28 فبراير، 2011

فارق التوقيت ..

حين حدد الشباب الليبي تاريخ (17 فبراير 2011) يوماً لانطلاق غضبه المكبوت.. ظهرت على الفيس بوك صفحات جديدة تحمل صور الزعيم المزمن.. تتستر خلفها أسماء مستعارة.. وشرعوا يهددون كل من يدعو إلى التظاهر السلمي.. فهاجمناهم ودعونا إلى حظرهم من صفحاتنا.. وقد كان.

وحين انطلقت الانتفاضة السلمية في الشارع قام نظام القذافي بحرق المراحل في مواجهتها.. فلم يستعمل خراطيم المياه.. ولا القنابل المسيلة للدموع.. ولا الرصاص المطاطي.. بل الرصاص الحي الخارق الحارق المضاد للدروع.. ومضاد الطيران.. فالصدور الحاسرة للشباب الغاضب أكثر خطراً على الأنظمة الديكتاتورية من الدروع والطيران.

أنا أتفهم عدم استعماله القنابل المسيلة للدموع.. فهو يعرف أن الليبيين لم تعد لديهم دموع.. فقد استنزفها حين سلّط عصابات اللجان الثورية لشنق الطلبة في الجامعات ونقل الشنق على البث المباشر في التلفزيون وفي رمضان.. ثم قتل أبناء الليبيين في صحراء تشاد ومجاهل أدغال أفريقيا.. ثم ارتكب مجزرة سجن أبوسليم.. هذا غير السجون المكتظة تحت الأرض وفوقها.. وقصف أودية وغابات الجبل الأخضر بقنابل النابالم المحرّمة دولياً.. والجبال السوداء في رأس الهلال لا تزال شاهداً على ذلك.. فالليبيون أدركوا أن ذرف الدموع مرحلة انتهت.

مرتزقة القذافي وأسلحته الأوتوماتيكية التي استعملها منذ اللحظة الأولى في مواجهة الانتفاضة السلمية تفاجأ أنها لم تُجد نفعاً.. وحين سال الدم الليبي الأحمر القاني الفائر الغزير تنفّس الغضب المكبوت لعقود.. فحتى المترددون خرجوا لمواجهة الرصاص الحيّ بصدور مشرعة.. وبعيون تنظر مباشرة في وجه الموت.. لم ينكسر خوفهم وحسب.. بل أخافوا الخوف نفسه.. وسيسجل التاريخ أن القذافي هو أول رئيس دولة يستأجر الأجانب لقتل شعبه..!!

وتحوّل الديكتاتور من خانة المتسلط المخيف.. إلى خانة الخائف المنزوي في جحر تحت الأرض.. وبدأ يبحث عن أسلحة جديدة.. فشرع يخيف الغرب ببعبع الإسلاميين.. وهجرة الجنوب.. والحروب الأهلية.. وأخذ يتحدث عن القبلية وكأن الليبيين لا يزالون يعيشون في نجوع ومضارب يغزو بعضهم بعضاً.. ونسي أنه لم تعد هناك قبيلة في ليبيا من الناحية الواقعية.. فتجد العبيدي وزوجته برعصية وأمه حاسية وجدته لأمه مسمارية وجدته لأبيه ادرسية.. أي تجد في الأسرة الواحدة أحياناً أكثر من خمس أو ست قبائل.. ولعب على مسألة الشرق والغرب.. ونسي أيضاً أن الشرق والغرب في ليبيا هو مجرد توصيف جغرافي فقط.. ونسي أن الشباب المنتفض هو شباب الفيس بوك.. وليس شباب النجوع.. وتخويف الليبيين بالقبلية هو مثل تخويف المصريين في ميدان التحرير بالجمال والحمير.. أسلحة من زمن غابر.

لقد نسي القذافي أن الأزمات توحد الناس.. فحين جاء الطليان إلى ليبيا كان الليبيون في ذلك الوقت بالفعل مجموعة من القبائل التي يتقاتل بعضها.. فوضعوا كل خلافاتهم جانباً ووجهوا سلاحهم إلى المحتل.

