتى تزحم ذلك الوحشَ المُلتفَّ في مكانٍ ما من رأس جلالته.. بدأت تَحكي له كل ليلة".. نعم تستخدم ضفدزاد نفس سلاح شهرزاد في مواجهة الكابوس الملكي.. لكن يبقى أن كلاً منهما يؤسس الحكي في مسارة علاجية مختلفة.. تؤسس شهرزاد الحكي ليتكلم الملك في النهاية.. أما ضفدزاد فتؤسسه على كلام الملك نفسه.. في الحالتين يلعب الرمز دور المعالج.. مع شهرزاد يعالج الماضي ذكرى تحولت إلى شبه الحلم.. أما مع ضفدزاد فهو يعالج المستقبل.. حلم ينذر بما سيقع.

اللغة هي مكون الحلم وهي في نفس الوقت أداة تفسيره وتجليه.. إن اللغة في عالم الأحلام رمز وتأويل.. نص ورسالة.. باطن وظاهر [6].. شهرزاد كانت بالرمز تجعل من النسيان شيئاً ممكناً.. بما أن كابوس شهريار في الماضي.. أما ضفدزاد فتجعل للرمز عملاً وقائياً تحذيرياً.. بما أن حلم ضفديار كان نذيراً لوقوع أمر.. إنه في حالة شهرزاد تغييب.. أما في حالة ضفدزاد فهو استحضار.. كانت شهرزاد تحلم بطريقة معاكسة لحلم شهريار.. وضفدزاد تحلم بطريقة معاكسة لحلم ضفديار بما أن الرمز حلمي في أحد أبعاده أي يتأصل في الذكريات.. في الحركات التي تنبعث من أحلامنا في كلتا الحالتين كان يتم حصار ما لا يمكن حصاره.. فعلت شهرزاد ذلك من خلال مراكمة أحلام كثيرة على حلم أول أصبح مع الوقت بعيداً مكانه النسيان.. وفعلت ضفدزاد ذلك من خلال تحويل الصل (الثعبان) إلى عدة فروع والنظام إلى تشتيت.. والواحد إلى كثرة.. إنه تفكيك ثعبان الحلم إلى أجزاء صغيرة تعيد مع الوقت الثعبان إلى الظلام.. ولم تكن ضفدزاد تعمل على النسيان بل على العكس كانت تريد من أحلامها هي (حكاياتها) أن تجعل الثعبان أكثر وضوحاً أكثر تمييزاً أمام الملك.. وإذا حدث ذلك تجلى السر وفقد المجهول كل سطوته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ـ ( اتكلم وتسمعني.. إذن نحن موجودان) يعارض يونغ بهذه الجملة.. جملة ديكارت (أفكر إذن أنا موجود) راجع الكلمة والحوار والرواية ـ جوليا كريستيفات ـ حسن المودن.. مجلة الأدب الأجنبية.. العدد 104.

[2] ـ ألف ليلة وليلة.

[3] ـ المصدر السابق.

[4] ـ لا يمكن هنا أن نغض النظر عن موضوع الألحاح فأخو شهريار بألف ..... يمثل تلك الحاية إلا تحت إلحاح شديد.

[5] ـ وهذا عكس ما ذهب إليه عبد الفتاح كيليطو في العين والإبرة من أن شهرزاد (لم تذعن للإثارة ولسلطة الحكاية المروية من طرف أبيها) وهو لم ير أن هذه الحكاية إذا لم تستطيع جعل شهرزاد تعدل عن قرارها.. فستكون هي سلاحها في النجاة وبنات جنسها من القتل. أنظر العين والأبره.

[6] ـ تفسيرات الحلم وفلسفات النبوة.

02 نوفمبر، 2009

بين الميثولوجي وإعادة تشكيل الواقع

قراءة في مجموعة" الخيول البيض" لأحمد يوسف عقيلة
محمد عطية محمود

"الليالي الأربعون موسم من مواسم الحكايات..."
