31 يناير، 2010

مَن يَفترِسُ الذئاب؟!

(إلى يوسف الشريف)
1
... الليل يفتَرس ظِلال الغابة.. الأرانب تلعب في الخلوات.. تحت الأشجار التي تؤطّر إحدى الخلوات يربض ذئب.. يقيس سرعة الأرانب.. حيْن يُدرك التفاوت في الإمكانات مع غياب عنصر المفاجأة يتثاءب.. يقف.. يتمطّى.. ينحدر باتجاه أسفل الوادي.. حيث تُطلق الذئاب عواءً جماعيًّا.. لكنه لا يصل تلك الليلة إلى قطيع الذئاب.
2
... في الصباح الباكر.. تحت الغربان الحائمة.. يَجد أحد الرعيان ذئباً مأكولاً حتى مُنتصفه.. ينتشر الخبر بالهواتف النقّالة عَبَر أثير أودية الجبل الأخضر.. وفي المساء تصدح مزامِيْر الرعاة حول النيران.
3
... ليل الغابة مليء بالدم.. يتكرّر مشهد الذئاب المأكولة.. لَم يَعُد حدثاً استثنائيًّا.. وعلى الرغم من العداء التقليدي بين الرعيان والذئاب.. إلاّ أن الرعيان لَم يستطيعوا إخفاء خوفهم.. فهناك شيءٌ ما يفترس الذئاب!
4
... مُخيّلة الرعيان تنطلق لرسم شكلٍ لآكِل الذئاب.. ضخم.. أسنانه قاطعة.. مخالبه حادّة.. سريع بما يكفي ليطال الذئاب.. يقهقه أحدهم مُتسائلاً: ما الذي سيأكله الوحش حين تنقرض الذئاب؟
5
... في إحدى ليالي القمر يسمع أحد الرعيان هريراً بالقرب من مَراح الأغنام.. الكلاب تنبح من بعيد.. تضع ذيولها بين أرجلها.. يتسلّل الراعي بحذر.. يُشرف على اللسان الصخري اللائذ مع انعطافة الوادي.. يرى ذلك الشيء.. كُتلة سوداء ذات أطراف عديدة تَجثم فوق أحد الذئاب وتمزقه.. يُخيّل إليه أنه يرى فوق تلك الكتلة جناحين.. دون أن يُشعل الكشّاف اليدوي يتراجع الراعي مُرتعشاً.
6
... في اليوم التالي تظهر على مَخالِي الرعيان وعلى الصخور وعلى جدران الكهوف صورة كائنٍ أسود ذي أطرافٍ عديدة يبسط جناحيه الطويلين.
***
(2007)

28 يناير، 2010

السَّجِيْن

1
... في كل ليلة يقف بالقرب من النافذة.. يُنْصت إلى البُوم.. أو إلى كلابٍ تنبح على شيءٍ يبتعد في الظلام.. وقُبيل الفجر تستيقظ زوجته.. تقوده مِن كتفيه إلى فراشه.. تسحب فوقه الغِطاء.. تلفّ البطانيّة حول قدميه.. تُدثِّره كطفل.
2
... في كُلّ ضُّحى يقول لزوجته وهو يتشمَّس فوق العتبة:
ــ في هذه الساعة يسمحون لنا بالخروج من الزنازين إلى الشمس.
فتهِزّ رأسها كشخصٍ اعتاد سماع أمرٍ يعرفه.. وتقول:
ــ تنذكر وما تنْعاد.
3
... بعد الغداء يقول:
ــ أتعرفين.. في هذا الوقت بالذات يضربوننا.
يقول ذلك وهو يلوك بعض محّ الخُبْز الذي يغمسه في الشاي الأخضر.
4
ــ هذا وقت تبادل الرسائل.
تفشل أحياناً كثيرة في إخفاء غضبها.. فتردّ بعصبيّة:
ــ لَك سنة كاملة.. تردِّد نفس الاسطوانة!
فيقول بهدوء.. كأنَّه لم يسمعها:
ــ كُنّا نتبادل الرسائل بواسطة الخيوط من فوق الزنازين أو من شقوقٍ في الجدران.
5
... كعادته يقف بالقُرب من النافذة.. ينظر إلى القمر وراء الأشجار.. يُنصِتُ إلى الأصوات الليليّة.. إلى الكلاب التي تنبح على أشياءَ تبتعد.
كانت تجلس وسط السرير.. تحتضن الوسادة.. تُطَوِّق رُكبتيها بذراعيها.. تنظر بِحنان إلى ظهره الغارق في الظلمة.. إلى كتفيه اللتين يُضيء أعلاهما القمر.. منذ عام لم تجرؤ ليلةً واحدة على أن تُذكِّره بفراش الزوجيّة.. كان قلبها يحدس بالشيء المخيف الذي حدث في السِّجن.
قالت بنبرة يشُوبها الخوف:
ــ بعد أيّام يبدأ الشتاء.
قال دون أن يلتفت إليها:
ــ حين يحلّ الشتاء يُغرِقون الزنازين بالماء البارد.
مرَّت فترة صمت.. استلقت على جنبها.. سحبت الغطاء على وجهها.. تكوَّرت على نفسها واضعةً رُكبتيها في صدرها وهي ترتجف.. هل كانت تبكي أيضاً؟ كان يُمكن ملاحظة اهتزاز كتفيها تحت الغطاء.. بينما ظلَّ هو واقفاً ووجهه إلى النافذة.. ينظر إلى القمر من خلال القضبان.. وظِلُّه الباهت ينطرح على أرضية الغرفة.. ويصعد متكسِّراً فوق السرير.
(2005)

27 يناير، 2010

آخِرُ العَسَل

... كانت تحدِّثه وهو يتنهَّد..
... تزوَّجا..
بعد شهر أصبحت تحدِّثه وهو يتثاءب.
(1994)