إن السبب الجوهري لسقوط الديكتاتور ـ من وجهة نظري ـ هو فارق التوقيت.. فالقذافي لم يستطع تجاوز اللحظة التي استولى فيها على السلطة في سبتمبر 1969.. فظل يراوح في مكانه.. يرفع قبضتيه في الهواء ويسب ويشتم منتشياً بأصوات الهاتفين المطبلين له.. ولم يستطع الخروج من هذا الوهم حتى فاجأته ثورة الشعب الليبي.. ثورة شباب ولدوا جميعاً في عهده.. فرض عليهم مقولاته وأطروحاته في المناهج الدراسية.. مادة المجتمع الجماهيري.. والوعي السياسي.. وبراعم وسواعد وأشبال الفاتح.. ولأن الباطل زهوق.. فلم يفلح القذافي بكل وسائله في محو وطمس الهوية والشخصية الليبية الأصيلة.. وحوّل الليبيون مقولات الزعيم المزمن إلى مادة للسخرية.

ولأن القذافي متأخر دائماً في التوقيت فقد جاءت حلوله للأزمة مضحكة.. فهو يعرض الأموال الطائلة على الليبيين بعد أن قتل أبناءهم.. فقالوا له دون أدنى تردد: (هيهات)..!! ثم يقوم بالإعلان على أن الحكومة تزيد المرتبات بنسبة (150%).. ونسي أيضاً أنه لم تعد هناك حكومة أصلاً.. فيستنجد بمشائخ السعودية لإصدار فتوى بتحريم التظاهر.. فيرد الشيخ عائض القرني مؤيداً فتوى الشيخ الليبي الصادق الغرياني الذي أفتى بوجوب الخروج وقتال النظام.. فمنذ متى والقذافي يهتم بالدين وفتاوى الفقهاء؟!

وإذا كان زين العابدين قد فهم وهرب.. ومبارك قد فهم وعاند وتنحى.. فإن القذافي لم يصدّق.. فصرخ بصوت متهدج مبحوح: (من يصدّق؟ هذا عقابها؟ معقولة يا عالم؟ هذي آخرتها؟).

ولأن القذافي لا يستمع إلا إلى نفسه.. فهو لم يسمع ولم ينتبه إلى أن الشباب الليبي كتب في صفحاته على الفيس بوك.. قبل يوم السابع عشر من فبراير.. كتبها الشاعر سالم العوكلي تحديداً: (على الحاكم المقيم خارج شعبه أن يراعي الفارق في التوقيت).

***

الأحد.. 27 فبراير 2011

12 فبراير، 2011

كائنات أحمد يوسف عقيلة ...

قراءة في الخيول البيض

بقلم الشاعر: مفتاح العمّاري

إننا نتعرف على آلاف الأشخاص.. لكننا سننجذب فقط إلى القلة الذين يحوزون على سرّ ما.. يجعلهم يستأثرون باهتمامنا وعنايتنا.. القلة الذين نتعاطف معهم وجدانياً.. و الذين من ثم سيشكلون جزءاً من نسيج تجاربنا وخبراتنا ومعارفنا.. ينطبق هذا القول على الكتب والأمكنة.. وكذلك النساء.. ففي رحلتنا مع الكتب ستختلف وتتنوع وتتعدد المحطات والعواصم والظلال.. ثمة كتب نمرّ بها مروراً سريعاً عابراً.. ولا تقتضي منّا كثير جهد أو وقت أو عناء.. لأنها لا تملك ما تقوله أو تدّعيه.. فبعضها قد يشعرنا بالملل بدءاً من الصفحات الأولى بحيث تتعذر مواصلة السفر معها أكثر من بضع لحظات لنغادرها متأففين مستائين.. بعضها ربما يحتمل تحايله أو تذاكيه الرفقة على مضض.. تحسبا لخبء جميل قد يكون مندساً.. ولكننا ما نلبث بعد حين أن نكتشف خديعة الملفوظ.. لنخرج كما يقال - بخفيّ حنين -. غير أن المؤانسة قد تستمر دهراً مع الندرة التي تغدق علينا من السحر ما قد يفيض أحياناً عن حاجتنا.

