29 أغسطس، 2009

الذئب

1
... أَشعلتُ الشمعة.. وضعتُها بالقرب من الفِراش.. لأقرأ قليلاً قبل أن أنام.
اضطربت الشُّعلة.. أغلقتُ النافذة.. وتلقائياً الْتفتُّ إلى ظلِّي على الجدار.. ارتعشتُ.. لم يكن ظلِّي.. تحرَّكتُ.. لا.. إنه ظلِّي.. تحرَّك بحركتي.. لكنَّه لا يُشبهني!
رفعتُ الشمعة.. قرَّبتها من الجدار.. اختفى الظِّل.. أعدتُ الشمعة إلى مكانها.. استدرتُ قليلاً.. اقشعرَّ بدني.. كان على الجدار ذئب أسود.. يقف على قائمتيه الخلفيتين.
ابتعدتُ عن الضوء.. وقفتُ في وسط الحُجرة.. فظهر الذئب على الجدار المُقابِل.. سقطتُ على رُكبتَيّ.. فأقعَى.. أغمضتُ عينَيّ.. زحفتُ إلى الفِراش.. استلقيتُ على ظهري.. بدأتُ أفتح عينَيّ ببطء.. ذُهِلتُ.. كان لايزال هناك مُقْعِياً.
2
... نَهض.. أخذ ينتقل من جدارٍ إلى جدار.. يتعرَّج في الزوايا.. يعدو.. يلهث.. يقفز إلى الأعلى.. يَجوب السَّقف.. ينْزلق إلى الأسفل.. يقف وسط الحُجرة.
الشمعة تتضاءل.. الذئب يقترب.. الشُّعلة تخبو.. يقترب.. الشمعة تذوب.. يدنو.. يدنو.. انطفأت الشمعة.. انكمشتُ في فِراشي.. أحسستُ بمخالبه فوق كتفَيّ.. بلُهاثه يحرق وجهي.. بلُعابه الدَّبِق.. نعومة وَبَرِه.. دفء بطنه.. يلتصق بي.. يضغط.. يَدْخُلني.. يتلاشى في جسدي.. نتماهَى.. صرختُ في قلب الظُّلمة.. فتردَّدت أصداءُ صُراخي عِواءً مُتقطِّعاً.
***
(1996)

