28 سبتمبر، 2009

الْهَمْزة

1
... قال الأستاذ (أَنيس) موجهاً كلامه إلى سكرتيرته:
ــ اكتبِي صيغة إعلان عن اجتماع إدارة الشركة يوم الأربعاء القادم.
ثم تشاغل بالحديث مع ضيوفه.. وهو يتأرجح يميناً ويساراً مع الكرسي الدَّوّار.
2
... الأستاذ (ونيس) مدير شركة كبرى.. يحظى بكل لوازم المدير: مكتب ينطق بالفخامة.. سكرتيرة مصبوغة أمام جهاز حاسوب.. هاتف نقّال.. مرسيدس وصاية من ألمانيا رأساً.
غيَّر اسمه إلى (أنيس) تَمَشيِّا مع الحداثة! يرى أنَّ العبرة ليست بالشهادات العلمية.. فهي مجرد رُخَص تَمنحها الجامعات.. لذلك فهو يفتخر بأنه لم يتخرج من الجامعة.. ويقذف في وجهك (العَقّاد) دائماً كمثلٍ صارم للدلالة على عدم جدوى الشهادات.. ويحشر في أحاديثه ـ بمناسبة وبغير مناسبة ـ كلمات من قبيل: (العولمة.. الاستنساخ.. ثقب الأوزون.. سقف الإنتاج.. حَرْق المراحل.. الرعي الجائر.. البروباقاندا).
3
قالت السكرتيرة:
ــ يا أستاذ أنيس.. في كلمة (الأربعاء) الهمزة فوق الألف وإلاّ على السطر؟
يسري السؤال في جسده صاعقاً.. يقفز.. يحس في حلقه بطعم الهمزة اللاذع.. يحكُّ خلف أُذنه.. يتبدَّى له غباء سكرتيرته شيئاً لا يُطاق.. شيئاً ثقيلاً يزحم المكان.. بل يبدو أنفها طويلاً أكثر مما ينبغي.. يبتلع ريقه.. يَشْرَق.. يسعل.. يعطس.. يزحر.. يفتح النافذة.. يرى الأفق يقترب.. السماء تَهبط على الأرض.. تتحول كل الكائنات إلى همزات.. همزات طائرة.. راكضة.. زاحفة.. فيغمض عينيه.. يَصفِق النافذة.. يُطفئ المصابيح.. يُشعلها.. شيء ما يقرصه بين كتفيه.. يلصق ظهره على الجدار.. يحكّه.. يسحقه.. ها هي الهمزة تتحرك من الحلق إلى الصدر.. نازلةً ببطء كالنصل الحاد.. ينحنِي إلى الأمام واضعاً يديه على صدره.. فتنْزلق الهمزة إلى الأسفل.. تتغلغل ممزِّقةً الأحشاء.. يتسرَّب من بين فخذيه سائل دَبِق.. يتعثَّر بأحد الضيوف.. في تلك اللحظة فقط يكتشف وجودهم.. يُسدِّدون عيونهم نحوه.. أصابع السكرتيرة متوقفة على لوحة المفاتيح.. توقَّفت الساعة الحائطية.. كفَّت الكرة الأرضية عن الدوران.. يَفْزَع إلى الحَمّام.. يسمع أحد الضيوف يقول بخُبث وشماتة: (الهمزة التي قَصَمت ظهر البعير).. فيحدودب ظهره.. وتنبت له ذروة! جدران الحمّام تزحف إلى الداخل.. مصباح السقف يكاد يلامس البلاط.. يتهالك.. يَبْرك.. يصرخ بأعلى صوته.. صُراخاً أَقربَ إلى الرُّغاء:
ــ خَلِّي الاجتماع يوم الخميس!
***
(2001)