هذه التقدمة.. وهي تشير بتلطف إلى ما يندرج في خانة البديهيات.. إنما تطمح لشيء من التبسيط بغية التدليل على الأبهى في تفرده.. والذي يجعلنا نتوقف عنده وحده دون غيره.. ونصفه ونسمّيه.. ونبحث له عمّا يليق به من مديح.. اعترافاً وإنصافاً لما يبثه فينا من روح سخية.. ستظل دائماً وهّاجة وجامحة وتائقة ونضرة.. هذه هي الشراكة الحقّة التي علينا أن نحرص كل الحرص على تمتين عراها.. مع المتن المقروء ودعم روافدها.

يتعلق السحر هنا بكتاب (الخيول البيض) للقاص الجبليّ (أحمد يوسف عقيلة).. الذي بدأ واثقاً منذ البدء من ضراوة حلمه.. فأشار علينا أن نتبعه مأخوذين بشيء ما.. يكمن في ثنايا أسطورته.. ونحن حين نتساءل عن ماهيته.. عن سطوة هذه الكاريزما.. عن هبات العلو فيه ومعه.. عن المغويات التي فخختنا.. عن وعن.. أنما نلبي الشغف ذاته في إعادة كتابة المقروء.. قد نعزو في بساطة أن جبروت المخيلة ما كان له أن يبلغ هذا السمو لو لم يستحوذ على ذلك الشغف الحار وهو يغزو فضاءه بوَله المحبّ.. الشغف نفسه الذي ما يلبث أن يتلبسنا إزاء القراءة.. لأن ما كُتب بشغف.. سيُقرأ بشغف أيضاً.. كذلك على الكلمات أن تحذو الحذو ذاته.. الكلمات التي منحته هذا القدر أو ذاك من البهاء.. الكلمات.. ذخيرة الكاتب ولعبته.. والكلمات أيضاً.. لُحمة المتن ونسيجه في العالم الذي تتوخى إعادة خلقه من خامات ملقاة على الطريق.. وهو ما يتكفّل القاص في (الخيول البيض) بمهمة اكتشافها.. ليجعلنا نرى ما لم نره.. وكأنه يصقل المرايا بالقدر الذي يتيح لنا معرفة عالمنا بصورة مغايرة.. لم نتعوّدها.. أعتقد أن أي كاتب أصيل عليه أولاً أن يتفهّم هذه المعادلة.. ويقترب من لدنها.. ويتعلّم طقوسها ومراسمها وعاداتها وتقاليدها.. حتى يتمكن من امتلاك المفاتيح الكفيلة أولاً وقبل كل شيء بفك مغاليق سيمياء المحيط. وقد أدرك (أحمد يوسف عقيلة) هذا الشرط جيداً.. فنجح في الوصول مبكراً إلى مخابئ الكنز.. أي منذ مجموعته القصصية الأولى كان على دراية تامة بما يفعل.. لهذا تفوّق في رحلة سرده على مجانية المتاه.. ليضفر بصيده دونما حاجة للغو.. فبأقل الكلمات تعقيداً وأبلغها اختزالاً وتكثيفاً وتبسّطاً.. استطاع هذا الحاوي أنسنة غابة الجبل الأخضر.. وترويض وحوشها لتتضافر جميعها في صناعة جملة سردية بالغة المعنى.. حيث لا يسع الخيال وحده أن يكون إبداعاً ما لم ترضخ اللغة لمشيئة رؤاه.. هذا تحديداً الشقّ الأهم في كاريزما هذا الفحل.. زوج الغابة.. ومروّض الفتنة.. وهاتك السرّ.. وسائس المعنى.. لأنك عندما تريد أن تصنع أدباً ليس بالضرورة أن تكون لغوياً.. بل عابداً خاشعاً للغة.. وعاشقاً متيماً يحدس حلم حبيبته.. ويسبر أغوارها.

