26 فبراير، 2013



ثور الاستيلاد

قصة قصيرة.



                                                     1
      ... الأرملة تخلع السواد.. يظهر على كتفيها شال أحمر.. في يديها تشرق نقوش الحناء.. جسدها يتغربل لصوت الذكر الأجشّ.. تطيل النظر إلى قمصان الرجال وسراويلهم التي تقطر فوق حبال الغسيل.

2

   ... بقرتها منذ الأمس وهي تنط فوق الأبقار الأخرى.. تلك هي طريقتها في الإعلان عن رغبتها في الثور.. تنظر إليها بشيء من الحسد.. فالبقرة تفصح عن اشتهائها في وضح الشمس.. تخور.. تتشمم الهواء بحثاً عن رائحة الثيران.

3

   ... تمشي مع السفح الشرقي.. تتلفّت.. القش يقرمش تحت حذائها.. شالها الأحمر يبرق في خلوات الغابة.. دخان خفيف يصعد من مصب الوادي.. إنها شاي الضحى عند الرعاة.. خوار الثور يُسمَع متقطّعاً خلف الأجراف.

4

   ... تجلس على صخرة عريضة بعيداً عن النار.. تشبك يديها فوق ركبتيها.. يمد لها كوب الشاي.. يرتعش الكوب.. تنسكب بعض القطرات على أصابعها.
ـ لا تقلقي من ناحية الثور.. إنه مروَّض.. هادئ.. بإمكان أية أنثى أن تقوده.
ـ هل هو مناسب.. أعني...
ـ أوووه.. في كامل النضج.. نموذج!
ـ ألا يبدو قصيراً بعض الشيء؟
ـ لا يمكنكِ أن تحكمي عليه وهو نائم.. انتظري حتى يقف.
ـ أخشى أن يكون نحيفاً.
ـ إطلاقاً.. اقتربي منه.. ها هو يقف.. يمد عنقه ناحيتكِ.. فتيّ.. ممتلئ.. مستقيم الظهر.. اقتربي أكثر.. يمكنكِ أن تتحسسيه.. لن ينطحكِ.
ـ أوووه.. دافئ.. على الرغم من أنه كان في الظل.

5

   ... تعود مع السفح الغربي المظلَّل.. تقود الثور.. تمشي بهدوء.. وعلى شالها يعلق الكثير من القشّ.

***

                                                  (2013)

12 فبراير، 2013



رئيس العُمّال الجديد


قصة قصيرة.

   ... رئيس العُمّال الجديد في يومه الأول:
ـ لو سمحتم يا سادة.. عجنة خمسة أكياس إسمنت.
   ينظر العمال إلى بعضهم.. يبتسمون.
ـ أرجوكم يا سادة.. وقت الغداء لم يحن بعد.. نزّلوا الحديد.
يرتفع سقف ابتسامات العمّال.. قهقهة.. هَمْس: (لو سمحتم.. أرجوكم.. يا سادة)..!
ـ عفواً.. ما الأمر؟ هل قلتُ شيئاً يستدعي الضحك؟!
يتقدم نحوه أحدهم:
ـ وعفواً أيضاً؟! هههه.. يا أستاذ.. ما ينفعش.. كلام فارغ.. أي رئيس عُمّال أنت؟ ارفع صوتك.. عربدْ.. عجنة يا كُسالى.. ما فيش غداء قبل تنْزيل الحديد يا تنابلة.. ولا بأس حتى من كلمة (تيوس) مرّة مرّة.. حلوة في فمك..! افرض هيبتك.. حسّسنا انّك رئيس حقيقي.. الله يرحم رئيسنا السابق.. كان صوته يلعلع بالشتائم على طلّة الصبح..!

***

(2012)


الحافلة


قصة قصيرة.


   ... الحافلة ذات الستين راكباً في موقفها وسط ساحة القرية الواقعة في أعلى الجبل.. لا تتحرك بالرغم من أن محركها يعمل منذ حوالي ساعة.. فالسائق نزل لشراء سجائر وزجاجة مياه ريثما يسخن المحرّك.. تاركاً المسجل يلعلع بصوت أجش لشاعر شعبي يكيل المديح للناقة وللحصان: (أسود طليس تقول غيم حصيدة).

   ... مدير المحطة يبول واقفاً مواجهاً الريح.. ويقول بأنه يملك سنداً شرعياً لذلك.. فالناس في هذه الأيام شرعوا يفتشون في الدفاتر الصفراء القديمة عن الأسانيد الشرعية لكل شيء.. حتى لاتجاه البول..!

     سائقو الحافلات يثيرون التذمر دائماً.. يتأخرون.. يميلون المرآة لرؤية النساء.. يغمزونهن أحياناً.. يقفون على المطاعم في منتصف الطريق.. في صفقة مع أصحاب المطاعم.. حيث يأكلون مجاناً في مقابل جلب الزبائن.

