10 أبريل، 2010

الجوْكَر

(أن تكون بلا سِرّ.. سِرٌّ أيضاً!) (أدونيس)
1
... على الرصيف الإسمنتي العريض.. يفترشون بَطَّانيةً قديمة من بطاطين الجيش.. بعضهم يفترش نَطْعاً.. يلعبون الكارطة.. لا يجلس سوى اللاعبين الأربعة.. أمّا الباقون فكانوا وقوفاً.. وعلى الرغم من أنهم ـ في الظاهر ـ يُشكِّلون الجمهور لتلك المنافسة الساخنة.. إلا أنهم جميعاً يشاركون في اللعبة.. بالآراء.. التوقعات.. إسداء النصائح.. يصْفِقون أيديهم.. يُشيحون بوجوههم أسفاً بسبب لعبة خاطئة.. وقد يصل الأمر ببعضهم إلى التدخل شخصيًّا.. وانتزاع ورقة من يد اللاعب الغشيم.. وإلْقائها على البطَّانيَّة.. فتلك هي الورقة الصحيحة.. التي لا ينبغي العدول عنها.
في الخلفيَّة.. دكان خضروات.. تحمل واجهته لوحةً معدنيةً باهتة.. مكتوب عليها بخط صاحب الدكان نفسه (جَنّة الخضروات).. تتدلَّى تحتها مباشرة ربطة معدنوس ذابلة.
على يسار الخضروات مجزرة.. تحمل هي الأخرى لافتة معدنية بخط أحمر (دنيا اللحوم).. يتدلَّى في المدخل رأس جَدِي.. يعضُّ لسانه.. ويلتفّ حوله الذباب.
على يمين الخضروات جمعية استهلاكية تحمل لوحتها اسم الصحابي (المقداد بن عمرو).
2
... الجميع ـ لاعبين وجمهوراً ـ يترقَّبون الورقة المنتظَرة.. التي لا طعم للعب بدونها.. كلما امتدت يد إلى الأوراق المصفوفة.. تركَّزت كل الأنظار على الأصابع وهي تسحب مرتعشة.. العيون التي لا تملك زاوية رؤية مناسبة يكفيها أن تنظر في وجه اللاعب.. ففي ذروة المنافسة تحولت وجوه اللاعبين إلى مَرايا صقيلة.
أخيراً.. في إحدى السحبات المُوفَّقة.. ظهر الجوكر المنتظَر.. لباسٌ مُزخرَف.. طربوشٌ مائل.. حذاءٌ طويل برأسٍ معقوفٍ إلى الأعلى.. وعصا سحرية رقيقة.
تمطَّى.. فرقع أصابعه.. مسح العرق.. حكَّ رِجله بالعصا.. ثم ألقى نظرة فاحصة على الأماكن الشاغرة.. تجاوز الأوراق ذات النقاط المحدودة.. واندسَّ في مكان السبعة.
ــ لا بأس.. السبعة على كل حال ليست شيئاً سيّئاً ـ مرحليًّا على الأقل ـ لكن علينا حَرْق المراحل.. ثم دعونا نتذوق طعم الأنوثة! منذ بداية (الطَّرْح) وأنا منكفئ على وجهي فوق هذه البطَّانية العفِنة.. هِمَّتي لن تقصر دون الطبقة المُلوَّنة.
... واستمرَّ السحب...
3
ــ ها قد جاءت السبعة.. لقد انتظرتُكِ طويلاً.
صعد متسلِّقاً..
ــ أنا على مشارف الطبقة المُلوَّنة.. الفرصة سانحة الآن.. قد لا تسنح إلاَّ مرَّةً واحدة في الطَّرْح.
بخُبثٍ غرز طرف عصاه في كتف الولد.. ونَطَّ عالياً حتى احتضن بنت الديناري من الخلف.. فابتسمت.. مما جعل الولد يشتعل غيظاً.
ــ هنا.. حيث الدفء.. وبهجة الألوان.. والرؤية من فوق.. ما كنت أحسب أنَّ (المُوْجِيْرا) مُدجَّجة بكل هذا الدفء.. واو! لا أدري لماذا لا يُصنِّفون النهدين من ضمن أسلحة الدمار الشامل؟! ما حاجتي للستات والسبعات؟
الْتفت إلى الأعلى..
ــ شيء مذهل ألاَّ ترى أحداً فوقك.
4
... في سحبةٍ طال انتظارها.. ظهر (الرَّيّ).. ذلك الشايب الملتحي.. بشواربه المفتولة.. المعقوفة إلى الأعلى.. وتاجه المرصَّع.. وسيفه البرَّاق.
صاح الجمهور:
ــ نزّلوه.. حطُّوه في الأربعة.. هو المكان الوحيد الفاضي.
صرخ:
ــ لا.. لا يمكن.. بعد الملك أنحدرُ إلى الأربعة.. بعد العرش أنبطحُ على البلاط.. هذه صَعلكة.