لهذا لا يسع القراءة إزاء قصص (أحمد يوسف عقيلة) إلا أن تستسلم لطغيان الخيال الباذخ.. ولاسيما في (الخيول البيض) حيث يبرهن هذا الجبليّ البارع على مقدرة فذة في إيقاظ الأشياء وبث الروح في الكائنات التي شبعت موتاً.. صياد ماهر وقنّاص دُربة للانقضاض على كائنات ومخلوقات بيئته الجبلية.. بل يعد الأبلغ دراية.. والأوفر خزيناً وخبرة وتجربة بما ينطوي عليه المكان من معارف وأشياء وأسماء.. كذلك ما تدخره ذاكرته من كنوز ووقائع وأحداث.. مما جعل قصصه مدونة ثرية.. ومعجماً حافلاً بكل المخلوقات المكابدة والجسورة.. بل والمتشبثة هي الأخرى بحياة عليها أن تستمر على الرغم من غوائل الغاب.. وتقلبات الطبيعة.. وشحّ المواقيت الخائنة.. من حيوانات وحشرات وطيور بلدته الجبلية الصغيرة المتاخمة لوادي الكوف.. (ماميللى) التي سُميت (عمر المختار).. تظل محظوظة جداً بهذا العرّاف الذي استطاع أن يحشد كل أساطير وخرافات ومأثورات الحكمة التي توارثتها المنطقة.. لتأتي قصصه من جهة أخرى بمثابة موسوعة للأمثال والحكم الشعبية.. بهكذا سرد قد استطاع.. وباقتدار.. أن يلامس مناطق شديدة التنوع والحساسية والتطلّب.. لذا تعدّ قراءته ضرورة ملحة.. ومجدية.. ليس لمعرفة المكان وحسب.. بل لإشباع ذلك الشغف الذي يظل دائماً في حاجة لمثل هكذا كتابة تتضافر في خلقها العديد من الروافد الفنية.. لشحن الوجدان بطاقة روحية.. تتوفر على فيض من التدفق والخصوبة.. يتاح عبرها السفر إلى مجاهل لم تكتشَف بعد.. فعبر خصائص السرد التي تتوفر على جملة من التراكيب الأسلوبية.. تشي بمعرفة طموحة.. ومثابرة شديدة الإخلاص للكتابة.. هي بامتياز كتابة تدل عليه هو وحده (أحمد يوسف عقيلة) كقاص شديد الندرة من حيث تفانيه إلى حد الفناء في خدمة نصوصه.. يكرس كل ما يمكن أن يجعل هذا النوع السردي على علاقة وطيدة التماس بحساسية العصر وذائقته من جهة.. ومن جهة أخرى لأنه الأبلغ تعبيراً عن الهوية.. فقصته تعد لصيقة إلى حد الانصهار ببيئتها.. إضافة إلى خاصية اللغة المستخدمة.. حيث يبرع القاص في استخدام المفردات الذكية التي تليق بسارد حاذق يعرف ماذا يريد.. من دون أن يهمل استدراج الألفاظ المستعملة في المحكيّة.. أسماء الأشياء والأمكنة والشخوص.. بحيث يستأنس الأسماء المحلية ليسبغ على قصصه درجة عالية من المصداقية.. كما نجده أيضاً يوائم بين الأرض والسماء.. لتتجاور مفارقات اليومي والمعيشي مع الميتافيزيقي.. ضمن أنساق درامية تنطوي على حمولات شعرية.. متقاطعاً في يسر وبداهة مع واقعية سحرية.. مكتظة بكل ما هو غرائبي وعجائبي ومدهش.. لهذا أعترف كقارئ يدّعي الإنصاف في احترام الأصيل والجديد والمختلف.. بأنني حيال سرد (أحمد يوسف عقيلة) أجد متعة عالية كلّما استعدت قراءة كائناته التي تهبني قدراً من البهجة والطمأنينة والتأمل.. لهذا قد احتل هذا الساحر موقعاً مرموقاً في مكتبتي.. ليصطف جنباً إلى جنب بين أفراد عائلتي الأثيرة.. أي في مصاف النخبة الذين أحرص على مسامرتهم بين الحين والآخر.. حيث حرصت أن يكون كتاب (الخيول البيض) قريباً من: مرآة الحبر لبورخيس. والخيميائي لباولو كويلهو.. والمجوس لإبراهيم الكوني.. ولا ريب في أن يحوز هذه المرتبة.. وذلك بفضل ملَكته الآسرة.. والتي بقدر ما أعلنت عن نفسها في ما أنتجه حتى الآن من قصص قصيرة.. إلا أنني أحدس بأن المنتظر سيكون مفاجأة لتاريخ الأدب.. لأن (عقيلة) في ما عبّر عنه سابقاً لا يعدو عن كونه محض مقدمة لكتابة أدب عظيم.