     الطل المتكثف على زجاج الحافلة بدأ يسيل مع طلوع الشمس.. الركّاب يتململون.. يتثاءب أحدهم.. تنتقل عدوى التثاؤب من الكرسي الخلفي المستطيل بعرض الحافلة إلى صفّي الكراسي.. يصل التثاؤب إلى الستارة التي تفصل السائق عن الركّاب.. فمؤسسة النقل تمنع حديث الركّاب مع السائق.. الطفل الرضيع على صدر إحدى القرويات يترك الثدي لحظة ليمارس حقه في التثاؤب في سن مبكّرة.. فبلادنا أصبحت ديمقراطية فجأة.. العجوز ذو العمامة المتكوّر على نفسه في الزاوية الخلفية يستسلم لإغفاءة ويفوته مهرجان التثاؤب.. الشاب الملتحي يلعب على دودة الهاتف النقّال.. في مقدمة الحافلة اختفت صورة الزعيم.. ظهرت مكانها صورة فضيلة مفتي الديار.. من الواضح أن أحدهم مزّق صورة الزعيم على عجل.. فجزء من كتف الزعيم برتبة الجنرال لا يزال يطل من فوق كتف المفتي!

   ... أخيراً.. تتحرك الحافلة.. الطريق تنحدر مستقيمة قبل أن تبدأ الانعطافات الحادة.. لافتة كبيرة على يمين الطريق: (تمهّلْ.. أمامك منعطفات جبلية خطرة).. لكن السائق الملول لا يتمهّل.. لم يقف حتى على المطبّ الذي رجّ الركّاب.. وأيقظ العجوز المتعمّم الغافي في الخلف.. لكنه لم يستطع إيقاف الشاعر الشعبي عن التغزل في الناقة والجواد.. متى يكفّ شعراؤنا الشعبيون عن مديح الإبل؟ كان يفترض أن تكون الحافلة أجدر بالمديح.. فهي تحمل ستين راكباً على الكراسي الوثيرة.. ومكيّفة.. بينما الناقة لا تحمل سوى راكب واحد فوق ذروة ناتئة تحت صهد الشمس.. سرعة الحافلة المنحدرة تزداد مع اقتراب المنعطفات.. يا ساتر.. يخطر ببالي أمر مرعب.. أزيح طرف الستارة ببطء.. يا لطيف..!! كما توقعت.. السائق غير موجود.. يبدو أنه لايزال منشغلاً بشراء السجائر وزجاجة الماء.. أنا لا أعرف القيادة.. معظم الركّاب شيوخ وقرويّات.. هل أجابههم بالحقيقة المرعبة؟ هذا سيثير هلعهم دون طائل.. صوت داخلي يقول لي: (تشَهَّدْ وخلّيها على الله).. الله لن ينزّل ملائكة من السماء لإيقاف الحافلة.. رغم يقيني بأنه قادر على ذلك.. فهذا ليس من شأن الملائكة.. والربّ على كل حال لم يخلق الملائكة أصلاً لقيادة الحافلات.. ينبغي أن نقود حافلتنا بأنفسنا.. لم يبقَ أمامي سوى فتى ثعبان الهاتف.. سأهمس في أذنه.. يا الله.. ساقاه معدنيتان.. المنعطف يقترب.. الحافّة الجبلية تُفضي إلى الوادي السحيق المؤطر بالصخور.. ماذا أفعل؟ هل أثير هلعهم؟ هل أدوس على الكوابح؟ بهذه السرعة الجنونية ستتقطع الكوابح.. هل أعطف المقود باتجاه الصخور لعلها توقف الحافلة؟ ستون راكباً ليس فيهم من يجيد القيادة.. هل أتركهم يعيشون لحظاتهم الأخيرة بسلام؟ الأشجار وأعمدة الكهرباء تمرق إلى الخلف.. بعد قليل سنطير.. ونحلّق في فضاء الوادي.. أليس عند أحدكم خيار آخر؟ المنعطف يجري نحونا.. والشاعر الشعبي ذو الصوت الأجش لايزال يمتدح الإبل!

***
(2012)

الجدار


قصة قصيرة.


ح

... الضحى.. ثلاثتهم يستندون إلى الجدار المتقشّر.
ــ لماذا ندفن أنفسنا في هذه القرية المنسيّة.. المغبرّة؟
ــ ما رأيكم في السفر؟
ــ إلى أين؟
ــ العالم واسع.. ثمة آفاق دائماً.
ــ ألن يأكلنا الحنين؟
ــ الحنين لهذا القَفْر؟! للعجاج؟! لبلاد أهلها دائماً في عجلة من أمرهم ولا يفعلون شيئاً؟!

ن

   ... محطّة الأجرة.. يركب كل منهم سيارة.. كل منهم يجلس في الكرسي الخلفي.. كل منهم ينفث البخار ويمسح الزجاج بمرفقه.. كل منهم ينظر إلى القرية تبتعد وتصغر خلف غبش الزجاج.

ي

   ... تختفي القرية.. تتلفّت القلوب.. تلتقط التفاصيل التي لا تلتقطها العين.. البيوت الواطئة المسقوفة بالصفيح المتموج.. ديك (غالية) الذي يؤذن على درج كنيسة الطليان القديمة ذات السقف القرميدي المحدّب.. البئر.. السواقي المتعرجة.. لهب التنّور.. وأرغفته الساخنة المقرمشة.. رائحة أحواض النعناع والحبق.. بيت المومس في الغابة المجاورة.. التي حفر المتسللون إليها درباً في الصخور.. السكارى الذين يتبرعون لبناء المسجد.. الجدران الملطخة بالكتابات الداعرة وشعارات الثورة...

ن

   ... في المساء.. ثلاثتهم يستندون إلى الجدار المتقشّر.. ويضحكون..!

***
(2012)