16 سبتمبر، 2009

عَنَاكِبُ الزَّوَايَا العُلْيَا

1
... تسلَّل الفجر.. شَحُب القمر.. لمعت بيوتُ العناكبِ المُثقَلةُ بالندَى.. توضَّأت زَمْزَم.. صلَّت.. أطالت الابتهال.
للابتهال في هذا الفجر معنىً خاص.. فاليوم ستقبض المعاش لتشتري ملابس وهدايا العيد لأحفادها الأيتام.
أجفلتْ.. ضمَّت يديها.. فقد خُيِّل إليها أنَّ عنكبوتاً قد تدلَّى من السّقف.
2
... احتذتْ خُفَّيها.. أخذت جَرْدَها.. طَوتْه.. كوَّمتْه فوق رأسها.. الْتقطت مكنستها.. صلبتْها فوق كتفها جاعلةً رأس المكنسة إلى الخلف.. وانطلقت إلى عملها.
الوقت لايزال باكراً.. الشوارع خالية.. تلفتت باحثةً عن أي شخص لتُلقي عليه تحية الصباح.. تريد أن تقول (صباح الخير) لكل شيء.. للضباب.. للقطط.. للكلاب.. لغربان الصباح.. حتى للذئاب في الأودية!
لم يكن يُكدِّرها في ذلك الصباح سوى شيئين.. الأوساخ المُتجمِّعة في زوايا مُزعجة تحت الأثاث.. كان ذلك يتطلَّب منها أن تجثو على ركبتيها.. وتمدّ المكنسة لتطال تلك الزوايا اللعينة.. كما كانت تزعجها عناكب الزوايا العُليا.. بل تُشكِّل لها حساسيةً خاصة.. تجعلها تُحسّ بدبيب الأرجل الرخوة في كل جسدها.. حتى بدأت أحلامها تزدحم بالعناكب.
3
... كانت تَصرُّ المعاش في شِمْلتها.. تُعدِّد الأشياء التي تنوي شراءها: (الملابس.. الهدايا.. الحلوى.. ومكنسة خشنة)!
في تلك اللحظة رفعت رأسها إلى السّقف.
4
... عادت.. تمشي بتمهُّل.. مع كل خطوة ترنُّ المفاتيح في الشمْلة.. إيقاعٌ مُحبَّب إلى نفسها.. يجعل خطواتها تنتظم.. لكنَّ ذلك كلَّه لم يكن يمنعها من التفكير في العناكب.. وقد أرعبَها أنَّ عطلة العيد ستكون أربعة أيامٍ كاملة بلياليها.. (ثمان وجْبات).. وقتٌ أكثرُ من كافٍ لتكتظَّ كلُّ الزوايا بهذه المخلوقات المُقزِّزة.
أثناء الخطوات المتوافِقة مع رنين المفاتيح.. لفت انتباهها بعض الرجال يَمدُّون أذرعهم لطرْح لافتة قماشية على واجهة أعلى مباني القرية.. أحسّت بالدبيب يسري في جسدها.. فابتعدت مُسرعة وهي تكزُّ على أسنانها.. وتشدِّد قبضتها على المكنسة الخشِنة.
***
(1995)