قرأت هذا الجبلي منذ الربع الأخير من عشرية تسعينيات القرن الماضي.. وقد تأجل رأيي بصدد كتابته كل هذه الفترة.. ربما لأسباب تتعلق بكتابته نفسها التي لا تقول كل شيء دفعة واحدة.. فهي تستدرجك إلى قراءات لا تنتهي.. فلكل قراءة لذاذتها ومتعتها واكتشافها وتأويلها.. وربما لأنه يثابر بفيض عارم من الوفاء منقطع النظير.. يهبه القدرة على السفر المتواصل في مجاهل القَصّ.. بروح الرحّالة والمغامر والبحّاثة والمكتشف الأثري.. بغية تهيئتنا.. وعلى نحو دائم للتنقل معه.. من عوالم مدهشة إلى أخرى أشد دهشة.. وأبلغ أثراً.. وأكثر سحراً.

في (الخيول البيض) لكَم يبدو العالم بكراً وطازجاً وبريئاً.. حين نلامس لأول مرة الضفاف التي لم تطأها مخيلة بعد.. نحن هنا إذ نكتشف المكان.. إنما نكتشف أنفسنا.. لأن الحقيقة والمجاز يؤكدان دونما تلكؤ بأن الكتابة الأكثر تغلغلاً وبقاءً هي تلك التي تنقّب داخل أحلامنا.. وهذا ما فعله هذا الجبليّ.. إنه ببساطة.. حاول أن يشاطرنا رؤاه دونما خجل.. لنكتشف بأننا جميعاً من سلالة الأحلام ذاتها.. وأن ما يشذّ في هذا الحيز أو ذاك من السرد.. إنما لأننا قد جُبلنا أحياناً على الاستئناس بعثرات المخيّلة.. لذا نشعر غالباً بضرورة الإصغاء كلّما تربّع حَكّاء في مثل إعجاز مخيّلته على سُدّة الحكاية.. وهم قِلّة في زمن أمست فيه الحكاية تأخذ لها أشكالاً ممسوخة.. تفقدها غالبا لذة السفر.

____________

صدرت طبعتها الأولى عن الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان بليبيا1999.. وطبعتها الثانية عن دار الحوار بسوريا2010.. وطبعتها الفرنسية2005.

04 فبراير، 2011

رفقاً بليبيا ..

تقول الإحصائيات إن ثلاثة أرباع الشعبي الليبي تحت سن أربعين عاماً.. الشاب الليبي يبلغ أربعين عاماً دون عمل.. دون زواج.. دون سكن.. دون سيارة.. وعلى الرغم من ذلك لا نسمع اعتداءً على مصرف.. أو مؤسسة.. أو سوق.. على الرغم من أن حراسة المصارف والأسواق في بلادنا ليست مشددة.. بل لا تكاد تكون حراسة بالمعنى المعروف.. قُطّاع طُرق الدينار والدولار معروفون.. أصحاب المشاريع الوهمية.. والقصور.. والمزارع.. والأرصدة بكل العملات الصعبة والسهلة داخل البلاد وخارجها.. والسيارات الفارهة التي نجد صعوبة في نطق أسمائها.. ونمر بالقرب منها على أرجلنا ونكتفي بالنظر إليها من بعيد وهي أشبه بالمركبات الفضائية.. ونتساءل: هل نحن ليبيون حقاً؟

رفقاً بالشباب الليبي المحروم ورغم ذلك لا يمد يده.. ولا يعتدي على الممتلكات.. استجيبوا لمطالبه الأساسية.. دون تفضّل أو مِنّة.. قبل أن يرفع سقف هذه المطالب.. وتفقد البلاد الأمن والأمان.. الشباب الليبي لا يؤمن بأي شكل من أشكال العنف.. فلا تجبروه على فعل شيء لا يؤمن به.. هل تعتقدون أن الشباب الليبي لا يسمع ولا يرى؟ من هو الذي لا يتفرّج على قناة الجزيرة؟ حتى الذين يلعنونها لا يفوتهم حصاد اليوم..!!

***

الجمعة 2011.2.4

01 فبراير، 2011

اللعنة على الوطن..!!