26 يناير، 2010

الْمُمَرِّضَة

1
... الممرضة الممتلئة تخرج من بيتها عند الضحى.. متجهة نحو المستوصف الواقع في طرف القرية.
2
... تمرُّ من أمام المخبز.. يلتفت الخبّاز.. يمسح جبهته بطرف كُمِّه.. يشهق.. يُمرِّر لسانه على شفتيه.. يهرول ناحية محطة الكهرباء تاركاً خبزه للنار.. ليخبرهم بأن الممرضة تترجرج تحت سماء الله حاسرة الساقين.
3
... موظفو الكهرباء عيونٌ شرهة تتزاحم في فم الباب.. الممرضة تتعثر تحت نظراتهم..
ــ واو.. هذي ملائكة الرحمة يا سِيْدي!
4
ينطلق أحدهم ليزفَّ الخبر إلى الورشة.. بأنّ الممرضة تتثنَّى في مشيتها.. وتلبس فوق الرّكَب.. عيني عينك.
5
... الطبيب وبعض المرضى على دَرَج المستوصف.. ينتظرون بترقُّب ممرضتهم العارية تماماً.
6
... الممرضة الممتلئة تبتسم مُحيِّية.. وهي تصعد الدرَج بجلبابها الأسود.. الذي يقصر عن كاحليها قليلاً.. بسبب الغسْلة العاشرة!
(2000)

25 يناير، 2010

صَخَبُ الأَحْذِية

1
السيد المحترم / .................................
تحية طيبة.. وبعد..
دعني أختصر لك الأمر دون مقدمات.. بحسبة بسيطة.. وبدون آلة حاسبة.. فالأمر لا يستدعي ذلك.. ففي هذه الجمعة المباركة.. وقفتُ في عدة طوابير.. كل طابور لا يقلّ عن ساعة.. طابور الخبز على الصبح.. طابور أسطوانة الغاز.. التي عندما أنحني وأُدحرجها فإنني ـ أكرمكم الله ـ أُشبه الجُعَل وهو يدحرج كُرَة الرَّوث.. طابور البنْزين.. طابور الوقوف أمام نقاط التفتيش.. طابور الملعب.. ففي هذا اليوم شاهدت مباراة انتظرتُها طويلاً.. فهي قمَّة الدَّوري.. الدَّيربِي.. ورغم أنني أثناء المباراة ـ أقصد في المدرّجات ـ تلقيتُ فردة حذاء على وجهي.. إلا أنني لن أشكو من ذلك.. لأنني رددت فردة الحذاء على صاحبها.. تستطيع أن تقول بأنني أخذت حقي.. لكنني سأحسب ساعتي المباراة.. فقد كانت شيئاً يشبه كرة القدم! وهناك ساعة لخطبة الجمعة.. فقد جلدَنا فضيلته ـ كعادته ـ بخطبة غاية في الملل.
في المساء كنت أنتظر فيلم السهرة.. فمنذ أسبوع وهم يُعلنون بأنه قمّة في الإثارة.. فتسمَّرت ساعتين أمام الشاشة.. لكنه كان فيلماً هابطاً.. عفِناً.. يصبح المجموع عشر ساعات.. على عدد أصابع يديكم الطاهرتين.
ساعة في تصفح جرائد لا تصلح حتى لِلَفّ السندوتشات.. وساعة أخرى على بابكم حتى سُمِح لي بمقابلتكم.. وهكذا يصبح المجموع اثنتي عشرة ساعة كاملة كحَدّ أدنَى.. فأنتم محتاجون إلى استعمال أصابع قدميكم الطاهرتين أيضاً في الحساب.. مع العلم أنني تغاضيت عن أشياء كثيرة.. فهذه عينات فقط.. بلغَتْ نصفَ اليوم.. فإذا قُدِّر لي أن أعيش مائة عام من العُزلة.. أعني مائة عام فقط.. فإنّ خمسين عاماً تكون قد سُرِقت من عمري.. واعذروني سيادتكم في هذا التعبير.. ولذلك فإنني ـ وفقاً للقوانين واللوائح المعمول بها في الدولة ـ أُطالب بتعويض عن نصف عمري.. يا الله.. خمسون سنة كاملة! مائتا فَصْل.. ستة وثلاثون ألفاً.. ومائتان وخمسون يوماً!
ودمتم..
2
... بعد أن أكمل سيادته قراءة الشكوى.. وضع يده على خده.. وبدا عليه الذهول.. والاندماج في ما يُفترَض أنه تفكير عميق.. ثم أطلق ضحكة عالية.. اهتزّت لها النوافذ.. والنجوم اللامعة على كتفيه.. جعلت لُعابه يتطاير على الأوراق.. استغرق في الضحك.. وهو يدقُّ الأرض بحذائه.. حتى دمعت عيناه.
قطع ضحكته فجأة:
ــ وتعترف خطّيًّا بأنك مشاغب في الملاعب!
تجهَّم.. نظر إليّ بغضب:
ــ امْشِي.. امْشِي اَطْلَع بَرَّة.. يا فاضي.
ترددت قليلاً بارتباك.. اندلق ماء وجهي.. بلَّلَ صدري.. وأصاب الرذاذ حافّة الطاولة.
قفزتْ إلى ذهني في تلك اللحظة عبارة لا أدري مَن قالها: (أفضل طريقة لتقبُّل الإهانة تجاهلها.. فإن لم تستطع تجاهلها فزايدْ عليها.. فإن لم تستطع المزايدة.. فربَّما كنت تستحقها).. وقبل أن أُقرِّر أيّ هذه الخيارات أفضل.. صرخ مرةً أخرى:
ــ بَرَّة!
على صدى الصرخة سمعتُ حركة أبواب تُفتح.. وهمهمات.. ثم ضَجَّ المَمْشَى الرئيسي والممرات بصخب الأحذية الثقيلة.
3
... خرجتُ لا أرَى طريقي.. وفي الانعطافة الحادة للدّرَج.. واجهتْني مرآة مستطيلة.. فاكتشفتُ أنني بلا وَجْه!
(1999)