في مجموعته القصصية"الخيول البيض" الصادرة في طبعتها الأولى في الفاتح 1999ميلادية، عن الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان بالجماهيرية الليبية، والتي تُرجمت إلى اللغة الفرنسية في طبعة لاحقة.. يؤسس (أحمد يوسف عقيلة) لكتابته القصصية القائمة على التعانق بين (الميثولوجي)، بكل ما تحويه هذه المفردة الجامعة للفلكلور والتراث وعلم الأساطير معاً، والطبيعة بكل مترادفاتها ومكوناتها الدالة على البيئة الريفية المجاورة للصحراء، بصفة خاصة ولصيقة إلا أنها تنتمي إلى المجتمع الأم/الصحراء بكل ما تحمله من متناقضات ومزايا في نفس الآن.. الصحراء التي تطبع على مبدع أدبها بطابع تلحظه العين الثاقبة من حيث الرهافة الشديدة، مع قوة الروح التي يسبغها المبدع على شخوصه مع سعة الخيال المتفتق والمترجم/الراصد لما وراء العلاقة بين الأشياء، و هو ما يُحرّك النصوص جميعاً في اتجاه هذا الحوار البديع بين إنسان هذا المكان وبيئته وتراثه وأسطورته الذاتية التي تتحرك من خلال جو أسطوري، أو تراثي مشبع بالأسطورة.. و ذلك مما يدلل أيضاً على أن المبدع ابن بيئته، يستقي منها ما يلفت النظر ويدهش، ويجعل من القصة القصيرة/الحدوثة المروية بمهارة القاص، لا ببداهة الراوي الشعبي أو المؤرخ الفاطن، بلا خلفية صادقة تظاهر النص القصصي وتحميه من الجمود و الوقوع في دائرة التسجيلية.. فنحن بإزاء مجموعة قصصية أو مجموعة من اللوحات الطبيعية الموحية والشاهدة على تراث/فلكلور/مد أسطوري يتغلغل في ثنايا النصوص يجعلها بطعم التاريخ الممتزج بتضاريس الأرض، و مشاعر أبنائها، وواقعهم الآني و الموروث، المستمد أيضاً من هذه الروح الأسطورية.. والمتفاعلة مع إنسان العصر الشاهد على هذا الامتزاج.
***
أسطرة الواقع:
تتجلى في نص المجموعة الرئيس"الخيول البيض" أسطورة ليبية مرتبطة بخصوصية المكان (الجبل الأخضر) بما يحمله من سحر الجمع بين الريف و الصحراء، و ما يمكن أن تسقطه هذه الأسطورة على الوعي الجمعي المرتبط بالوعي الديني أيضاً من خلال موروث ميثولوجي ديني يتعمق في أرض المكان/الشخصية، ويتآلف مع بنائها وأحلامها وطموحاتها، كما ترتبط هذه الأسطورة بفترة الأربعين يوماً التي يشتد فيها الشتاء، لتجزل الطبيعة العطاء لهذه البيئة، فيقول في مفتتح نصه:
"... الليالي الأربعون موسم من مواسم الحكايات..
ـ يقولون إنَّ الراعي مسعود قد ذهب بقطيعه إلى الأودية.. فهذا أوان ظهور الخيول البِيض.
ـ مسكين هذا المسعود.. منذ سنوات وهو يفعل ذلك في عِزّ الشتاء دون جدوى." ص24.
ليحتكم النص هنا، مع ارتباطه بعنصر الحكاية التي تمثل عصب العلاقة بين الواقع و الموروث، إلى هذا الوعي الذاتي الباحث عن أسطورته الخاصة التي تتحقق بها و فيها آماله، والمرتبط بالوعي الجمعي الذي يدور في فلك هذه الطبيعة والواقع تحت أسر هذا الموروث الديني/الشعبي، الأسطوري الذي يسبغ سماته على هذه الظاهرة، وذلك مما يبدو من الحوار الدال، والذي يلعب دوراً هامّاً كأداة من أدوات فنية الكتابة في هذا النص.
" ـ ويقولون أيضاً إنَّ مَن يرى الخيول البِيض يُحقِّق كل أمانيه.
ـ ويتزوَّج بمَن يشاء.
ـ الخيول البِيض لا يُمكن للنساء أن تراها.