1

في طفولتي سمعت حكايات الحرب ضد الطليان.. وعرفت أن جدّي لأمي قُتل في تلك الحرب.. وعمّي شطرته قنبلة إلى شطرين.. وأبي تزوّج أمي في معتقل المقرون.. وكل من استمعت إليه كانت له حكاية عن الموت والفقد.. وتقول أمي وهي تشير إلى أثر الشظية في رقبتها: (كل هذا على شان الوطن).. وعلى الرغم من أن كلمة الوطن لم تكن واضحة في ذهني.. إلاّ أنني تصورته شيئاً عظيماً يتلقى الناس شظايا القنابل في رقابهم من أجله.. بل ينشطرون من أجله.. ويزغردون لمن يتدلى من حبال المشانق في سبيله.

2

سمعت أبي يتحدث عن النفي.. وكيف ينتزعون الرجل من بين أطفاله ويعبرون به البحر إلى جزر نائية.. وأبي حين يذكر البحر يغمض عينيه مع ارتعاشة خفيفة.. ويقول في ختام حكايته (كل هذا على شان الوطن).. وكبرت صورة الوطن في نفسي.. هذا الكائن العجيب الخرافي الذي يغادره الناس من أجله..!

3

في المدرسة انتزعونا من الفصول في يوم بارد ماطر.. جمعونا في ساحة المدرسة.. وقالوا لنا: (الوطن في خطر.. قطار الموت يتجه نحونا بسرعة فائقة).. وقلنا ضاحكين: (كيف لقطار الموت أن يأتينا وليست في بلادنا سكة حديدية؟!).. وكانت الإجابة عند الضابط.. صرخ فينا.. وأعطانا إيعازاً بالانبطاح.. زحفنا على بطوننا.. تلقينا أحذية العساكر على مؤخراتنا.. مع سيل من الشتائم النابية.. وحين نهضنا مقرورين.. مموّهين بالأوحال.. ورُكبنا تسيل دماً.. ورآنا الضابط نرتجف.. قال لنا وهو يضحك.. (كل هذا على شان الوطن).. أحسسنا بشيء من الزهو لأننا زحفنا على بطوننا في الأوحال.. وداستنا الأحذية الخشنة من أجل الوطن..!

4

سمعت مذياعنا يغني للوطن:

وطنّا يا وطنّا..

في الظرف الشديد..

أنده يا وديد..

ندفع بالغالي النفيس..

واقرب من حبل الوريد..

والغالي يصبح لك رخيص.

5

فجأة.. اصطفت الحافلات.. وقال لنا الضابط.. (هيّا.. حملة تشجير).. لكنّ الحافلات دخلت إلى المطار العسكري.. وحملتنا الطائرة الروسية الضخمة على الفور إلى الصحراء.. وحاربنا هناك بعيداً عن الوطن.. حاربنا أناساً لا نكرههم.. بل لا نعرفهم.. وقال لنا الضابط (هذا على شان الوطن).. لكننا لم نصدّقه هذه المرّة.. ففررنا.. تركنا سلاحنا.. ورفاقنا الذين قُتلوا بدون أن ندفنهم.. تركناهم هناك بلا قبور.. ولا صلاة من أجلهم.

فاللعنة على وطن يجعلنا ننبطح ونزحف على بطوننا في الوحل.. اللعنة على وطن يجعلنا نتلقى أحذية العساكر في مؤخراتنا.. اللعنة على وطن يبذرنا في المنافي.. اللعنة على وطن يتحول إلى غول تنشطر أجسادنا من أجله دون أن يشبع.. اللعنة على وطن يُصفع فيه بائع الخضار لأن عربته التي أكلها الصدأ مرّت من أمام مبنى الحكومة الصدئة.. اللعنة على وطن يحارب فقراؤه فقط من أجل رفاه أغنيائه.. وألف لعنة على وطن يلتهم ولا يعطي...

... ورغم هذا.. فإننا نموت عشقاً لوطننا.. فنحن من سلالة أناس تشظّت أجسادهم من أجل هذا الوطن اللعين.. وورّثونا جيناتهم.

***

الجمعة 2011.1.28

ليست هناك مشكلة في ليبيا..

