03 أبريل، 2010

الضَّمَّة

1
... في عِز القيلولة تفزعه طرقات عنيفة على الباب..
ــ يا أستاذ حِلّ.. أفتح أفتح.. الله يفتح عليك.
يقفز حافياً.. يُحسّ بلذة بَرد البلاط فيتمهل قليلاً.
ــ افتح يا أستاذ.. حِلّ.
يُدير المفتاح فيدفعون الباب في وجهه..
ــ خير؟ من اللي مات؟
ــ أيّ مات؟ فال الله ولا فالَك.. راقِد؟! هذا وقت نَوم؟ ما تَشبع من النوم كيف القطاطيس!
يقول بشيء من العصبيّة:
ــ خير.. أيش فيه؟
ــ فيه كل خير.. يا سِيْدي قالوا آمر الْمنطقة يريد يمرّ علينا في العشيّة مرور الكِرام.. مستعجل.. الله يرحم اللي قَرّاك.. تَكتك له برقيّة تأييد.. يسمع خبرها اللي ما نظَرها.. عَجّلْ.. الراجل في الطريق.
2
... يجلسون على الصالون.. يُحضرون منافِض السجائر.. يدخل أحدهم إلى المطبخ لإعداد الشاي..
ــ يا أستاذ.. أنت اهتم بالبرقية بَسّ.. وَين السكّر؟
3
... يدخل حجرته.. يجلس أمام شاشة الحاسوب.. يتّكئ بمرفقيه على حافة الطاولة.. يضع رأسه بين كفّيه.. يُمَرِّر أصابعه داخل شَعره وهو يتأمّل لوحة المفاتيح.. ويحاول أن يعرف الفَرق بين مرور الكِرام ومرور الجنرالات.. ثم يقول:
ــ صيغة البَرقيات تكاد تكون واحدة.. سأحاول أن أكتب شيئاً مختلِفاً.. فالبرقية تظلّ نَصاً على كل حال.
4
... في المساء يصطف أهل القرية بِمحاذاة الطريق ترقّباً لآمر المنطقة.. ينظرون إلى ساعاتِهم.. وإلى امتداد الطريق الذي تبتلع نهايتَه الغابة.. يتطوع أحدهم لقراءة البرقية.. ينظر إليها ويتمتِم.. ثم يسحَب أحد الواقفين بجانبه.. يجرّب عليه نَبرة الصوت التي سيستخدمها في قراءة البرقية.
5
... يقتحمهم الرتل فجأة من طريقٍ فرعيٍّ آخر.. يتوقف.. تُحدث الإطارات صريراً حادًّا على الإسفلت.. يلَوّح الجنرال بيده.. يأمر الرتل بالتحرك..
ــ فيه برقية يا سَيّدي.
ــ بارك الله فيكم.. أنا مستعجل.. هاتوا البَرقية.
يتوارَى الرتل في الْمنعطَف مُخلّفاً خيبة أمل كبيرة على الوجوه.. فالبرقيات الْمقروءة بصوت احتفالِي.. يتخللها التصفيق والهتاف.. لها وَقع خاص.
6
... قُبَيل الفجر تُفزعه طرقات عنيفة على الباب..
ــ أفتح يا حيوان!
يجلس العساكر على الصالون بأحذيتهم.. يقول النقيب ـ وهو يضع عَصا الشرف تحت إبطه ـ:
ــ أنت الحيوان كاتب البرقية؟ يا بهِيم.. فيه واحد يقول للجنرال: (أنت القَمع الذي يجمع شتات الأمة).
ــ لا يا فندي.. والله فيه ضمة على القاف.. القُمْع.. والقُمْع هو المحقن.
ــ ما علاقة المحقن بالجنرال يا حمار؟!
ــ يا فندي بدون المحقن يحدث إهدار للمُقدّرات.. مثلاً.. أنت لا تستطيع أن تسكب الماء في البرميل إلا عن طريق القُمْع ـ بضَمّ القاف ـ هذا اسمه في الفصحى.. وكذلك الحليب في الشكوة.. كل السوائل لا يمكن أن تُسكَب في الأواني الضيقة إلا عن طريق القُمْع ـ بضَمّ القاف ـ أقسم لَك بالله فيه ضَمة.. حتى الْمَحشي ـ يا فندي ـ لا يدخل المصارين إلا عن طريق القُمْع.. شفت أهمية القُمْع؟!
ــ أيّ مَحشي وأيّ مصارين؟ تضحك علَيّ؟
ــ لا يا فندي هذا تشبيه.. هَذي بلاغة..
ــ تَوّا نورّيك البلاغة.. أَطرحوه.
يطرحونه على البلاط..يفكون أحزمتهم.. يستعملون أعقاب بنادقهم.. وأحذيتهم.. وعلى الرغم من زحمة الأدوات.. إلا أن عصا الشرف تَجد لها مكاناً أيضاً!
7
...في غرفة العناية الْمركزة تقول له الْممرضة:
ــ نفتح لَك الروشن يا أستاذ؟
يصرخ بفزَع:
ــ لا..لا .. بلاش الفَتح.. ضمِّي.. ضمِّي الروشن والبطاطين والفراش.. ضمِّي كلّ شي.
يتكور على نفسه.. يضمّ رُكبتَيه إلى صدره.. يضمّ كَفيه إلى بعضهما.. يَهذي:
ــ ضمُّوا.. ضمُّوا كلّ شي.. ضمُّوا.. ضمُّوا.. ضمُّوا..
***
(2006)

هناك 14 تعليقًا:

  1. أحمد الفرق بين مرور الكرام ومرور الجنرالات هو كالفرق تمامآ بين الكتاب وأشباه الكتاب...وبالضم طبعآ......