شهقت الأخريات شهقةً جَماعية:
ـ لماذا؟
ـ لأنها لا تظهر إلاّ في ليلةٍ واحدةٍ من السنة.. وهي ليلة غير معروفة.. كما أنها لا تظهر إلاّ في الأودية البعيدة.. وقد تمرُّ سنوات دون أن يراها أحد"ص25.
لتتماس الأسطورة كبُعد ميثولوجي مع ليلة القدر كبُعد ديني عقيدي مؤثر يستمد أهميته وقيمته من النص المقدس/القرآن الكريم، وكنوع من التلاقح بين الثقافة الدينية والثقافة الشعبية المختزنة في الوعي الشعبي المرتبط بالعقيدة، وبالموروث في نفس الآن. إلا أن المفارقة التي يضعها النص في نهايته تضع حدًّا للحلم المرجو تحقيقه، بتفلت هذه الليلة من بين يدي الحالم، ليسير الواقع في عكس اتجاه الأسطورة/الحلم:
"... في آخر الليل غلَبه النعاس.. فاستسلم للنوم بالقرب من الجمرات الخابية تحت الرماد الأبيض.. وقُبَيل الفجر.. حينما كان مسعود لا يزال مُستغرِقاً في النوم.. كانت الخيول البِيض تنحدِر مع الوادي.. وقد أخفت السفوح النَّديَّة وَقْعَ سنابكها."ص27.
بما يدع مجالاً لإثارة السؤال حول ماهية الأماني، والتي ربما طرحها نص آخر هو"كاتب الأماني"، وإن كان من منظور آخر، حيث تتحكم خرافة شيخ المسجد ـ كجزء من الميثولوجيا المرتبطة بالتراث غير السوي للدين ـ والتي تتماس مع"صكوك الغفران" التي سادت العصور الوسطى في أوربا، وصارت جزءاً من تاريخ العالم وتراثه المقروء، ودلالة علة عمق الهوة بين العقيدة والسلطة الدنيوية، حيث يقول النص في مفتتحه؛ كعتبة دالة كاشفة:
"... إمام قريتنا يمتلك مفاتيح الجَنَّة.. حتى الأغنية الشعبية تقول ذلك: (في يديه مفاتيح الجنّة).. وهو في كل جمعة يُلوِّح لنا بالمفاتيح من فوق المنبر"ص29.
حيث تأتي الإشارة هنا إلى هذا الموروث الديني المغلوط، على نحو من السخرية الخفيفة المختلطة بأسى، قد تبدو جليّة من خلال الحوار ـ من طرف واحد، و هو نوع آخر من الحوار يوظّفه الكاتب ـ الذي يجري على لسان الإمام/الضمير العقيدي لأهل القرية، وإن كان من خلال خطبة يوجّهها إليهم، بما يشي بانعدام الحوار المتفاعل، كسمة من سمات العقل والتحضر غائبة عن هذا الحقل الاجتماعي، بهذه النبرة التهكمية الساخرة أيضاً والمستبطنة لشعور ذاك الإمام بجهل/دونية الفهم العقيدي لدى هؤلاء الناس:
" ـ ولا تكتبوا أمانيكم بخطٍّ رديء.. وأنت يا حاج امْحَيْمِيْد حَسِّن خطَّك.. ولا تُتعِب الملائكة في معرفة ما تُريد.. فأنت تَصُفُّ الحروف بطريقة غريبة.. يَعْيَا حتى الشيطان عن فَكِّ رموزها.."ص30.
كذلك تلوح في النص، ثيمة الأمثال الشعبية المتوائمة مع ذات البيئة، والتي يبثها الكاتب في نصه، كتقنية تساعد في طرح أساليب التعبير عن المواقف والحالات التي تستمد من تراث و مفردات البيئة ذاتها، وذلك من خلال حوار آخر لكنه موصول بين الإمام وأحد المأمومين:
" ـ يُمكنك أن تفعل أي شيء.. (النواة تسند البرميل).
ضحك محيميد.. وقال بصوتٍ خافت:
ـ مع أنني لا أشبه النواة في شيء.. إلاّ أنك حقاً شديد الشبه بالبرميل!"ص31.
وهكذا على هذا المنوال، الذي ربما ظهر في متون نصوص أخرى.