05 سبتمبر، 2009

الْحِرْباء

( إلى أمّ العِزّ إبراهيم سعد)
1
... ولَّى زمنُ الولائم.. منذ شهرٍ بالهلال وأنا في هذا السفح المُجدِب.. لا شيء سوى (بوبرَيص) هزيل رَخُو الأسبوع الفائت.. في الوقت الذي يزدحم فيه السفح المقابل بالجنادب الصادحة.. لماذا الأشياء الحلوة دائماً على الضفة الأخرى؟ (بورقَيْص) يحتلُّ السماء.. البومة تتربَّع فوق السد الحجري.. الأفاعي تتمدَّد تحت حوافّ الصخور المُشْرِفة على مجرى الوادي.. والثعابين الخُضْر تترصَّد وسط الزرع.. لكنني سأعبر رغم كل شيء.. ذلك الجندب الصادح يستحق المخاطرة.. مَن يملك رصيداً من الألوان.. وعينين تنظران في جميع الاتجاهات في نفس اللحظة.. فهو لا يملك حياةً واحدة.
2
... ليس هناك ما هو أسهل من التنقل فوق الأشجار.. فأنا أملك اللون الأخضر بامتياز.. بل أملك عدَّة درجاتٍ من هذا اللون.. بما يناسب البلُّوط والخَرُّوب والبَطُّوم والشمَاري.. وحتى شجيرات الدِّرْياس.. ولكن هذه شجرة قَنْدول مُزهِرة.. القَنْدول المُزهِر مُحيِّر قليلاً.. سأصبغ الظهر والرأس بالأصفر الفاقع.. وأترك البطن والأطراف بالأخضر الداكن.. ولكن كيف يُمكنني عبور حقل الصلَيْعَا؟ مِن أين لي بالأحمر الفاقع؟ لن أعبر هذا الحقل الدموي.. سأُضطرُّ إلى الالتفاف.
3
... ليتني أستطيع القفز إلى تلك الضفة.. سيكون هذا من باب (حَرْق المراحل).. لماذا تموت كل الأشياء إلاّ المسافات؟ انتظروا.. ماذا لو عبرتُ فوق هذه السلحفاة؟ لدي اللون المناسب لهذه القَصْعة.. اللعنة.. السلاحف تجعل المسافات تتناسل.. سأصل العام القادم.
4
... يبدو قويًّا هذا الجندب الشاعر.. لا يكفُّ عن الإنشاد لحظةً واحدة.. يُعذِّبني بغنائه! أنا لا أعرف من أين يحصل الشعراء على قُوتِهم.. الواحد منهم يتسلَّق غصناً.. أو يجلس فوق صخرةٍ تحت الظل.. أو حتى تحت المطر.. يتأوَّه.. يفتح ذراعيه على اتِّساعهما.. ويشرع في الإنشاد وكأنه حاز العالم بأسره.. إذا حلَّت عليك العَشيّات الشتائية.. التي تتنفَّس برداً لاسعاً ينخر العظام.. وأنت بلا عَشاء فدع القصيدةَ تنفعك.. أو اذهب إلى النملة مرتعشاً مقروراً.. متسوِّلاً.. لتطردك كعادتها ساخرة: (في وَان الحصيدة تشغلك القصيدة).. ألا تعلم أنَّ النملة تجمع القَشَّ حتى على ضوء القمر؟!
5
... أخيراً وصلتُ إلى الصخرة.. دعونا نُعاين المكانَ أولاً: صخرة رمادية.. كامدة.. مُبقَّعة بالأسود.. بالإضافة إلى ترسُّبات الكِلْس الأبيض الذي يشوبه الأصفر.. وهناك بعض النمش الأحمر.. يا إلهي لماذا تُرِيْقُ كلَّ هذه الألوان في طريقي؟ هل عليَّ أن أُغيِّر لونَ جلدي في كلِّ خطوة؟ لا بأس.. جنادب السفح المقابل تستأهل العناء.. هل أسمعُ أحداً يَعِيْبُ كثرةَ التلوُّن؟
6
... لماذا يَعْبر هذا (البورقَيْص) من فوقي مباشرة؟ هاهو يرفرف صارخاً كعادته.. أنا أعرفه جيداً.. سيظل ساكناً في السماء.. أيُّ حركة ستكون مرصودة.. حتى ظِلال الظهيرة تقلَّصت.. انزوت في الأسافل.. أُحسُّ بأَكَلانٍ في مُؤخِّر رأسي.. أيُّ عالمٍ هذا الذي نعيش فيه.. الواحد لا يستطيع حتى أن يحكَّ رأسه.. سأصل إليكَ أيها الجُندب الشاعر.. سأصل إليكَ أيها البوزنِّين ولو تلوَّنتُ بألف لون.. كم أحسد الشعراء.. فهم يواصلون الغناء رغم كلِّ شيء.. يا لَسوء الطالع.. ها أنا عالقة.. عينٌ في السماء.. إلى بورقَيْص الذي يسكن فوق الريح.. فهو يمتلك سُلطة الأجنحة.. وعينٌ في الأرض حيث الأفعى تتثنَّى في الظلّ.. تحت طبقة التراب البارد.. فهي تمتلك سُلطة السُّمّ.. الهداهد تتمتَّع بالألوان للزينة.. أو للإغواء.. أمّا أنا فإنني مُدجَّجة بالألوان للتخفِّي.. انظروا كيف تغدو الألوان نوعاً من السُّلطة.. الحجر تحت أقدامي يلذع.. هذه الظهيرة يبدو أنها لن تنتهي أبداً.. حتى الزمن قد ينتصب كُتلةً متجسِّدة تجتاحُك رغبةٌ مُلحَّة في زحزحتها.. مثل هذه الصخرة اللاذعة التي تسدّ مجرى السيل.. لم أعد أُدْرِكُ إن كانت هذه الصخرة مكاناً أو زماناً.. اسمعوا.. اسمعوا كيف تتجاوب الغابة بغناء جنادب الظهيرة!
***
(2002)