26 أغسطس، 2009

الوَصْفة الأخِيْرة

1
... في الوقت الذي كان فيه طبيب قريتنا يصف (قَطرة عيون) لمريضه الثاني في ذلك اليوم.. رغم أنَّ النهار يكاد ينتصف.. كان جَيْطُوْل يصف لزبونه العاشر (جُبَّة ثُعبان) ليمسح بها عينيه قبل أن يفتحهما في الصباح.. وقبل أن يُغمضهما في المساء.
انتظاراً للمريض الثالث ـ الذي قد لا يأتي هذا اليوم ـ وقف الطبيب في نافذة حُجرته.. وتطلَّع إلى الطابور الذي يزحف داخلاً إلى الكوخ المُستنِد على سُور المستوصف من الخارج.. المسقوف بالقرميد المُتفسِّخ.
تنهَّد بحسرة.. يشوبها الحسد.. ثم لامَ نفسه على ذلك.. إذ كيف يُمكن لطبيب أمضى سنين طويلة في دراسة الطب.. أن يحسد عجوزاً يُعالج بالبصقات.. ينشق بأنفه مِن جَرّاء البرد.. ويبول علانيةً وهو يتحدَّث! فأغلق النافذة.. وأخذ يتصفَّح أحد مَراجعه.
2
... كان جَيْطُوْل يتحدَّث مع إحدى العجائز التي تشكو ألماً في الظهر:
ــ اغمري دجاجة سوداء.. في قِدْرٍ أسود.. مملوء بمياه سبعة آبار.. ثم اقذفيها باتجاه عين الشمس.. فإن جميع الأوجاع ستطير مع طيران الدجاجة.. فقط تأكَّدي من أنَّ المياه من سبعة آبار.. هل تعرفين العدد سبعة؟ أصابع يدٍ واحدة.. مع إصبعين من اليد الأخرى.
نهض ليُدوِّن بعض الملاحظات في دفترٍ كبير.. فيما أخذ الزبائن يُجيلون النظر في أرجاء الكوخ.
في الركن تتدلَّى حُزمة من نبات الحَرْمَل.. وفي الركن المقابل تتدلَّى مسبحة كبيرة الحَبّات.. بينما يبدو السقف مُغيِّماً بأشياء كثيرة: مرارة.. راس غراب.. ذيل ثعلب.. بوسَمَّى.. حدوة حصان.. سوط.. بندير.. ويعبق المكان بروائح مختلطة: جاوي.. فاسوخ.. بوكبير.. شَبَّة.. وشَق.
دفتر جَيْطُوْل يُعدَّ مَرجعاً للوصفات الغريبة:
(الحصن الحصين.. ضد لدغات العقارب والثعابين).
(مخلوط حليب التيس والثور.. لإزالة الثآليل والدمامل والبثور)!
(مُستجلَب الرِّينش والدِّرْيَاس.. لكافة أوجاع الرأس).
وهو يحب خلط الأشياء.. ويقول إن ذلك من باب (زيادة الخير خيرين)!
وهناك وصفات من هذا النوع:
(مَنقوع لُبِّ الخيارة.. لعلاج الدوخة في السيارة).. وهي وصفة تتهافت عليها العجائز.. ولا يسافرن إلاّ بها.
أمّا وصفته التي تقول: (حساء مصارين الجربوع وألسنة الضفادع.. لكشف نوايا الزوج المخادع).. فهي من الوصفات التي لا تُقدَّر بثمن.
هناك وصفات ذات طبيعة معينة: (خُلاصة مُخّ البرغوث والقملة.. لتزوير كافة أنواع العُملة).. (مسحوق رؤوس الخفافيش.. لتسهيل المرور عَبْر نقاط التفتيش).. وهي وصفة كان من شأنها أن تؤدِّي إلى انقراض الخفافيش رغم كثرتها.
عندما اشتكى له المُهرِّبون بين ليبيا ومصر من التِّيه ليلاً في الصحراء.. وتعرُّضهم لمخلَّفات الألغام المُنتشِرة على طول الحدود.. زوَّدهم بالوصفة التالية: (مِحّ بَيض العناكب.. لإرشاد المُهرِّبين إلى كيفية الاستدلال بالكواكب).
وهو يصف أدويته بأنها (صعبة المنال.. سريعة المفعول).. ويُضيف:
ــ إنَّ هذه العقاقير لا تُعطي مفعولها إلاّ بشرط أن أبصق فيها.. السِّر كل السِّر في البصاق.. جرِّبوا إن شئتم دواءً دون أن يمتزج بلعابي.. إنَّ الله يضع سِرَّه في أشياء لا يعلمها إلاَّ هو!
جَيْطُوْل لا يعنيه كثيراً ما يحدث خارج كوخه.. إلاّ أنه يدافع عن صيدليته ضد اتهامات الطبيب:
ــ إنني لا أكتب طلاسم.. بل أشياء واضحة كوضوح الشمس.. الطبيب هو الذي يكتب الطلاسم.. حاولوا أن تعرفوا حرفاً واحداً من كلماته.. إنه يكتب من اليسار إلى اليمين.. بلغة النصارَى!
الحَقّ أنَّ خطّ جَيْطُوْل كان مَقروءاً.. إلاَّ أنَّ كلماته تبدو كطابور النمل.. لا تعرف نهاية الأولى من بداية اللاحقة.
عندما وصف ذات يوم (بَول نملة) لزبونٍ يشكو ألَماً في الرقبة.. قهقه الطبيب قائلاً:
ــ هذه أول مرَّة أسمع فيها أنَّ النملة تبول!
فردَّ جَيْطُوْل مُتحدِّياً:
ــ إنها تبول مرَّة واحدة في السنة!
3
... في ذلك الصباح.. زلَّت قدَم الطبيب على درَج المستوصف.. فسقط على ظهره.. أُغمي عليه.. بُذِلت عدّة جهود لإفاقته.. نضحوا وجهه بالماء البارد.. كسروا بصلة كبيرة بالقرب من أنفه.. وشَدُّوه من شَعره وأُذنيه.
لا يعرف الطبيب كم استغرق ذلك.. عندما أفاق وهو يشعر بحرَقانٍ شديد.. وآلامٍ حادَّة في رقبته.. وكأنه ابتلع ورقة خَرشُوف.. فأراد أن يصرخ.. لكنَّه لم يجد صوته.. وفي غَمرة آلامه الْتفت إلى يمينه.. في اللحظة التي كان فيها جَيْطُوْل مُنحنياً فوق دفتره الكبير.. وهو يُدوِّن آخر وصفاته:
(مَزيج لُعاب البُوبرَيْص والحرباء.. لعلاج إغماءات الأطباء)!
***
(1997)