ومع تنوع الأماني وتدرّجها و تباينها تبدو سمات هذا المجتمع القبلي، وتتمايز شخوصه، لكنها ترتبط دوماً بأشياء مادية مرتبطة بالمستوى الأفقي للحياة، في حاجة الراعي إلى كلب وفِيّ يحرس شياهه، و العجوز إلى رجل تستعيد به ما مضى، والأعمى إلى عين يرى بها، و الفتاة إلى فارس أحلام يسعدها... إلى آخره.. إلى أن يصل إلى أمنية الصبي الذي يريد"نجمة" في السماء:
"انتفض الإمام.. وضع القلم.. شَبَك يديه.. أخذ يتأمَّل الطفل.
ـ ما رأيك في الحلوى؟
ـ لا.. أُريد نجمة.
ـ حذاء جديد؟
ـ نجمة."ص38.
لتضع نهاية النص الإمام في حيرة، تطلعاً إلى مستوى أعلى من إدراكه، وإدراك من حوله، ليضع الطفل الصغير، مجتمعه/بيئته/تراثه، في مواجهة جديدة مع الأماني، ولتصنع النجمة بدلالتها مع النهاية المغايرة بتطلع الشيخ نحو السماء، هذه المفارقة كمحاولة للمغايرة أو الخروج عن النمط السائد.
***
ثمة تعانق آخر مع الأسطورة فيما بين نصَيّ"المتاهة"، "شوال التمر"، فاختفاء (الجدة العذراء) التي ابتلعها الكهف، بما تحمله من تراث وتاريخ، واستنبات للأسطورة من رحم لم يلد (!) في نص"المتاهة" قد يرمز إلى إشكالية القدرية، وضياع الحقيقة في كهف الحياة، حيث تتحول الجدة/التاريخ إلى حكاية شعبية تراثية تحوطها الدهشة، وتظل مثاراً للعجب، وترتبط ارتباطاً مغلوطاً بالغيبيات، يطرحها النص من خلال مشهدية البداية، الدالة دائماً ـ و هو مما يُميّز نصوص المجموعة في الغالب.
"... ضباب الصباح يستلقي في الأودية.. وبعض السُحُب الشاردة تجوب السماء.
الْتقطت رَجْعَة عصا رقيقة.. فتحت باب المَرَاح.. فتدافع القطيع.. غَصَّ المدخل.. ثم تدفَّقت الشِياه خلال مسارب الغابة."ص41.
هذا التدفق الخارج من أَسْرِه، يتلاقى مع الدلالة العكسية لاسم الجدة (رجعة التي لن ترجع) من خلال الاستهلال.. الممهِّد لهذا التحول:
"أخذت تًفكِّر..
ـ رجل.. امرأة.. كهف..
أحسَّت بارتعاشٍ لذيذ.. دخلت.. نادت:
ـ سعد.. سعد.
مشت في ضوء المدخل.. أحدثت خطواتها خشخشة.. انبعثت رائحة الزبل الجاف وذَرَق الطيور"ص43.
هذا التورط المتدرج، مع الطبيعة ومفرداتها الدالة على التوحش، مع مغامرة التوغل في غير المأمون، وهذا الجو الكابوسي الذي يفرض تفاصيله على وعي هذه الشخصية الذي يتحول إلى لا وعي في مواجهته، هو في الوقت ذاته دال على العلاقة بين الإنسان وأحراش بيئته التي تُمثِّل عنصراً ضدّياً له عبر مسارب حياته.
تبرز هنا أيضا أهمية الحوار المبتور الذي يشي بعدم التواصل أو الصدمة التي تلاقيها الشخصية في مواجهة المجهول، والتي تواصل النداء والبحث، بشيء من الفضفضة النفسية/البوح الذي يساعد على وصف تضاريس المكان الدالة على التورط في هذا المجهول:
"... أفاقت.. شعرت بالبرد.. تحسَّست الجدران الرطبة.. تلمَّست جسدها العاري.. واكتشفت كل شيء"ص44 .