24 يناير، 2010

البَدْر

1
... قمر الحصيدة يبدو مختلفاً هذه الليلة.. وهو يصعد فوق حافة الوادي.
داخل بؤرة الضوء.. شيء مُعتِم.. مُعلَّق.. كجسدٍ مصلوب.. الكلاب ـ بحسّها الغريزي ـ شعرت بوجود أجواء عدائية.. فأخذت تهرّ.. وهي تدسّ ذيولها بين أرجلها.
أنزل المصلوب يديه.. ضمّهما إلى صدره.. هبط.. انحنى.. تَمَطّى.. ثم شرع يمشي خلال الغابة.. نبحت الكلاب بوحشية.. وهي تحفر الأرض بأرجلها وتتراجع.. جنادب الحقول كفّت عن الإنشاد.
2
... تجمّعوا في طرف القرية.. يترقبون بفضول.. وخوف.. بعضهم اعتلى سطوح المنازل.
ــ إنها تقترب.
ــ أراها بوضوح.
ــ يا للفظاعة.. إنها عارية تماماً.
ــ وشعرها منفوش.
ــ هي هكذا دائماً.
3
... أفسَحوا لها.. الْتصَقوا بالجدران.. تمشي ببطء.. تتلفّت.. تتصفح الوجوه.
ــ لماذا تنظرون إليَّ هكذا؟ لا تقولوا لي بأنكم لم تروا امرأة عارية من قبل.. ملائكة! أنتم هكذا.. لا هَمّ لكم سوى هذا الشيء.. إذا كنتم لا تتضاجعون فأنتم تتحدثون عن المضاجعة.. وحتى في أعراسكم تتجمّعون بدافع الغريزة.. كما يحدث في مجتمع الكلاب.. واحد فقط هو الذي يَعْلَق بالكلبة.. بينما يكتفي الآخرون بالفُرجة وهم مستنفَرون.. تفو.
صالبت ذراعيها فوق نهديها..
ــ جئتُ قبل كل شيء لأتفقّد ممتلكاتي.. الواحد لا يفقد حقه في ممتلكاته لمجرد أنه اقترف خطيئة.. وأية خطيئة؟ علَّقتموني من ثديَيّ من أجل ماذا؟ لأنني مسحتُ عورة طفلي بالخبز؟ أمِن أجل خطيئة صغيرة كهذه أُشنَق في القمر إلى الأبد؟ ولماذا في القمر بالذات؟ ثُمّ إن الأطفال لا عورات لهم.
اقتربتْ من شيخ القبيلة.
ــ أنت يا ذكَر الجران.. أنت كفيل بتضليل الشيطان نفسه! أقسم أنك أنت مَن استولى على بيتي.. وسرق دجاجاتي وأرانبي.. لقد رأيت كل شيء من هناك.. من فوق.. كان الأجدر بهم أن يشنقوك أنت الآخر.. أنا لم أُشنَق لأكفّر عن خطايا الجميع.
قال ساخراً:
ــ أنا ليس لدي ثديان يُعلّقونني بهما.
ــ ليس من الضروري أن يُعلَّق المرء من ثدييه.. لن يعوزهم المكان الذي يُعلّقونك منه!
تعالت قهقهات في الخلف.. تسلل البعض مُبتعدين.
ــ إنكم تُشعِرون المرء بالرغبة في التقيؤ.. تلهثون ليل نهار.. كما يجري قمر المزن.. تجمعون القرش الأبيض لليوم الأسود.. كأن اليوم الأسود لا مفرّ منه.. حتى عُشّاقكم لصوص.. يختلسون النظرات.. يتهامسون.. يرتدون السواد.. يتسللون في أنصاف الليالي.. ويتسوّرون الجدران.
أخذت تمشي دون أن تلتفت إليهم.
ــ أعرفُ أنّ الشآبيب تتحول إلى حقول متموجة من السنابل.. لكنّ غيومكم عندما تهبط تُسرِع إلى البحر.. كأنها تهرب من شيءٍ ما.. لا شيء عندكم يتمّ كما يجب.. خبزكم إمّا أن يكون نيئاً أو محروقاً.. لكنه لا ينضج أبداً.
توقفت.. حكّت شعرها المنفوش.
ــ بالمناسبة.. لازلتم تحتفظون بإحدى عاداتكم القبيحة.. إذا جُرِح أحدكم.. بال له الآخر على جُرحه.. يا لها من حياة.. بَول على جُرح!
بصقت.. أشاحت.. أخذت تخطو مُبتعدة صوب الغابة.. عائدة إلى البدر.. الذي لايزال يتكئ منتظراً فوق حافة الوادي.
... عوى ذئب ثلاث مرات متباعدة.. وخشخشت الأشجار الراجفة في الريح.
(1999)

23 يناير، 2010

النَّمْل

1
... إنه السباق مع الصيف.. حيث الزمن اللاهِث.
الحركة دائبة على طول الدروب وتعرُّجاتها.. كل درب يغصُّ بالأجسام السوداء الصاعدة النازلة.. لا أحد يقف.. لا أحد يَحيد عن الطريق.. حتى أولئك الذين يبدون للوهلة الأولى عاطلين عن العمل.. ولا هَمَّ لهم سوى الرواح والمجيء خاليي الوفاض.. فهم ليسوا كذلك في الواقع.. إنهم حُرّاس النَّيَاسِب.. يتوزَّعون على مسافات محسوبة.. لا يسمحون بأيّ اختراق أَمني!
2
... من بعيد.. عند انحناءة السماء خلف الجبل.. يبرز رتلٌ من السيارات.. يسير ببطء عبر تعرُّجات الطريق الترابي.. أبواق.. زغاريد.. ضوضاء.
3
... يبدو الآيبون مُحمَّلين بمختلف البضائع.. قَشّ.. خافور.. قمح.. شعير.. بل بعضهم يحمل الطرائد.. فهذه عشر نِمال تجرُّ عنكبوتاً.. تلتصق بأرجله.. وقرنَيّ استشعاره.. يبدو ثقيلاً.. لكن الفرائس الدسمة تستحق العناء.
السماء لاهِبة.. الأرض تَلْذَع.. لكنَّ حكمة النمل تقول: (مَن غَلَى دماغُه في الصيف.. غَلَى قِدْرُه في الشتاء).
4
... يقترب موكب العرس.. القوافل في دبيبها الدؤوب.. عجلات السيارات تدوس مسارب النمل.. تقطعها.. تلتئم.. تقطعها.. تلتئم...
ويَمضي العرس عبر ضوضاء الأبواق والزغاريد.. يدهس.. يسحل.. يقطع الطريق.
... يتلاشى الضجيج.. وتلتئم دروب النمل خطوطاً سوداء.. تغصُّ من جديد بالأجسام النحيلة.. الصاعدة النازلة...
***
(2000)