24 أغسطس، 2009

الْجُعَل

من كتاب: ( حكايات ضفدزاد ) لأحمد يوسف عقيلة
بلغني أيها الملك السعيد.. أنَّ الجُعَل كان مليئاً بالنوايا الطيبة.. وهو يضع اللمسات الأخيرة على كُرَةِ الزِّبل.. دار حولها دورةً كاملة.. ثُمَّ توقَّف..
ــ لا بأس.. ولكن هناك في الأعلى يوجد نقص.. إن ذلك النقص سيُشَكِّل عائقاً أثناء الدحرجة.
شرع في سَدِّ النقص..
ــ يبدو أنني استعجلتُ بعض الشيء.. إنَّ الأشياء التي نقوم بها على عَجَل.. كثيراً ما تأتي ناقصة.
عندما أنجز عمله.. رفع قَرْنه إلى السماء.. واستغرق في صلاةٍ خرساء.
ــ والآن.. جاء العمل الأهمّ.
استدار.. وضع رجليه الأماميتين على الأرض.. رفع أرجله الخلفية حتَّى لامست كُرَة الزِّبل.. وبدأ في دحرجتها.
ــ ما أسهل الدحرجة في المُنحدَرات.. إنَّ الكُرَة تتدحرج بنفسها.. حتَّى إنني لا أكاد ألحقها.. ليت الطريق دائماً هكذا.
عَدَّل وَضْعه المنكوس.. أخذ يسير إلى الأمام.. مُحاولاً اللحاق بكُرَته التي كانت تقفز مع المُنحدَر.
... استدار مرَّةً أخرى.. وأخذ يُدحرج من جديد.
توقَّفت الكُرَة.. اصطدمت بشيءٍ صلب.. دفعها بكُلِّ قوَّته.. ولكن..
ــ يبدو أن الطريق قد سُدَّت.. سأرَى.
دار حولها ليستطلع الأمر..
ــ إنها مُجَرَّد حَيْطَة.
دفع الكُرَة بعيداً حتَّى تَجَنَّب الصخرة.. ثُمَّ واصَل الدحرجة.
توقَّفت كُرَة الزِّبل مرَّةً أخرى.. اصطدمت بشيءٍ آخر.. بدا وكأنه يسحبها في اتِّجاهه.
ــ يبدو الأمر مختلفاً هذه المرَّة.. هل هو جُعَل آخر يريد انتزاع كُرَتي؟ معه حَقّ.. وجدها جاهزة.. لستُ أنا بالذي يتخلَّى عن كُرَته لأحد.
ذهب لاستطلاع الأمر آخِذاً موقف الدفاع.
ــ هذا ما كنتُ أخشاه.. إنها الأشواك.. الصخور لا تُشَكِّل عائقاً حقيقيًّا.. يُمكنني الدَّوَران حولها.. أو حتَّى الصعود فوقها.. لكنَّ الأشواك هي أسوأ ما يُصادف كُرَة الرَّوْث.. تنغرز فيها.. لا يمكن انتزاعها إلاَّ بعد أن تترك فجوات.. تجعل الدحرجة شيئاً لا يُطاق.
ــ ... والآن.. بعد اجتياز دَغْل الأشواك.. جاءت المرحلة الأصعب من الطريق.. صحيح أنني اقتربت كثيراً.. لكنَّ صعود هذه القِمَّة ليس بالأمر الْهَيِّن.. علَيَّ الْتِقاط أنفاسي أوَّلاً.
استند إلى كُرَته.. واضِعاً أرجله في حالة استرخاء.. في تلك اللحظة مَرَّت نمْلة.. وضعت قَشَّتها.. وقالت:
ــ صباح الخير يا (بُودْرنَّة).. يا لَها من كُرَةٍ كبيرة لولا رائحتُها!
ــ انتبهي لِقَشَّتِكِ حتَّى لا تأخذها الريح.. ولا شأن لكِ بالآخرين.
ــ (امْشي يا وَكّال الزّبل)! على كل حال ليس لدي وقتٌ أُضيّعه.. وفوق ذلك فأنا لا أطيق آكلي الرَّوث.
استعاد أنفاسه.. استأنف مسيرته...
ــ إنني أقترب من القِمَّة.. أكاد أصل.. أحسُّ بالخَدَر في كُلِّ أرجلي.. لم يَعُد يفصلني عن القِمَّة سوى خطوات.. هانت.. بضع خطوات واستريح.. لا تتوقَّفي أيتها الكُرَة.. لماذا توقّفتِ.. أرجلي تكاد تَنْشَلّ.. تدحرجي.. تدحرجي.. و.. سقط الجُعَل.. مرَّت من فوقه كُرَة الزِّبْل.. وانحدرت تقفز إلى الأسفل.
ــ لا.. لا.. لا يُمكن.
ــ سأبدأ من جديد.. هذه المرَّة لن أفشل.. (إنَّ أي عمل يُنْجَز دون مُعاناة.. عملٌ مشكوكٌ فيه)
.. لن أشعر بالخَدَر.. يجب أن أُغَنِّي كي أنسى التعب.. لا.. أنفاسي لا تُسعفني.. اصعدي أيتها الكُرَة.. لم يَبْقَ إلاّ القليل.. خطوة واحدة.. واحدة فقط.. لا تتوقَّفي.. لا.. لا.
و... انحدرت كُرَة الزِّبل...
تبعها بنظَره.. حتَّى استقرَّت في القاع.
ــ لا.. لم أَعُدْ أُطيق.
عادت النملة في الاتجاه الآخر..
ــ عجيب أمرك يا (بُودْرَنَّة).
ــ أهذه أنتِ من جديد؟ تشمَتين.. أليس كذلك؟
ــ أنا لا أشمت.. لكن أمرك عجيب.
ــ لماذا؟
ــ لو كان لي جناحان كجناحَيك لمَا تعبتُ كُلَّ هذا التعب.
ــ جناحان؟! هل قلتِ جناحان؟! نعم.. إنني أملك جناحين.. لست أدري كيف نسيتُ ذلك.. اللعنة على كُرَة الرَّوث.. نعم.. أستطيع الطيران.. أستطيع.. يا ليَ من مُغَفَّل!
أفرد جناحيه.. بدأ يُحَلِّق صاعداً في دوائر...
ــ كم أنتِ صغيرة أيتها النملة.. وكم هي ضئيلة كُرَة الزِّبل.. تبدو الأشياء تصغر.. تصغر.. لن أهبط الآن.. لقد تعبتُ.. سئمتُ الدحرجة.. والانكفاء على وجهي.. شيءٌ بالغ الروعة أن نُحلِّق فوق مكان سقوطنا!
وأدرك ضِفْدَزاد الصباح.. فسكتت عن النقيق المُباح.
***
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ (إن أي عمل يُنجَز دون مُعاناة.. عمل مشكوك فيه): عبارة للكاتب الكوبي (اليخو كاربنتير) وردت في روايته: الخطوات الضائعة.