هذا الاجتراء على براءتها وجسدها الغض، قد تحول بفعل القوى الطبيعية إلى عنصر من عناصر بناء الأسطورة/الخرافة التي خرجت بدلاً من الفتاة/الجدة/التاريخ من هذا الكهف المظلم، لتخلد الأسطورة وتفنى هي، وتدور الحكاية على الألسنة وتحتفظ بها الذاكرة الجمعية لوعي بيئتها، حيث يقولص46:
"... منذ ذلك اليوم.. وأطفال قريتنا لا ينامون.. حتى يسمعوا من جَدّاتهم حكاية العذراء التي ابتلعها الكهف".
فما بين البداية والنهاية تقف الحقيقة الغائبة عن هذا الوعي الجمعي، الذي لا يلتقط بذاكرته إلا أثر الغياب المغيب أحياناً للعقول..
بينما يحطّم بطل نص"شوال التمر" أسطورته التي بناها و شيدها عروساً/صنماً من تمر، توفَّر له من هدية، لعلها هدية الطبيعة الصحراوية/البيئة إليه، فتوحد مع ذاته ناظراً إلى كومة التمر التي نتجت عن تفريغه على الأرض، ليبتكر معها وبها هذه الفكرة/النبتة الأسطورية، لفنان حاول التعامل مع طبيعته المتاحة على نحو من تنفيث الرغبات من خلال حوار ذاتي:
"ثم شرع يُشكِّل الكُتلة.. يأخذ من الأسفل ويضع في الأطراف.. يقطع من الأمام ويُلصِق في الخلف.. يدور حولها.. ينْزع قطعةً من الوسط ويجعلها في الأسفل.. يدور.. يدور.. حتى حلول المساء.
أشعل المصباح.. ألقَى نظرةً فاحصة على مخلوقته"ص57 .
ثم يتحول الحوار الذاتي إلى حوار مع من خُلِقت من تمر ـ في وعيه المرتحل بعيداً عن الوعي المادي ـ و هو نوع آخر من الحوار يطرحه النص ويستفيد منه، من خلال الأشكال المتعددة لتقنيات الحوار بالمجموعة، وربما أتى هنا ليُعمِّق الفجوة بين الإنسان وما يجده بعدما يشتهيه، ويجد فيه ذاته، والذي ربما نحى منحىً عبثياً ربما جعله من قبيل الهلوسة أو مظهراً من مظاهر فقد الاتزان:
"ـ سئمتُ ثرثرتكِ.. مَن تظنِّين نفسكِ؟ لم يتغيَّر فيكِ شيء.. حتى الفراشة نسيت أنها كانت دودة.. حطَّمت شرنقتها.. وحلَّقت.. أنتِ لم تتخلَّصي من عُقدة الشوال.. لازلتِ مُجرَّد شوالٍ من التمر"ص61.
لقد صنع (عقيلة) من شخصية النص، نموذجاً حيًّا للإنسان حينما يتفاعل مع بيئته، ويتمادى ليصنع منها أسطورته، بما أُوتِي من مقومات، وبما يبرهن على القدرة على التكيف مع معطيات الواقع، مع إعطائه بطله المنفرد القدرة على الثورة في وجه هذه الأسطورة التي تحولت من واقع مادي جامد، بفعل الاحتياج إلى الدفء، إلى واقع حسي مفترض.
وبحيث يبقى للرموز الدالة تأثيرها تقنياً على الكتابة القصصية لهذا النص وغيره من النصوص التي يعالج فيها أموراً واقعية تصنع لها أصولها التراثية إطاراً من الخرافة واللجوء إلى الدجل والتعاويذ كما في نص"المجنون"، والعلاج بأشكال متعددة ربما استمدت بعضها من الطبيعة، واستفادت جيداً من عطاياها، وربما ذهبت بعيداً عنها لتأتي بالجانب الأسوأ من التأثير المضاد للطبيعة والتي تتباين في نصوص مثل "الوصفة الأخيرة"، و"دروب"، و"وصفة"، مع الاتكاء على لعبة المفارقة التي قد تبدو أحيانا فعلاً متوقعاً حدوثه، لكنها لا تني تتوقف عن إحداث الدهشة التي هي قرينة كل عمل قصصي موفق.