    ردحذف
  2. جميلةيا أحمد..تلك المفارقةالثرية بالرمز بين الضمة والفتحة..وبراعةلغتك اللماحة المركزة..التي تختزل في بضعةأسطر، تجربة إنسانية بعيدة الغور، وعميقة المعنى..
    تحياتي
    يونس فنوش

    ردحذف
  3. السلام عليكم ...

    عرفت البسمة طريقها الي بعيد اكمال اخر كلمات

    لا..لا .. بلاش الفَتْح.. ضمِّي.. ضمِّي الرَّوْشَن والبطاطين والفراش.. ضمِّي كلّ شي.


    احسنت


    خالص تحياتي

    ردحذف
  4. وها أنا ذا أضم حاجياتي وأغادر ظل الخروبة خوفا من مرور آمر المنطقة والعساكر..
    علاء الكزة
    من تحت ظلال الخروبة

    ردحذف
  5. هكذا نعرف متى نضم أنفسنا و متى ننفتح على العالم ... هي رسالة لكل الذين يريدون الإنفتاح سيكون لعصا الشرف نصيبا من جلودكم .... هنا فقط أدعو إلى بقاء الحال على الضم خير من الفتح .... رائع أيها الكبير

    ردحذف
  6. فتح الله عليك استاذ احمد وضمك الى خير خلقه في جنات النعيم.
    جمال المغربي

    ردحذف
  7. السلام عليكم

    في بلادي كل شئ موزع بالتساوي ياأستاذ أحمد ..

    أحتكروا النصب ، والفتح ، والتكسير أقصد الكسر ..

    وأعطونا الضم ..

    ومن شدة تعلقنا بالضم .. حتى أفواهنا ضممناها .

    سلمت أناملك أستاذ أحمد.

    ردحذف
  8. الكاتب الرائع / أحمد

    بعد تجربة أستاذنا المريرة لا يبقى لنا سوى أن نتكلم بالعامية دون إعراب .
    بعيد عن الفاعل والمفعول والصفةوالموصوف والتشبية والمشبه به ..
    بعيد عن الضمة والفتحة والكسرة والشدة والتنوين .

    بالمفشري .. محقن .

    ردحذف
  9. عندما تتضمن كتاباتك كلمات من اللهجه الليبيه احس بانني اقرا لكاتب ليبي وان الموضوع ليبي وان المكتوب عنهم ليبيون فاحس بانني اقرب اليهم وافهمهم وافهم ما يرمون اليه..سعدت جدا بهذه القصه فقد طلبت من حضرتكم من قبل ان لو تتكرم وتكتب لنا باللهجه الليبيه.شكرا

    ردحذف
  10. أخي العزيز أحمد ...
    لكل قصة من قصصك مذاقها المختلف ، وفي كل واحدة منهن نجد شخوصا أخرى ، حديثك عنها ووصفها يجعلها تتحرك بيننا وتبادلنا الحوار ..
    لاأدري هل الأمر مجرد صدفة أن تنشر هذه القصة الآن وأنت موجود في مسقط ، في سلطنة عمان ، عُماااااان بالضمة طبعا !!!!

    عد سالما بإذن الله تعالى بعد أن تكون قد تألقت في الأسبوع الثقافي الليبي الذي يقام هناك هذه الأيام .

    نعيمة الطاهر

    ردحذف
  11. أخي العزيز أحمد /

    وانت هناك نحن معك .. نعرف بأنك سوف تشرفنا .. عد لنا بالسلامة ومحملاً بالتشريف .

    أخيك عبدالحفيظ أبوغرارة

    ردحذف
  12. كل التحية والشكر للاخت نعيمة الطاهر
    لأنها عرفتنا بتواجدك في الأسبوع الليبي في عمان .
    في إنتظار مشاركتك وما يكتب عنك .

    أخيك / عبدالحفيظ أبوغرارة

    ردحذف
  13. كعادته أحمد يوسف عقيلة ، يكون حاضرا ومميزا أينما وجد وحيثما كان ، هناك في عُمان تمت إستضافته خارج برنامج الأسبوع الثقافي ، فقداستضافته الحامعة في أصبوحة قصصية كانت مميزة ، وشارك في واحدة من أماسي جمعية الكتاب العمانيين بناء على دعوة منها ، وأجرت معه صحيفة عمان لقاءا مطولا ، كما التقاه التلفزيون العماني ، وأخذت كل قصصه التي شارك بها لنشرها في الصحف العمانية ، هذا هو أحمد يوسف عقيلة صديقنا المبدع الذي يشرًف ليبيا في كل مشاركة باسمها في المحافل الثقافية ...
    شكرا لإطرائك أخي العزيز عبد الحفيظ أبو غرارة .

    نعيمة الطاهر

    ردحذف
  14. الأخت العزيزة / نعيمة

    لك جزيل الشكر والثناء لعطاءك الجميل .. رجائي أني لم أتجاوز العزيز أحمد .

    عبدالحفيظ أبوغرارة

    ردحذف