19 أغسطس، 2009

رمضان كريم

أهَلَّ الله عليكم رمضان بالخير والبركة وتمام العافية.. وأجزل لكم الأجر والثواب.

18 أغسطس، 2009

الضفدع الأخضر المائل إلى الاصفرار

1
... الضفدع الأخضر المائل إلى الاصفرار يتشمَّس على حافّة الغدير.
2
... حَمامة بَريّة تَحطّ فوق صخرة في وسط الغدير.. تشرب.
3
... الضفدع يُقارن بين أجنحة الحمامة وأرجله المعوجّة.. بين ملاسة الريش وندوب ظهره.
4
... يظهر ظِلٌّ في الماء.. تَجفل الحمامة.. تَطِيْر على ارتفاع منخفض.
5
... تنعطف الحمامة فجأة.. تلمسها رؤوس المخالب في ظهرها.. تتساقط بعض الريشات.. تسبح فوق السطح.
6
... الصقر يَجثم على الصخرة في وسط الغدير.. يُنَظِّف ريشه.
7
... الضفدع الأخضر المائل إلى الاصفرار يتأمل مُرتَجِفاً ذلك الجمال الْمُدجَّج بكل ما هو حادّ.. يتسلَّل إلى القاع.. يَحذر أن تنتقل عَدوَى ارتعاشته إلى سطح الغدير.
***
(2008)

