21 يونيو، 2010

القِدْر

(إلى الصديق الشاعر: زهران القاسمي)
1
... منتصف أغسطس.. جازية التي ترمّلت منذ صغرها.. تستلقي في ظل الخرّوبة.. تراقب القرون التي اسودّت بعد الضباب الأخير.. تهزّ رأسها.. تنهض على أربع.. تُجهِّز قِدْرها وموقدها.
2
... في الضحى تحتّ قرون الخرّوب بعصا المكنسة.. تستمتع بالتساقط والخشخشة.. وتقافز القرون عند قدميها.. تكوّمها فوق الحصيرة.. تبدأ في دقّها فوق العتبة الإسمنتية.. تحفن الخرّوب المجروش داخل القِدْر.. تغرقه بالماء.
3
... تصفّي الخروب.. بعد ترطيبه ليلة كاملة.. تلقي بالنثل أمام بقرتها.. تضع القِدْر فوق موقد الغاز.. ترفع اللهب حتى تنبثق ألسنته من تحت الطنجرة.. تغفو.. تنهض على فترات لتطمئن على العصارة.
4
... في الضحى التالي تفوح رائحة الرُّبّ.. جازية ـ التي لا تكف عن صنع الأشياء الحلوة ـ تلقي رغيفاً من خبز التنور وسط فوران السائل الداكن.. فوح الرُّب ينتشر.. يتعدّى سياج بيتها.
5
... تكثر الطرقات على باب جازية...
جارتها القريبة تحضر كوباً من الشاي.. تدس أصابعها الثلاث الوسطى في القِدْر الذي يغلي.. تلحس.. تتمطّق.
الممرضة تطمئن على صحتها.. تأخذ لحسة.. تغمض عينيها.. تمتص لسانها.
قارئ عَدّادات الكهرباء يتحسس جبينها.. يأخذ لحسة.. يُمرّر لسانه على شفتيه مستقصياً أثر الرُّبّ.
حرس الغابات يأخذ لحسة طويلة.. من باب الاطمئنان على صحة الخرّوبة!
عابر سبيل يغمس إصبعين طويلتين.. يلعقهما.. معتذراً عن الوهم في الباب.
الكُرَة تسقط في حاجر البيت.. يلحقها فريق من اللاحسين الصغار.
ضابط القرية يرفع صوته من خلف الباب:
ـ أنا يا عمّتي جازية لا أتحايل.. بصراحة سآخذ لحسة.. وقضمة من رغيف الرُّبّ.
6
... آخر النهار.. جازية تنظر إلى الرُبّ القليل المتبقِّي في قاع القِدْر.. تتنهّد:
ــ لحسوني!
تصبّ السائل الأسود الدبق الطري في زجاجة صغيرة حتى آخر قَطرة.. تُحكِم إغلاقها.. تمسحها بعناية.. تتأملها.. تُقرّبها من أنفها بيدين مرتجفتين.. تُغمض عينيها.. تأخذ نفَساً طويلاً...
تجفلها طرقات متلاحقة على الباب...
***
(2010)

هناك 5 تعليقات:

  1. بعد كل ما فعلت الجازية وبذلت من مجهود مضني .. تأتيها الفواتير وتتراكم عليها ..
    كهرباء .. مياه .. صرف صحي .. قمامة .. هاتف ..وما إلى غير ذلك من فواتير مستحقة عليها ..
    لا يغطي مرتبها من الضمان كل ذلك ولا تغطيها دموعها .
    أختك سهام

    ردحذف
  2. بعد كل مافعلته جازية ، يأتيها مريدي صنعتها الجميلة ، يتذوق حلاوة ربها الجميع ، الخاص والعام القاصي والداني ، الكل يستمتع يتذوق حلاوة الرب المميزة ، جازية ملكة الإبداع في تصنيع رب الخروب ، تجيد التفنن في تجهيزه وترتيبه و ( تربيبه ) ، بعد كل مافعلته جازية وبعد أن تذوق الجميع رب خروبتها ، يتبقى لها ما يكون كفيلا بجعلها قادرة على أخذ نفسا طويلا إستعدادا للرد عل مزيد الطرقات واستقبال مزيد اللاحسين ....
    ( لحسوني ) أو هناك غير الجازية جديرا في أن يطمع الآخرون بكرمه ؟!!!
    حتى أنا أخذت ( لحسة ) من هذا الرب الشهي ، دامت خروبتك عامرة بالرب ، والحب ، والعطاء الجميل عزيزي أحمد .

    نعيمة الطاهر

    ردحذف
  3. كلن صاحبك رب ماتلحسش كله /

    ردحذف
  4. بعد فترة غياب طويلة عن الخروبة تجذبنا اليوم رائحة رب جازية الفايح..

    علاء الكزة

    ردحذف
  5. جمال المغربي5 يوليو 2010 في 3:08 ص

    الرُّبّ وفير والرب كريم, ستظل جازية تدق وتدق,وستظل ليبيا تدق وتدق.

    ردحذف