الرسم الساخر للفنان الليبي محمد الزواوي

1

كان المسؤولون في ليبيا.. صغاراً وكباراً.. حين تطلب خدمة يقولون لك مع تكشيرة: تعال بكرة.. تعال بعد بكرة.. والاّ نقول لك: تعال الأسبوع الجاي.. أو بعد رمضان.. الدنيا صايمة.. وموش وقت شغل.. ولك زمان تنتظر.. أو يقول لك المسؤول وقت الاحتفالات القومية وهو يغضّن وجهه: (خلّي نين ها الزعزاعة تهلب)..!! وتتلفت حولك فترى شمس بلادنا ساطعة والجو رائقاً.. ولا أثر لعجاج أو زعزاعة.

2

كان هذا في وقت ما.. أما اليوم فقد طوّر المسؤولون ـ صغاراً وكباراً ـ أساليبهم.. مسحوا التكشيرة.. وضعوا مكانها ابتسامة عريضة.. وسبحة مزخرفة.. أصبحوا أكثر أناقة.. وتهذيباً.. أو هكذا يبدو.. أحياناً يقف أحدهم من فوق كرسيه الدّوار ويأخذك بالحضن.. ويصرخ: (قهوة للأستاذ).. وحين تطلب حاجتك يقول لك على الفور: ما عندكش مشكلة.. قدّم طلب.. وعطيني رقم نقّالك.. وترشف قهوتك باستمتاع فقد فُرجت الدنيا في وجهك.. وحين تراجع بعد أيام تجد إجابات من هذا القبيل: الأستاذ في إجازة.. في اجتماع في طرابلس ..أمّه ميتة.. وتقول باستغراب: أمّه ماتت العام الفايت.. فتقول لك السكرتيرة المصبوغة بابتسامتها العريضة التي تركها لها المدير: هذي رفيقة بوه!! تعال بعد أربعين المرحومة.. ما عندكش مشكلة.. وتودّعك وهي تضمك مع كتفيك قائلة: نَجّيه يا ربي..!! ويغربلك الدلال الذي لم تألفه.. إلى درجة أنك تتعثر في الدرج.

3

يقولون لك في أمانة التعليم: الأستاذ أمين التعليم ماشي يجيب في شوية مناهج من سنغافورة.. والحساب من اليابان.. والمطالعة من كوريا الجنوبية.. والنحو من ماليزيا..!! كلها كم شهر ويرجع.. ما عندكش مشكلة..!!

4

في مؤسسة السلع التموينية يقولون لك: أبشر.. الأستاذ مدير المؤسسة طالع للخارج مع لجنة.. يجيبوا في القمح من أوكرانيا.. والرز من الصين.. والموز من كولومبيا.. وبطاطا شويبس المقرمشة من ماكدونالدز.. أنت جهّز روحك للقرمشة بَسّ.. وما عندكش مشكلة.

5

تدخل على أمين الإسكان وأنت تمسك بوصل الشقة.. فيفرد ذراعيه على اتساعهما مرحّباً: وينك يا راجل.. زعلان منّك.. تأخرت.. عموماً فيه ولد حرام زقب في شقتك.. تاخذ سوّك.. ما عندكش مشكلة.. فيه حل جذري لمشكلة الإسكان في البلاد كلها.. أمانة الإسكان استوردت زينقو.. دقّوا براريك.. في يوم واحد تكون عندك برّاكة بدل انتظار سنوات.. يا سلاااااااااام على صوت المطر وهو يطقطق فوق الزينقو.. تحس أنك قريب من السماء.. بدل سقف الإسمنت المسلّح الذي يحول بينكم وبين الرب.. الحكومة تريد أن تقرّبكم من الله..!!

6

في أمانة الصحة يقولون لك: والله الأستاذ أمين الصحة طالع يعالج في تونس وواخذ معاه الختم.. ولمّا صارت الثورة في تونس.. طار لمصر.. ولمّا صارت الثورة في مصر.. طار ما نزل..!! خلّيه ينزل بَسّ وتعال.. وما عندكش مشكلة..!!

فمن قال إن في ليبيا مشكلة؟! وإذا لم يعجب مقالي هذا المسؤولين.. ما عندهمش مشكلة.. فليس هناك أسهل من كتابة مقال آخر..

***

الاثنين 2011.1.31