15 أغسطس، 2009

حوار مع القاص: أحمد يوسف عقيلة

حاوره الشاعر: محمد القذافي مسعود

ـ هل استطاعت القصة في الوطن العربي تجاوز نتالي ساروت؟
= دعني أقول لك اوّلاً إنّ الكاتب العراقي (نوئيل رسام) كتب قصة قصيرة جداً بعنوان (موت فقير) سنة 1930 ثُمّ كتب قصة عنوانها (قصة قصيرة جدًّا) فسبق بذلك (ناتالي ساروت) بسنتين على الأقل.. فهي قد بدأت الكتابة عام 1932 وكتبت (انفعالات) ولم تصنّفها على أنها قصص قصيرة جدًّا.. فمصطلح (قصة قصيرة جدًّا) أوّل من أطلقه (رسام) العراقي.. لكن من يقول ذلك الآن؟ يجب أن يُنسَب الأمر إلى (ناتالي ساروت) أو (ناتاشكا) كما يُدلّلها الروس.. ودعني أنقل لك أحد انفغالات ناتالي ساروت حرفيًّا وهو انفعال9 : (كانت تجلس القرفصاء فوق ركن من المقعد، وكانت تتلوى مادة عنقها, جاحظة العينين, وكانت تقول: نعم, نعم, نعم, نعم).. فهل يُمكن تسمية هذا قصة قصيرة جدًّا.. بالطبع لا تتصوّر أنني أنتقص من ناتالي ساروت.. فهي روائية عظيمة.. كتب جان بول سارتر مقدمة لكتابها الثاني (صورة مجهول) عام 1947 ولفت إليها الأنظار.. وهي كما قلت سابقاً لم تُصنّف (انفعالات) على أنها قصص قصيرة جدًّا.. وبعد (انفعالات) كتبت الرواية والسيرة الذاتية.. ومن هنا فإنني أجد نفسي في حِلّ من الإجابة عن سؤالك حول تجاوز ناتالي ساروت.
ـ ولكن هناك من يؤكد من النقاد العرب عكس ماتجده أنت عاديًّا؟
= مع احترامي للنقاد العرب فهذا تعميم.. ربّما قرأ كاتب أو قِلّة من الكُتّاب لناتالي ساروت.. لكن الأغلبية من كُتّاب القصة لم يطّلعوا على نتاجها.. أنا اتصلت بعدة كُتّاب قصة مميّزين.. فيهم من لَم يسمع مجرّد السماع بناتالي ساروت.. ومع هذا يكتبون قصة جيّدة.. ولا أعرف لماذا هذا الإصرار من نُقّادنا على إيجاد مرجعيّة أجنبية للقصة القصيرة في الوطن العربي.. يستكثرون علينا أن نُبدع شيئاً خاصًّا بنا!
ـ من أين تراها انطلقت بعد نتالي ساروت وهل كانت لانطلاقتها خصوصية على كل المستويات؟
= أُعيدك إلى الإجابة السابقة.. كما أسلفت فإنّ معظم الكُتّاب العرب الذين كتبوا القصة القصيرة لم يقرؤا لناتالي ساروت.. وأنا شخصيًّا كتبت حتى الآن سبع مجموعات قصصية.. وهي قصص قصيرة جدًّا ـ معظمها من عدّة أسطر إلى ثلاث صفحات كحدّ أقصى ـ قبل أن أقرأ حرفاً واحداً لناتالي ساروت.. وحين وجّهتَ إليّ هذه الأسئلة اضطررت إلى الدخول لشبكة الإنترنت حتى أجد شيئاً لساروت!! فأرى أن القصة القصيرة في الوطن العربي لا علاقة لها بناتالي ساروت.. لكن في وطننا العربي يبحثون عنّا دائماً من خلال الآخرين؟
ـ كيف لم يقرؤا نتالي ساروت وهم يتحدثون عن مجد القصة من خلال ماحققته نتالي ساروت.. ولك أن تطالع عشرات المقالات على النت لكتاب ومثقفين عرب يتحدثون عن النقلة والمجد اللذين حققتهما ساروت؟
= يا مولانا ناتالي ساروت لَم تكتب شيئاً قصيراً سوى الانفعالات.. باقي كتاباتها روايات وسيرة ومحاضرات.. وهي مبدعة كبيرة وعلى رؤوسنا ككل مبدع كبير يستحق الاحترام.. ماذا تريدني ان أفعل؟ أقسم لك أنني كتبت قصصي كلها دون أن أقرأ حرفاً لناتالي ساروت!! ودعني أقول لهم بأنّ الكاتب جابرييل جارسيا ماركيز قال: (كل رواياتي خلفيّتها ألف ليلة وليلة.. قرأتها في طفولتي).. لكنّ نقّادنا يصرّون على أنّنا لا علاقة لنا بالواقعيّة السحرية.. بل هي من ابتكارات ماركيز وكُتّاب أمريكا اللاتينية! هذا نوع من الاستلاب.
ـ كيف ترى القصة قبل وبعد يوسف إدريس؟
= يوسف إدريس كان نقلة نوعية في القصة.. وعلى الرغم من أنني لم أقرأ له سوى مجموعة واحدة وهي (بيت من لحم) إلاّ أنّ قصصه أمتعتني أكثر من قصص نجيب محفوظ التي كتبها في البداية قبل أن يتّجه كُليًّا إلى الرواية.. وحين يُشكِّل كاتب ما نقلة نوعية فإنّه يُعَدّ مقياساً.. أو سقفاً.. ومن هنا فإنّ كُتّاب القصة الذين جاؤوا بعد يوسف إدريس سعوا إلى تجاوزه.. وهناك كُتّاب قصة كُثُر فعلوا ذلك.. بالطبع لا يجب أن نقف عند يوسف إدريس.. يجب ان يسعى كُتّاب القصة دائماً إلى تجاوز ما هو سائد مهما كان مستواه.
ـ على مستوى تقنيات كتابة القصة ماذا أضفت فيما كتبت سابقاً.. وما هي رؤيتك للجديد؟