19 يناير، 2010

الصَّرْخة

الصرخة.. إدوارد ميونخ
... جلس على النطع جلسته اليومية المعتادة.. أخذ يطرق على سندانه.
إلى جانبه.. على دفء النطع.. قِطَّة جاثمة.. تفتح عينيها مع كل طَرْقة.
(كم من المسامير دقَّ في أحذية الآخرين!؟).. سؤال يطرحه على نفسه مِراراً.
ألِفتْ يدُه المطرقة.. ألِفتْ ركبتُه الانثناء.. اعتاد ظهره على الانحناء.. ولم يَعُد أنفه يُنكِر رائحة الأحذية.
بدأ ـ كعادته اليومية أيضاً ـ يترنَّم بالأغنية الشعبية المأثورة عند الخرَّازين:
مازلت نشْكي بمشْكاي ... وعنِّي الدباير غابَــــت.
ومازلت نخْرِز بمشْفَاي ... عَلَيْ ركبتي نَيْن عابَت.
ومازلت نَمْسَح بيَمْناي ... عَلَيْ لحيتي نَيْن شابَت.
ثُمَّ توقف فجأة.. عن الغناء.. وعن الطَّرْق.. رفع رأسه.. ملأ صدره بالهواء.. برزت عروق رقبته.. اتسعت عيناه.. و.. صرخ.. صرخ بأقصى ما يستطيع الصوت البشري أن يفعل.
خرجت الصرخة.. صعدت.. تلوَّت.. انداحت عبر شوارع قريتنا.. تنْزلق فوق الجدران المُتقشِّرة.. من تحت زوايا السقوف.. تقتحم الأبواب والنوافذ.. تتسرَّب من خلال الشقوق..
توقفت الملاعق قبل أن تصل إلى الأفواه..
صرخ الجنين الذي كان مُتعسِّر الولادة..
نضجت الأرغفة في التنانير..
في الغُرَف الخلفية تكوَّرت النهود .. انشدَّ اللحم المُترهِّل..
تمزَّقت شِباك العناكب المنصوبة في الزوايا العُليا..
هَرَّت الكلاب.. دسَّت ذيولها بين أرجلها..
شيخ قبيلتنا ـ الذي كان يُعاني من عُسْر الحاجة ـ اندلق كل ما في بطنه فجأة..
في مسجدنا توقفت حَبّات المسابح عن التتابع.
فاضت الصرخة خارج قريتنا...
أطْلع الموتى رؤوسهم.. استندوا على الشواهد..
توقفت قوافل النمل.. اكتظَّت النياسب بالقَشّ..
تفتَّحت البراعم..
تشقَّق البَيض.. برزت مناقير العُصَيفيرات..
تحرَّكت سطوح البِرَك الراكدة.. ارتسمت فوقها الدوائر المتلاحقة.. لقلقت أطرافها المُوحِلة..
ثُمَّ.. سكن كل شيء...
... تابع الطَّرْق على سندانه برتابة.. والقِطَّة الجاثمة على دفء النطع.. تفتح عينيها مع كل طَرْقة.
(1997)

18 يناير، 2010

قَيْلُولة

(إلى عمر الككلي)
1
... نهار قائظ.. قريتنا تلبس ظِلَّها.. الجدران تُصدر وَهجاً.. البوزنِّيْن يئزّ تحت حوافّ السقوف.. الكلاب تغمس أجسادها في الماء الْمُتسرِّب من الْخَزّان الكبير.. تنفض آذانها بفرقعة لتطرد الشّعْران.
2
... الحاج (الصاوي) يبخّ الماء أمام دكّانه.. يُغَطِّي الخضروات بشوال مَبْلول.. يجلس على فراش الإسفنج حريصاً على لَمْس الزُّلَّيْج بقدميه الحافيتين.. يطقطق سبحته.. يتثاءب.. بجانبه قطّة بيضاء تتمدَّد في ظل الباب بالقرب من بلَل الشّوال.
3
... البَقّال يفتح كرتونة الحليب.. يلتقط الورق الْمُقوَّى الفاصل بين العُلَب.. يستخدمه مروحة.
الجزّار يرشّ الملح على القرْمة.. ينشّ الذباب.. يَلْعَن سنسفيل الصيف:
ــ قال لك الصيف ضيف!
الصَّبي الذي يبيع السجائر في زاوية الشارع يحكّ باطِن قدمه.. يفحّ مُغَضِّناً وجهه.
4
... في مَوات القَيلولة تظهر (سعْدَى).. شال أسود مُخَطَّط بالأحمر.. جلباب زَيْتِي.. سبّاط أَحمر.. يُطرقِع حين يرتفع عقبه ليصفع قدمها.
5
... نغم السبّاط يفتَضّ القيلولة.. تَمدّ يدها لتُسَوِّي الشال.. تَبْرق الْحِنّاءُ في كَفّها.. ترفع الكلاب أُنوفَها.. تُدير القِطّة رأسها.. تتوقف حَبّات السبْحة.. باب المجزرة يُحدث صريراً.. في البِقالة تنكسر زُجاجة زيتون.
6
الجَزّار يرفع السّبْسي بين إصبعيه مُخاطباً صبي السجائر من بعيد:
ــ وَلعة.. نار.. نار!
يُلَعِّب الصبي حاجبَيْه.. ويقَهْقه.
يقف الحاج (الصاوي).. ينْهَر الجَزّار:
ـ عَيْب.. الحياء زِينة.
يلْتفت إلى الصبي.. يَهزّ سَبّابته في وجهه:
ـ تحَشَّمْ يا فرْخ.
7
... تتجاوزهم (سعْدَى).. تُدير لهم ظهرها الذي تتأرجح فوقه ضفائر سوداء مع احمرارٍ في أطرافها مندلِقةً من تحت طَيّة الشال.. تغيب في زاوية الشارع.
... الجزّار والبَقّال يتغامزان.. فقد كان الحاج الصاوي يُطقطق سبحته على إيقاع السبّاط الذي لا يزال عالقاً في سراب القيلولة.
***
(2007)