***
إعادة تشكيل الواقع:
لكن اللافت للنظر هو تكامل اتجاه المجموعة إلى البعد الميثولوجي، مع البعد الطبيعي والتطلع إلى محاولة صياغة الأمور/النصوص بصورة تبدو أكثر شاعرية تعانق ذلك الحس التشكيلي المتطلع إلى محاولة تغيير أو إعادة تشكيل الواقع المحيط بإبراز أجمل ما فيه، أو رسم صورة مغايرة قد تجمل الواقع وتظهر أبْهى ما فيه من خلال عشق مبَرح لتفاصل بيئة عزيزة على الوجدان، كما تساهم في كشف سمة من سمات التجزر التي يعاني منها إنسان هذه البيئة/هذا العالم، ومعاناته من جراء تجزره وانعزاله، وربما توحده المريض مع ذاته تارة، وتوحده المبدع مع بيئته تارة أخرى..
فتبدو في نص"المرآة" معاناة المرأة العجوز في محاولة إعادة البهجة إلى تقاسيم وجهها، في موازاة مع هذه الإشكالية التي تحاول فيها إعادة صياغة واقعها، من خلال مرآة، بعدما فقدت ميزة النظر إلى ذاتها في مرآة وجه زوجها الذي يشير إليه النص في سطوره الأولى على أنه (يُصرُّ على الاحتفاظ بتكشيرته الأبدية) ص143، فيكمل في ص144:
"تأمَّلتْ وجهها طويلاً.. ثُمَّ أَشاحت.. وأَنْحَت باللائمة على المِرآة التي لم تَعُد تُظهِر الوجوه كما ينبغي!"
ليشير النص إلى عدم التواصل مع أي من المرآة أوالزوج.. دلالة على انقطاع الوصل بأسباب البهجة والحياة، لكنها لا تني تتوقف عن محاولات تغيير هذا الوجه، وإعادة الحياة إليه، بمحاولة تشكيل واقع جديد، قد لا يختلف كثيرا عن واقعها الآني!:
"حاولت أن تُعَدِّل من ربطة المحْرَمة.. وحرصت على أن تجعل طرَفها يتهدَّل على جبينها ليُخفي التجاعيد.
ـ أنا لم أَعُد تكاميل.. صدق الداهش حين قال بأنني أصبحت تناقيص!"ص145.
ليشكل هنا الحوار الذاتي/المونولوج الداخلي ملمحاً متواصلاً في متن النص ـ كما في أغلب نصوص المجموعة ـ ينم عن عدم التواصل الذي تعاني منه الشخصية المحورية المنفردة بالنص، والمتفردة بكونها تعاني التوحد كمرض دال على تجزرها رغم وجودها في محيط عائلي.. كما يشكل الاسم ملمحاً آخر دالاً على عدم التواصل الشخصي والجسماني للمرأة مع اسمها، مع تأكيدها من خلال هذا الحوار أيضاً:
"ـ لست أدري لماذا لا يصنعون مَرايا تحتفظ بالوجوه شابةً فَتيَّة؟"ص145.
ليختتم النص بنهاية دالة على الفشل في إعادة تشكيل هذا الواقع، ولو على المستوى التوهمي أو المصطنع، بعد فعل استعارتها لمرآة جارتها الصقيلة:
"اجتاحها إحساس بالفرح المَشُوب بالتشفِّي.. وهي تسمع صوت الارتطام والتكسُّر.. انحنتْ.. وأخذت تتأمل وجهها المُبعثَر في الشظايا"ص147.
ربما تماهت هنا النهاية مع نهاية نص"شوال التمر" الذي ربما فشل صاحبه في محاولة أخرى من محاولات إعادة تشكيل الواقع، وإن كان من خلال أسطرته لكائن صنعه بيده، ثم انقلب عليه ثائراً وكافراً به.. و ربما تماست فكرة النص أيضاً مع نص"حكاية مدينة" من حيث تجسيد حلم الشخصية الباحثة عن وطن بديل/مدينة فاضلة، من خلال محاولة بناء مدينة من الرمال على شاطيء البحر، ولكن هيهات تأتي الرياح والأمواج بما لا تشتهي (المدن) أو صانعوها، لتشكل نهاية النص البارعة دلالة هامة على مدي استحالة تحقيق الحلم الواهي بتشكيل أكثر وهناً وضعفاً:
"... ارتفع المَدّ.. أخذت الأمواج تطال أطراف المدينة.. بل بدأت تبتلع أحياء بكاملها.