= هذا السؤال ينبغي أن يُجيب عنه غيري.. كالنُّقّاد أو القُرّاء.. فإجابتي عنه ستكون أقرب إلى الادعاء.. هل حقًّا أضفتُ شيئاً؟ ربما.. ولكن بعيداً عن أي تواضع زائف فأنا لازلت في بداية الطريق.. وأرى انّه من السابق لأوانه الحديث عن الإضافة.
ـ هل لديك هاجس التطور والتجديد.. وكيف تخطط عملياً لتطوير امكاناتك وأساليبك للتجديد؟
= كل مبدع يجب أن يكون لديه هاجس التجديد والتطّور.. وعدم الركون إلى أية قناعات جاهزة.. ولكن السؤال: كيف يكون التجديد؟ بعض الكُتّاب يعبثون بحجّة التجديد.. السعي إلى التجديد محفوف بالكثير من الخوف.. الخوف هنا ليس سلبيًّا.. بل هو ناتج عن الشعور بالمسؤولية.. أن تبتدع طرائق في السرد فهذا يجب أن يهدف إلى المتعة.. لأنّ الغاية من الأساليب ـ مهما تعددت ـ هي المتعة.. وإلا فما قيمة التجديد؟
ـ القصة الفن الحاضر الغائب بمعنى إنها حاضرة في المطبوعات كنص وفي ذات الوقت بدون جمهور يتابعها ويعرف كتابها ونجومها.. ما الأسباب من وجهة نظرك؟
= القول بأنّ القصة بدون جمهور فيه الكثير من النظر.. حين أحييت أمسيتين قصصيتين في الجزائر أذهلتني الاستجابة الكبيرة للقرّاء.. حتى إنّ بعضهم سألني عن قصص مُحدّدة.. وكانوا قد طبعوا بعض القصص من مواقع على النت وطلبوا التوقيع عليها.. كنت أعتقد أنه لن يعرفني أحد هناك.. بعض النقّاد يقولون بأنّ القصة القصيرة هي فنّ المستقبل.. فهي التي تتناسب مع سرعة العصر.. ربّما.. لكنني لا أعوّل على ذلك.. إنّ القِصَر ليس كافياً وحده لجذب القُرّاء.. فالرواية الطويلة الجيدة تستقطب القُرّاء أكثر من قصة قصيرة رديئة.. مهما كانت سرعة العصر.. المعيار هو الجودة فقط.
ـ هذا في الجزائر.. وماذا عن ليبيا؟ وهل يعتبر ما لقيته من احتفاء في الجزائر مقياساً لوجود جمهور للقصة؟
= بالضبط.. جمهور القصة في ليبيا ليس قليلاً.. تأتيني رسائل على النت والنقال يسألون دائماً عن الجديد.. حين أكتب قصة جديدة يحاول كل الموظفين في العمل الحصول على نسخة بتصويرها.. كل ما في الأمر أنّنا لا نعرف طريقة اجتذاب القارئ.. أو لا نستطيع الوصول إليه.. نُقيم الأمسيات في العواصم أو المهرجانات والمناسبات.. كأنّ الأدب يحتاج إلى مناسبة! أو أنّ المؤسسة العامة هي التي تَمنحنا الشرعيّة.. أنا أقرأ قصصي حتى للرعاة.. يجب أن نذهب نحن إلى القارئ.
ـ ألا ترى أن القصة اليوم أصبحت الجنس والفن الأضعف والأقل شأناً بين بقية الأجناس الأدبية والفنية عامة؟
= إجابتي عن السؤال السابق تتضمّن الإجابة عن هذا السؤال.. وأضيف أنّ تشيكوف بقصصه القصيرة ليس أقلّ شأناً من تولستوي ودوستويفسكي العظيمين.. وقصص ماركيز لا تقل روعة عن رواياته.. ومعطف غوغول الذي خرج منه كُتّاب روسيا العمالقة عبارة عن قصة قصيرة.. ومجموعة قصصية جيدة قد تكون أكثر شعرية من كثير من دواوين الشعر.. المعيار ـ كما قلت سابقاً ـ هو الجودة.. وليس نوع الجنس الأدبي.. امنحني فقط نَصاً جيّداً.. وليكن قصيدة أو قصة أو رواية.. لا يهمّ.
ـ لمن تقرأ في هذه المرحلة من كتاب القصة العرب والعالميين؟
= سأحدّثك عن شيء طريف.. كثير من قصصي المنشورة على شبكة الإنترنت أجد عليها بعض التعليقات التي تقول إنني متأثر بالكاتب التركي عزيز نيسين.. فبدأت أبحث عن أي شيء لعزيز نيسين حتى وجدت له مجموعتين قصصيتين منذ حوالي أسبوع.. وقد أَتْممت قراءتهما.. واستمتعت بهما كثيراً.. فهو كاتب ساخر من طراز رفيع.. بالطبع بعض القُرّاء لا يصدّقون أنني لم أقرأ عزيز نيسين إلا منذ أسبوع!!
ـ ما رأيك في الممارسة النقدية على النتاج القصصي الليبي والعربي عامة؟
= الممارسة النقدية على النتاج القصصي لاتزال قليلة قياساً إلى كم القصص المنشور.. لكن يجب أن نوجّه اللوم إلى أنفسنا أوّلاً.. فيجب أن نكتب جيّداً قبل أن نطالب النُّقّاد أو القُرّاء بالالتفات إلى قصصنا.. البضاعة الجيدة تُسَوّق نفسها.. أليس كذلك؟
ـ وما دور النقد إذاً؟
ـ النقد لا تكتمل العملية الإبداعية إلا به.. لكنّ الإبداع لا يأخذ شرعيّته من خارجه.. لا يأخذ شرعيّته حتى من النقد.. رغم أهمية النقد القصوى.. لو افترضنا جدلاً أنّ بعض النقاد هلّلوا لنص رديء.. فإنّه سيظل رديئاً.. ولن يكتسب الجودة من إطراء النقاد.
أشكرك أخي محمد على أسئلتك القيّمة المستفِزّة.. واعذرني على بعض الحِدّة في إجاباتي.. في أعماقي بدويّ سريع الغضب! وأتمنى أن يستمر الحوار.
***