17 يناير، 2010

الْمستجِدّ

ا
... هذا هو اليوم الأوّل لنا في التدريب كأفراد شرطة.. يَحلقون رؤوسنا.. يُصلّعونها.. الشَعْر المدنِي الذي ينمو كما يحلو له يجب أن ننساه إلى الأبد كما قال الحلاق.. يُوقفوننا صفاً في الساحة المفروشة بالحصى الأبيض المدبب.. فاصل من التوبيخ.. قاموس من الشتائم.. يأمروننا بوضع أيدينا متشابكة فوق رؤوسنا.. والمشي على رُكبنا التي تنحسر عنها السراويل.
أرمق اللافتة المنصوبة في طرف الساحة: (الأمن مسؤوليّة كلّ مواطن).. أتساءل: (هل مسؤوليّة المواطن الأمنيّة تقتضي أن يَمشي على رُكبتيه الحاسرتين فوق الحصى المدبب؟).
ل
... رُكبتاي يُغطيهما الدم الأسود المتخثر.. أَنظرُ بإعجابٍ شديد إلى صفوف أفراد الشرطة الأقدم منا.. لباس أزرق موحَّد.. مكوي بعناية.. أحذية سوداء لَمّاعة.. نفس الخطوة.. نفس حركة اليدين.. بالمسطرة.. وبطريقةٍ ما ذكّرني ذلك المشهد بالاستنساخ.
ك
... يُحضرون كلباً أسود من نوع (وولف).. يقودونه بطَوق سميك في رقبته.. يرفع أنفه باتجاهنا.. يُكشّر عن أنيابٍ صقيلة حادة.. يتساقط اللعاب من زوايا فمه.
يصرخ الضابط:
ــ ثابِت.. استعدّ.
يبدو أنّ استعدادنا لَم يكن كافياً.. لَم يُعجب حتى الكلب الذي أصدر هريراً وهو ينظر إلينا بغضب.. يزعق الضابط مرّةً أخرى:
ــ عادةً سِرّ.. أطلق طولك.. وافتح الخطوة.. وارفع راسك.. واعتزّ بنفسك يا حيوان!
ل
... يبدأ الضابط في الشرح:
ــ ينقسم درس اليوم إلى قسمان.
ــ إلى قسمين يا سَيّدي.
ــ الله الله.. من الحيوان الذي صَحّح لي؟
ــ أنا يا سَيّدي.
ــ أنت؟ مستجدّ تصحّح لضابط؟ والله عال.. العسكرية أصبحت مهزلة.. بعد انتهاء التدريب لفّ على الساحة ألف لَفّة.. وأي غلطة في العدد تبدأ من جديد.. مفهوم يا حيوان؟ إن شاء الله تلفّ إلى الأبد.. وعندكم عقوبة جماعيّة بعد الدّرس.. هذه هي العسكريّة.. الحسنة تخصّ.. والسيّئة تعُمّ.. هذا سبب تخلفنا من دون الأمم.. حتى المستجدّ يناقش الضابط!
ب
يتنحنح.. يستعرِض مزايا الكلب اللاهث إلى جانبه:
ــ هذا الكلب من فصيلة ممتازة.. سريع.. وثاب.. لا يتردد.. حاد النظر.. يتمتع بحاسة سمع قوية.. إلى درجة أنه يسمع ما خلف الجدران السميكة.. شديد التركيز.. غَير مُشوَّش.. يشمّ أقلّ الروائح على بُعد أميال.
... يُربّت على عنق الكلب بِحنان.. يُصدر إليه إيعازاً فيُقعي.. ثمّ يصرخ فينا:
ــ انتباه.
يشرع هذه المرّة في استعراض المواصفات التي ينبغي توافرها في الشرطي:
ــ سريع.. وثاب.. لا يتردّد.. حادّ النظر.. يتمتع بحاسّة سمع قويّة.. إلى درجة أنه يسمع ما خلف الجدران السميكة.. شديد التركيز.. غَير مشوَّش.. لديه حِسّ أمنِي.. يشمّ أقلّ خلل أمنِي على بُعد أميال.
***
(2008)

16 يناير، 2010

العِقْد

(إلى عاشور الطويبي)
1
... الغروب يُضفي على سكينة المقبرة رهبة.. تجثو.. تحتوي شاهد قبر الزوج بيديها.
2
... تنهض.. ينفرط عِقدُها.. تتناثر الحبّات في ثنايا العشب الذابل.. تلفّ الخيط المقطوع.. تَجمع الحبّات على عَجَل.
3
... عند السياج.. تُلقي نظرة من فوق كتفها على شاهد القبر المنتصب في العتمة.. باب المقبرة الصدئ يصرخ وهو يدور على مفصله.
4
... في سريرها الواسع.. المزدوج.. وعلى ضوء الشمعة.. تُحصي الأرملة حبّات عِقدها المنفرط.. وتبحث عن خيطٍ جديد.
***
(2008)

15 يناير، 2010

دَهْشة مَبْتورة

1
... الطفل يزحف نحو التلفزيون.. تجذبه أصوات الرسوم المتحرِّكة.. فم مفتوح.. لُعاب يقطر.
2
... تتوقف الرسوم المتحرِّكة فجأة.. تُظلِم الشاشة.. يظهر جنرال.. نظرة صارمة.. شفتان مزمومتان.
3
... الطفل يزوي ما بين حاجبيه.. يُطبق فمه.. يُعطي قفاه للجنرال.. ويَمضي زاحفاً نحو ضوء الباب المفتوح.
***
(2008)

12 يناير، 2010

منطقة نفوذ!!