02 سبتمبر، 2009

الْخُيُول البِيْض

( خ )
... في الليالي الأربعين تتجمَّد أطرافك.. تبتعد أصابع يديك عن بعضها.. تصطكُّ أسنانك.. ترتعش شفتاك.. يَزرقُّ لونك.. ويتقلَّص جسدك! نعم.. يتقلَّص جسدك.. حتى إنك تُحسُّ بأنَّ ملابسك غدت فضفاضة بعض الشيء!
في الليالي الأربعين ـ إذا كنتَ من الذين يستيقظون في الصباحات الباكرة ـ تجد أنَّ سطوح البِرَك قد تجمَّدت.. إلى درجة أنه يُمكنك أن ترفع ذلك الغطاء الزجاجي بين يديك.
كِبار السنّ في قريتنا يتدثَّرون بعباءاتهم بالقرب من المواقد.. ويمتهنون التثاؤب.. وإذا أراد أحدهم الإشارة إلى شيءٍ ما.. أشار إليه بالشفة السُفلَى.. حتى لا يُضطرَّ إلى إخراج يده من العباءة! وبين الحين والحين يبحثون بأقدامهم في ذاكرة الرماد عن بقايا جذوة.
( ي )
... الليالي الأربعون موسم من مواسم الحكايات..
ــ يقولون إنَّ الراعي مسعود قد ذهب بقطيعه إلى الأودية.. فهذا أوان ظهور الخيول البِيض.
ــ مسكين هذا المسعود.. منذ سنوات وهو يفعل ذلك في عِزّ الشتاء دون جدوى.
ــ كم أتمنَّى أن أرى تلك الخيول.
ــ أنا أكثر قناعةً منكِ.. أنا لا أحلم سوى بجوادٍ أبيضَ واحد.
ــ يقولون إنها خيول كثيرة.. يسوقها سائس بلباسٍ أبيض.. وبيده سوط طويل تُسمَع له فرقعة.
ــ ويقولون أيضاً إنَّ مَن يرى الخيول البِيض يُحقِّق كل أمانيه.
ــ ويتزوَّج بمَن يشاء.
ــ الخيول البِيض لا يُمكن للنساء أن تراها.
شهقت الأخريات شهقةً جَماعية:
ــ لماذا؟
ــ لأنها لا تظهر إلاّ في ليلةٍ واحدةٍ من السنة.. وهي ليلة غير معروفة.. كما أنها لا تظهر إلاّ في الأودية البعيدة.. وقد تمرُّ سنوات دون أن يراها أحد.. فكيف يُمكن للنساء أن تراها؟
ــ هذا يعني أنَّ رؤيتها تكاد تكون حِكراً على الرجال.. والرُّعاة بالذات.. فهم وحدهم الذين يبيتون في الأودية.
تنهدت إحداهن:
ــ كم أتمنَّى أن يتزوَّجني أحد الرُّعاة.
ــ إذا تزوَّجكِ الراعي فلن تكوني في حاجةٍ إلى رؤية الخيول البِيض!
( و )
... أحد الأماسي الأربعينية.. كانت تُمطِر بلا صوت.. في الحنايا والسفوح تُسمَع شهقات الأرض الخافتة وهي ترتشف دفقات المطر.. وفي الأحشاء النديَّة كان الربيع ينمو خِلسة.
مسعود يُشعِل النار وهو يُطلِق صيحاتٍ غريبة.. زاجِراً القطيع.. أو مُنادياً الكلاب.. حاثّاً إياها على النُباح.. دخان الحطب المُبتلّ يتصاعد كثيفاً.. مُقاوماً زخّات المطر.. السيول تُخرخِر مُتجهةً نحو الشمال.. وتغيب في المنعطفات.. حيث الأودية تصبُّ في أودية.. غِربان المساء تتشاكس.. تتقلَّب في الهواء.. فرِحةً بالمطر.. وبالعودة إلى أوكارها.. وفي الأُفق الشرقي ترتسم النَّدْوَى قوساً زاهياً.. يتلاشَى أسفله خلف ذوائب الأشجار.
تكوَّم الراعي بالقرب من النار.. مُصغياً.. كان يُخيَّل إليه أحياناً أنه يسمع صهيلاً أو وقْعَ حوافر.. وأحياناً أخرى يُخيَّل إليه أنَّ حصاناً قد نَخَر خلف الشجرة المجاورة.. فيقوم ليستطلع الأمر.. ويُصيخ إلى سكون الليل.
( ل )
... في آخر الليل غلَبه النعاس.. فاستسلم للنوم بالقرب من الجمرات الخابية تحت الرماد الأبيض.. وقُبَيل الفجر.. حينما كان مسعود لا يزال مُستغرِقاً في النوم.. كانت الخيول البِيض تنحدِر مع الوادي.. وقد أخفت السفوح النَّديَّة وَقْعَ سنابكها.
***
(1996)