08 أغسطس، 2009

الطَبْخة

( ا )
... (عزيزة) تُحضِّر للغداء.. بجانبها راديو صغير مغطَّىً بقماش مُلوَّن شفاف.. من فتحة القماش يبرز هوائي مقطوع الرأس.. الراديو مركوز فوق عُلبة الملح.. يُحشرج بأغنية عن الوطن.
( ل )
... الحلّة فوق الموقد.. الزيت يغلي.. سفرة اللوح المستديرة الصغيرة مُزدحمة بالمقادير: لحم.. بصل.. طماطم.. فلفل.. ثوم.. بهارات.
( ح )
... ينقطع الإرسال فجأة.. يبدأ البث المباشر من تحت قبَّة البرلمان لتشكيل الحكومة.. يُستهل بالسلام الوطني.
( ك )
... لحظة جلوس جلالة الملك على عرشه.. يستقر اللحم في قاع الطنجرة.
يتم الإعلان عن اسم رئيس الوزراء.. يُطشطش البصل في الزيت.
وزير الداخلية يصعد المنصّة.. يهوي قرن الفلفل في أثر البصل.
يستلم وزير الصحة حقيبته.. يتدحرج فَصُّ الثوم سابحاً.
يصفِّقون لوزير الإعلام.. تدور ملعقة الطماطم صابغةً (التقلية) بالأحمر.
( و )
... اكتمل نِصاب الحكومة.. استلم الوزراء حقائبهم.. عُزِف السلام الملكي.
ذاقت عزيزة طبيخها.. فاكتشفت أنها نسيت الملح.
سحبت المملحة.. فانقلب الراديو على ظهره.. لكن الحكومة على ما يبدو لم تتأثر بهذا الانقلاب.
( م )
... كانت تذوق الطبيخ بامتعاض..
حَرَّكتْ.. أضافت مزيداً من الملح.. رَشَّت قليلاً من البهارات.. ذاقت مرَّة أخرى.. هزَّت رأسها.. لا جدوى.. رائحة الطبخة لا تُطاق.
أهو تعفُّن اللحم؟ أم فساد البصل؟ أم انتهاء صلاحية الطماطم؟ مهما يكن.. فإنَّ الطبيخ بدا أشبه بالقيء.
( ة )
... الكلب يتضوَّر جوعاً.. يُبصبص.. يسيل اللعاب من زوايا فمه.
كَفَأَت عزيزة طبيخها.. طاف حوله.. تشمَّم البخار الحارّ.. لوى عنقه باشمئزاز.. أَقْعَى.. استلقى على جنبه.. دسَّ رأسه بين رجليه الخلفيتين.. وأخذ يلعق أعضاءه.
(2002)