1
... الجرو الأبقع يُقرّر هذا الصباح ألاّ يتورّط في أيّ نباح مجّانِي كما تفعل الكلاب الكبيرة التي تنبح حتى على الريح.. لكن قبل ذلك عليه أن يبدأ طقوس الصباح: يتمطَّى.. يتثاءب مادًّا رجليه الأماميتين حتى يتقوّس ظهره إلى الأسفل.. ينفض أذنيه بفرقعة.. يدسّ أنفه بين فخذيه ليطْمَئِنّ على فحولته.. يرفع رجله.. يبول.. يحرث الأرض بأظافره.. يكرّر ذلك في عِدّة أماكن ليؤكّد منطقة نفوذه!
2
... يتلفّت حوله.. يراقب الدجاجات.. تلتقط أشياء هنا وهناك.. يرفع وجهه.. ثلاثة عصافير تقف على حافة الجدار تُسوّي ريشها.. أسفل الجدار قطة تتشمّس.. منطقة نفوذه آمنة.. لا شيء يستحق النباح.
3
... يقترب من حافّة الوادي.. يتذكّر أنّه كان يسمع عواءً طيلة الليل.. الوادي يغص بالضباب.. يُقعي.. يُفكِّر ما إذا كان ينبغي أن ينبح على الضباب؟ لكنّه يَعْدل عن الفكرة بسبب خيوط الشمس التي أخذت تخترق الضباب.. يتساءل: (إذا فَكَّر في ضمّ الوادي إلى منطقة نفوذه.. فكم سيحتاج من البول لتأكيد ذلك؟!).
4
... يشفّ الضباب.. يكتشف الجرو أنّه يقف فوق الحافة الصخرية التي تؤطِّر الوادي.. يتطاول.. يظهر القاع السحيق.. تبدو الصخور الصقيلة وسط تعرّجات مجرى السيل.. يتراجع.. يَهِرّ.. يكتنفه ظل مفاجئ.. يرفع رأسه.. يرى سحابة صغيرة داكنة.. تنتهك منطقة النفوذ.. ها هو شيء يليق بالنباح.
5
... السحابة مسرعة.. الجرو يطارد الظلّ.. الظل يختفي وسط خضرة الغابة الغامقة.. يرفع رأسه.. ينبح.. يجري فوق الحافة دون أن يحيد عينيه عن السحابة.. يواصل النباح.. تنعطف السحابة لتعبر الوادي.. يشتد النباح.. ينعطف.. و... يسقط من فوق الحافة.. يتقلّب عدة مرّات.. يتقلَّب المشهد: غابة.. سماء.. غابة.. سماء.. صخور.. سماء.. يستقرّ على ظهره فوق الصخور الناتئة في مجرى السيل.
6
... خيط أحمر يسيل من زاوية فمه.. يتعرّج فوق الصخرة.. يتخثَّر فوق التراب.. يفتح الجرو عينيه.. يرى طرف السحابة يختفى من فوق حافة الوادي.. ينبح نبحة واهنة باتّجاه السماء.. ثُمّ يموت مفتوح العينين.
***
(2009)