وقف فوق الأنقاض.. أخذ يتطلَّع إلى البحر.. مَدَّ سَبّابته.. واندمج يعُدُّ الأمواج." ص152.
بينما يختلف الحال لدى شخصية زينب في نص"المفرش" والتي تفلح في تشكيل واقع خاص بها، وإن كان من خلال الأحلام/حلم اليقظة أو الإبداع الحلمي الذي انسال عبر يديها على سطح مفرش، حيث جنح بها النص لتبحر في مخيلتها تستشف منها أحلامها البسيطة المترعة بالأمل، وتنجز بها ما لم تحققه لها الأيام و الليالي:
.. ظِلال.. كانت زينب هذه المرَّة تصنع ا"بين أنامل زينب أخذت الأشياء تتشكَّل.. البيت.. الشجرة.. العصفوران.. العُشّ.. شمس ذهبية تتربَّع فوق حافَّة الأُفق.. أضواءلآفاق." ص162.
ومع انسياب هذه الأنامل على المفرش/أرض الواقع الجديد، المتخيلة الطوباوية.. ينساب النص، ليحقق المعادلة الصعبة التي يرنو إليها الخيال العاشق المتفتق، ليكمل الصورة البَهيّة:
"صعدت الشمس.. تحرَّكت الظِلال.. اهتزَّت الأغصان.. اقترب العصفوران من بعضهما.. انفتحت النوافذ.. تسلَّل شُعاع الشمس إلى غُرَف البيت..".
إلى أن يكتمل الحلم الطوباوي، بالتحامه بأرض الواقع/الامتداد:
"وتحت الشجرة ظهر طفلٌ يَحْبو" ص163. كما يمثل نص"وحشة" تلك الرغبة الأكيدة التي لا تغادر نفس الرجل الضرير الذي يستحث الأشياء و البشر المحيطين إلى التواصل معه، ومحاولة إعادة الأشياء إلى أشكالها المعتادة لديه قبل إصابته بالعمى، والتي يُرجعها النص إلى سبب تاريخي يتعانق مع جغرافيا المكان ـ مرة أخرى ـ و هو الصحراء، من خلال طرحه للأسئلة الدالة على عمق صلته بالحياة، ولكن دون جدوى وسط سخريات الآخرين، لتأتي النهاية دالة على تمسكه بهذا الأمل/التواصل مع الحياة من خلال محاولة استرجاعه للكون:
"... ومضى يسترجع صورةً للكون.. حتى غَيَّبه الليل.. وظلَّ صوت العصا الْمُتحسِّسة يُسمَع واهِناً في الظلام" ص168.
تُختتَم المجموعة ختاماً مشهدياً دالاًّ من خلال نص"انبعاث" أو اللوحة التشكيلية الطبيعية الباهرة التي تتعانق فيها كل دلالات الحياة، وحلمها الطوباوي المتمثل في تآلف كل الكائنات والظواهر إبراز أجمل ما في الكون/الطبيعة/الأرض/الوطن المرجو، تحمل حلم المبدع/الكاتب/ ابن بيئته بأن تتفتح دنياه/أرض منبته و منشئه كما تتفتق الأرض عن باطنها الواعد بالخير..
"تندفع الغيوم.. تحجب الشمس.. تنسكب.. تتغلغل المياه بين خطوط الحرث.. في شوقٍ إلى دفء الأرض.
يهتزُّ التراب.. يربو.. يتشقَّق.. تتفتَّح الحَبَّة في الأحشاء.. تنتأ البراعم.. تبرز.. تنبعث.. خضراء.. طريَّة.. تكبر.. تستغلِظ.. تستوي على سُوقِها.
تُطلِع السنابل رؤوسها.." ص172.
***
(2009)
ـ محمد عطية محمود.. قاص وروائي مصري.. الإسكندرية.
له:
ـ على حافة الحلم ـ قصص.
ـ وخز الأماني ـ قصص.
ـ في انتظار القادم ـ قصص.
ـ دوامات الغياب ـ رواية.
فائز بجائزة قصور الثقافة.
Mohamadattia_2003@yahoo.com