كاف طَرْطقُو

في صباح السبت الموافق 2009.8.7) وعلى تمام الساعة الخامسة والنصف.. قمت بزيارة كهف (كاف طَرْطقٌو) صحبة الزميل الباحث (عبدالسلام بدر الدين محمد).. الذي قام بأخذ بعض القياسات للكهف بطريقته الخاصة.. فقد وجد أن اتساع مدخل الكهف أفقيًّا 45 خطوة.. وعرضه 30 خطوة.. والكهف به إحدى المعلّقات.. يقع في أحد الأودية العميقة شمال شرق قرية (زاوية العرقوب) على مسافة 6 كيلومتر تقريباً.. ولندع الصور تتحدَّث:

02 أغسطس، 2009

مَسْألة وَقتٍ فقط

( ا )
... اعتزَلوا.. لاذوا بالجبال.. اختاروا كهفاً لا يُعرَف آخره.. ساروا فيه أياماً.. أقصد ليالي.. أو بتوصيفٍ أَدَقّ (زمناً طويلاً مظلماً).. يتلمَّسون الجدران.. كانوا سبعة ثامنهم كلبهم.. تاسعهم هاتف نقّال.. وعاشرهم كمبيوتر محمول.. وفي آخر النفَق ينبثق شعاع الشمس من مكانٍ ما من سقف المغارة.
( ل )
... جلالة الملك يرتدي بذلة الجنرال.. حتى إنّ الرعيَّة تحار في تسميته.. يخطب بحماسٍ كعادته.. يلوِّح بقبضتيه في الهواء حيناً.. يدقُّ الطاولة بكفِّه أحياناً أخرى: (وفي الخطة الخمسية القادمة سنتمكَّن من صناعة الجُبنة البيضاء.. إنها مسألة وقتٍ فقط).
( و )
... الكلب يبسط ذراعيه تحت خيط الشمس الساقط من السقف.. يقف.. يتمطَّى.. يتثاءب.. يرفع رِجله.. يبول.. يرفع أنفه.. ينصب أُذنيه.. ينبح.. تتجاوب المغارة.. يستيقظ أهل (الكاف).. يتساءل أحدهم ناظراً إلى الكمبيوتر العتيق.. وإلى العشب النامي الذي يؤطِّر مضاجعهم:
ــ كم لبِثْنا؟
ــ لبِثْنا يوماً أو بعض يوم.
ــ ابعثوا أحدكم بنقودكم هذه إلى المدينة.. لينظر إن كانت لا تزال سارية.
( ع )
... يدخل السوق.. ينظر إلى النقود المتداولة.. يسأل:
ــ هل هناك من يشتري العُملة القديمة؟
ــ هذا يتوقَّف على قِدَم العُملة.
يُخرج الأوراق النقدية..
ــ أوه.. هذه الأوراق عمرها ألف عام.. تحمل رأس الجنرال في شبابه.. لا تُقدَّر بثمن.
( د )
... يتَّجه إلى الساحة العامة.. جلالة الملك ببزَّة جنرالٍ أشيب.. مُثقَلة بالأنواط والأوسمة.. فهو قد خاض الكثير من الحروب: حرب الخليج.. حرب الصحراء.. حرب الأودية والمستنقعات.. وحتى حرب الكهوف.. لا يثنيه شيء عن تحقيق أهدافه.. مرَّة واحدة رأى حذاءً مقلوباً فأجَّل زيارته للصين! يخطب بالحماس ذاته.. يدقُّ الطاولة بعكّازه: (وفي الألفية القادمة سنتمكَّن من صناعة الجُبنة البيضاء.. أعدِكم بذلك.. إنها مسألةُ وقتٍ فَقَط).
(2001)