08 يناير، 2010

فأر المكتبة

إلى الشاعر: مفتاح العمّاري
1
... ما أعبقَ رائحة الكتب.. خاصةً حين تخرج من المطابع لتوّها.. رائحة الورق تُدوِّخ.. الحبر.. الأغلفة الملونة.. حتّى إنّك تقول ـ على الرغم من الجوع ـ حرام أن تُقضَم هذه الكُتُب.. لكن للأسف الأشياء الجميلة هي التي تُغري بالقَضْم.. ما هذه الرائحة الأخرى؟ دعونا نستكشف الأمر.. غريب! قطعة جبن مالحة.. رائحتها تكاد تطغى على رائحة الكُتُب.. مُزيّنة بِحُبيبات سوداء.. يبدو أنّه نوع من البهار.. هل وصل الكرم بالبشر إلى هذا الحد؟ على مدار التاريخ كانت الولائم المبالَغ فيها تبعث على الشكّ.. يعتقدون أنّ الفئران غبيّة إلى هذا الحد.. فيضعون السُّمّ هكذا بكل وضوح فوق الجبنة.. ويضعون جميع الاتفاقيّات وراء ظهورهم.. السُّمّ من أسلحة الدمار الشامل.. هذا هو الإقصاء وإلغاء الآخر.. بل محوه من الوجود.. لن أمسّ هذه القطعة مهما بدت مُغرية.
2
... أنا لا أستطيع مقاومة الكُتُب.. بينما المكتبة بالنسبة للقِطَط السِّمان هي مُجرَّد ديكور.. فلم أسمع في حياتي عن قطِّ واحد يقضم الكُتُب.. علاقته بالكُتُب لا تتعدّى تشمُّمها.. أو الاستلقاء فوقها والتثاؤب بكسل.. على كُل حال.. الليل لا يزال في أوّله.. أنا أموت في كُتُب الأدب.. سأبدأ بالمُقبِّلات.. هناك دواوين شِعْر في أعلى المكتبة.. لا أدري لماذا يضعون الشِّعْر في الأعلى؟ سأبدأ بالشِّعْر الحديث.. فهو أخفّ.. وسهل الهضم.. الشِّعْر العمودي يتطلَّب أن أشرب بعده الكثير من السوائل.. حتّى تتحوَّل بطني إلى برميل يلقلق.. الشكل الهندسي للشِّعر العمودي يستفزّني أحياناً.. فهو منضود ومُرَتَّب أكثر مما ينبغي.. بالمسطرة.. قليل من الفوضى لا يضرّ.. بعض الدواوين خالية من الشِّعْر.. صدِّقوني إذا كان هذا شَعراً ـ حتى إنّه يُطبع في دواوين ـ فبإمكاني بكل سهولة أن أقضم الشِّعر.. أقصد أن أقرض الشِّعر.. عجيب.. أحياناً يكون الواحد شاعراً دون أن يدري! يقولون بأنّ الاختصار شقيق الموهبة.. أَمّا بالنسبة للقصائد الطويلة.. فنعرف أَنَّها وسيلة أولئك الذين لا يستطيعون نظم قصائد قصيرة.. هذا صحيح تماماً.. يقولون أيضاً بأنّ النثر كلام يمشي.. بينما الشِّعر كلام يرقص.. أنا شخصيًّا أقول إنّ بإمكان النثر أن يرقص أيضاً.. هذا يتوقَّف على براعة العازف.
3
... هذه مجموعة قصصية.. غلافها برّاق.. مُزَيَّن بلوحة تشكيليّة.. لنأخذ منها قَضْمة.. تفو.. لا طعم لها.. عبارة عن قصقصة وتقييد أحوال.. اسمه ثلاثياً.. طويل.. أسمر.. نحيف.. أحول.. أعرج.. رقبته معوجّة.. يسكن في الدور الثالث.. هذه تقارير مُخبرين وليست قصصاً.
4
... انتهينا من المقبّلات.. لندخل على الثقيل.. تلك الرواية الضخمة في الأسفل ستكفيني ربّما لعدة أسابيع أو شهور.. يا إلهي ألف صفحة! من خبرتي في القَضْم أُدرك سلفاً أنّ الروايات الضخمة لا تخلو أبداً من عشرات الصفحات الخالية من الطَّعْم.. من الصعب قول هذا.. لكن صدّقوني أو جرِّبوا بأنفسكم.. حتى الكُتّاب العمالقة العِظام يتورّطون في هذا.. كلّما قَضَمْتُ رواية ضخمة يتولَّد لدي سؤال: ما يُمكن أن يُقال في مائة صفحة لماذا يُقال في خمسمائة؟
5
ــ هل انتهيت؟
ــ مَنْ.. القِطّ؟!
ــ في الواقع دخلتُ المكتبة قبلَك.. كنتُ مُستلقياً في الأعلى أستمع إلى خربشتك من أوّل الليل.. أنت في الواقع تحاور نفسك.. هذا ما يُسمّونه الحوار في غياب الآخر.
ــ الآخر! هذا الآخر الذي تتحدّث عنه لا يُمكن حواره إلاّ في غيابه.. الحوار يقتضي الأمان أولاً.
ــ سمعتُ كل الهراء الذي تفوّهت به عن القِطط السِّمان.
ــ لَم يكن ذلك هُراءً.. هل تستطيع أن تقول لي كم كتاباً قضمتَ من هذه المكتبة؟
ــ قضْم الكُتُب لا يعنيني.. مهمتي قَضْم الفئران.
ــ طبعاً.. تعترف أنّك شرِّير.
ــ وهذا أيضاً هُراء.. أنا لستُ شرّيراً.. أنا أؤدّي دوري فقط.
ــ طبعاً.. من السهل قول ذلك.
ــ دعنا من هذه (الطبعاً).. أستطيع أن أقول لك إنّ الفأر هو الذي أوجد القِطّ.. أو لنقل خَلَقَه.. كما خَلَقَ الخروفُ الذئب.. وخَلَقَ الضفدعُ الثعبان.. الثعبان جائع.. والضفدع مسكين.. فما هو الحل في رأيك؟ ستُحدّثني عن القسوة والوحشيّة وإلغاء الآخر وكل هذه الترهات التي تعلمتَها من قَضْم الكُتُب.
ــ هل يعني هذا انّك ستلتهمني هذه الليلة؟
ــ رُبّما الآن.. هل يُساورك الشكّ في ذلك؟
ــ لديّ أُمنية أخيرة.
ــ كل أمانيك مُجابة.. هل ستتلو صلاتك؟
ــ كنتُ أنوي أن أختم وجبتي الليلة بقطعة جبن.. كنوع من التحلية.
ــ لا بأس.. سأنتظر.. لا تعتقد أنني لا أملك قِيَماً.
ــ لكنك مثل الجميع.. لا تتصرّف وفق قِيَمك.. أوووه.. طعم الجبن حرِّيف بعض الشيء.. انتقل الحرقان إلى رقبتي وإلى بطني.
ــ لماذا تستعجل؟ تلذَّذ بأكلها كما يحلو لك.
ــ أوووه.. انتهيت.. انتهيت.. أنا مستعد الآن.. حتى دون أن أربط عينَيّ.. أسرع.. أسرع.
ــ في الواقع لستُ جائعاً!
ــ ماذا؟! إن لَم تنْزل لالتهامي بسرعة فسأصعد إليك.
ــ غريب! كنتَ منذ لحظة تتحدث عن الشِّرّ والقسوة.. هل تغيّرت قناعاتك بعد قطعة الجبن؟
ــ أرجوك.. الرحمة.. انزل.. التهمْني!
ــ الفأر يتوسَّل القطَّ ليأكله.. يبدو أنّ مسار التاريخ يشهد في هذه اللحظة انعطافة حادّة.
ــ أتوسَّل إليك.. لَم أعد أحتمل.
ــ ألَم تقضم شيئاً من الواقعيّة في هذه المكتبة؟ الواقعية السحرية؟ أو حتى الواقعية القذرة؟ لأنّك ترزح تحت شعور بالاضطهاد فأنت تُفكِّر وتتصرَّف بعقليّة انتقاميّة.. لستُ في حاجة لقَضْم الكُتُب لأعرف هذا.. قد أبدو مغفّلاً في نظرك.. لكن ليس إلى درجة أن آكل الفئران المسمومة!
***
(2008)

02 يناير، 2010

الحافِر المشقوق

إلى الشاعر عبدالباسط أبوبكر محمد
1
... يرتوي الثور حتى ينتفخ.. لكنّ ذلك لا يُخفّف من حِدّة غضبه.. فهو غاضب منذ الصباح.. من قبل أن ينقشع الضباب.. بل من قبل حتى أن تطلع الشمس.. لا يَعرِف سبباً مُحدَّداً لغضبه.. إنّه غاضب وكفى.. من ذلك النوع من الغضب الذي يفقس المرارة.. يَحكّ جبهته بطرف الحوض الصخري.. ينطح عِجلاً مُرقَّطاً.. يخور مُبتعداً عن القطيع.
2
... كان يدّخر تلك النطحة للعجل منذ شهور.. لكنّه في أوقات هدوئه القليلة يؤجِّل ذلك.. وقد تهيّأت الظروف الآن.. ذلك العجل بالذات كان يُغيظه على نحوٍ ما.. وهو يعرف سبب ذلك بوضوح.. فهو ثور محلِّي.. وطني.. أحمر يميل إلى الاصفرار.. له قرنان حادّان.. مُقيم في هذا المرعى منذ الولادة.. وعلى الرغم من أنّه متأكد من كونه والد ذلك العجل .. إلاّ أنّه مُستاء لأنّ العجل جاء مُرقَّطاً كأمه الأجنبية.. كان يَعُدّ ذلك نوعاً من العقوق.. فلماذا لا يُشبه الأبناء آباءهم في هذا الزمان؟ على كل حال لَم يكن ذلك هو سبب غضبه في ذلك الصباح.. يبتعد كثيراً عن القطيع وهو لا يزال يخور.. على طريقة الثيران في التفكير بصوتٍ مرتفع.
3
... هناك إبل في أسفل الوادي.. ترعى الأشواك النامية على حافة مجرى السيل.. يُحَدّد الثور موقع الجمل.. يُدرك أنّه على مسافةٍ آمنة.. يقترب من ناقةٍ في طرف الإبل تقضم البَيْروف باستمتاعٍ ظاهر.. يحاول لَفْتَ انتباهها.. ينفخ الهواء من منخريه.. يحفر الأرض بحافره.. تُلقي عليه نظرة فَوقيّة لا مُبالية.. وتواصل قضم الشَّوك.
يدور حولها مُتأمِّلاً.. تسحره العينان الواسعتان والأهداب الغزيرة.. يتساءل ماذا تفعل بكل هذه الأرجل الطويلة؟ لكنّه يُدرك أنّ الرقبة طويلة بسبب طول الأرجل.. يغمره شيء من السرور لتوصله لهذا الاستنتاج.. يُحسّ بأنّ غضبه بدأ يخفّ.. لا يستطيع إخفاء إعجابه بهيأة الناقة المهيبة.. يقول متودِّداً:
ــ هل تؤمنين بالعلاقات المتفاوتة؟
تحرّك شفتها العُليا المشقوقة.. لا يعرف هل غضبت.. أم أنّ هذا هو شكل ابتسامة الإبل؟ يقول:
ــ أعني لو أنّ ثوراً أحبّ ناقة مثلاً.. ألا يُمكن للواحد أن يحبّ من طائفة أخرى؟ ألا يُمكن أن تنشأ علاقة بين ذوات الحافر وذوات الخفّ؟
تلتفت إليه وهي لا تزال تلوك المرّير.. تزدرد اللقمة.. يتتبّعها وهي تنْزل مسرعة داخل الرقبة الطويلة المعوجّة.. يستنتج أنّ لقمة الإبل تقطع رحلة طويلة.. يتمنَّى أنّ ذلك لن يكون له أثر سلبي على العلاقة التي يُخطّط لها.
قبل أن تلتقط شوكة أخرى تقول:
ــ هل تستطيع السير في الصحراء بهذه الحوافر المشقوقة الحادة؟
يفاجئه السؤال.. يشتمّ فيه رائحة السخرية.. فيَردّ:
ــ إذا كان الحصان يستطيع فأنا أستطيع أيضاً.. لكنّ هذا ليس ما يشغلني.
ــ أعرف ما يشغلك منذ اللحظة التي درت فيها حولي دورةً كاملة.. لا تقلق من هذه الناحية.. هذا أمر مقدور عليه.. يُمكننا أن نستغل التضاريس.. من أجل ماذا وُجِدت التضاريس؟!
يُحسّ الثور بأنّها قد وفّرت عليه الكثير من الكلام.. وقطعت شوطاً هائلاً لَم يكن يتصوّره.. يبدأ التفكير في الخطوة التالية.. تفاجئه بسؤال آخر:
ــ هل تقدر على تحمّل العطش لعشرة أيّام؟
ــ سأحاول.. في الواقع أنا أشرب يوميًّا.. لكن يُمكنني التحمل ليومٍ كاملٍ دون شرب.
ــ يوم كامل!
ــ أعني أنكِ تدّخرين الكثير من الماء.. ويُمكننا أن نتقاسمه!
تردّد بتمهُّل:
ــ يوم.. كامل.. دون.. شرب!
ينظر إليها متسائلاً (هل يعني هذا أنّها وافقت؟).
4
... في اللحظة التي يَهمّ فيها الثور بسؤال الناقة.. يُفاجأ بالجمل يهدر وراءه.. فيتنحَّى عن طريقه.. ينظر إليه من بعيد وهو يسوق الناقة في أثر الإبل.
5
... يصعد الثور مع سفح الوادي وهو يفكّر: (إذا أنجبتُ مخلوقاً من هذه الناقة هل سيشبهني أم يشبهها؟ اللعنة.. هذا العالَم مليئ بالظلم.. عالَم يحول فيه حافر مشقوق دون الحبّ.. يا للتفاهة.. لو أملك القدرة لأعدتُ صياغة هذا العالَم على أُسسٍ أخرى).
يبتعد وهو يشعر برغبة جارفة في أن ينطح العجل المرقَّط مرةً أخرى.
***
(2008)