احتدَّ الحشد:
ــ انزل.. انزل.
ــ انزل يا حيوان.
ــ انزل يا تَيْس.
رفع عصاه.. تصفَّح وجوههم باشمئزاز.. ألقى نظرة أخيرة على جلالة الملك.. وقفز إلى الأرضيَّة.. ثم قفزة أخرى إلى الرصيف.. انسلّ إلى الدكاكين الخلفية.. في اللحظة التي كانت فيها الدهشة كافيةً لإخفائه عن الأنظار.
5
... مكتب مختار المحلَّة.. أو بالأحرَى جمعية الصحابي المقداد بن عمرو الاستهلاكية.. مُزدحِمة بالزبائن.. البضائع مُكدَّسة في فوضى غريبة.. الدقيق بجانب الصابون.. البوطاس تحت البُنّ.. الحلوى فوق الزيت.. والملح فوق الجميع.. كانت الجمعية في حاجةٍ إلى مُعجِزة لتُعيد الأمور إلى نصابها.
أخرج المختار ورقة.. سحب القلم من فوق أُذنه.. وأخذ يُحصي بعض الحسابات.
قاطعه الزبائن:
ــ يا حاج نوَيقص.. نبِّي شهادة حسن السيرة والسلوك.
ــ يا عمِّي نويقص.. شهادة خلُوّ عمل.
ــ شهادة عدم ملكيَّة سكن.
صاح المختار وهو يخلع عباءته:
ــ صلوا على النبي.. (وما جعلنا لرجلٍ من قلبان في جوفه)!
ــ (قلبين) يا حاج نويقص.
ــ أيْش الفرق؟ قلبان.. قلبين.. نفس المعنى.. بلاش كلام فاضي.
ثُمَّ حدَّج صاحب التصويب:
ــ قريت القرآن من قبل بوك ياخذ أمَّك!
تنهَّد:
ــ إيييه.. كنَّا نكتب السُّوَر بالفحم.
ضحك الحاج خليفة:
ــ كنت تكتب أشياء واجدة بالفحم.. تذَكَّر الأشكال الداعرة اللي كنت ترسمها على الجدران؟
سرت عَدوى الضحك في الزحام.. أضاف العجوز خليفة وهو لا يزال يقهقه:
ــ والعبارات القبيحة الفجَّة.. اللي كنت تكتبها على الصخور؟
استشاط نويقص:
ــ وأنت يا بوعمايا.. كنت تكتب اسمك بالبول على التراب!
تعالت القهقهات..
ــ يا حاج نويقص لا تعطّلونا.. أنا مستعجل.
ــ العجلة من الشيطان.. تفضل يا مستعجل.. أيش تريد؟
تنحنح المستعجل:
ــ بصراحة يا حاج.. أنا نبِّي شهادة إتمام زفاف.. وشهادة عدم إتمام زفاف!
اتَّسعت عينا المختار:
ــ تريد شهادتين متناقضتين؟
ــ كل واحدة مطلوبة في جهة.
ــ اِم.. باهي.. باهي.
غطس نويقص تحت الدُّرْج.. أخرج رزمة أوراق مُجعَّدة.. نفخها من أثر الدقيق.
ــ عمَّك نويقص عنده كل شي.. نقدر نعطيك حتى شهادة وفاة.
ــ بعد عمر طويل إن شاء الله.
ــ نقدر نعطيك شهادة وفاة.. حتى وعمرك طويل.. صدِّقْني.. عندي نموذج يصلح لكل شي.. تفضَّل يا سِيدي.. يا مستعجل.. هذي شهاداتك.
ــ ختمتها بالمقلوب يا حاج.
ــ المُهم فيه ختم.
ــ الورقة عليها لطخة.
ــ لا.. بسيطة.. لحقها شويّة زَيْت بَسّ!
أدخل القلم في أُذنه.. أخذ يُحرِّكه مُغمضاً عينيه نصف إغماضة.. وأضاف:
ــ أَحّ.. أَحّ.. أَحّحح.. هذا أحسن.. الشهادات المزيَّتة أفضل من الشهادات الجافة.. الزيت يخلِّيها تمرّ بسرعة في الدوائر الحكومية!
وانفجر ضاحِكاً..
يبدو أنَّ الضحكة قد قصَّرت عن التعبير عمَّا يجيش في صدر المختار.. فَذَيّلها بصرخةٍ قصيرة.
في هذه الأثناء.. كان أحد الزبائن يبحث خلف الدرج عن شيءٍ يحمل فيه بضاعته.. ولمَّا لم يجد شيئاً.. حاول تفريغ بعض الأكياس.. ثم صاح رافعاً أحدها:
ــ أيش هذا يا حاج نويقص؟
حاول المختار انتزاع الكيس.
ــ هات.. خلِّيه عنَّك.
لكنَّ محتويات الكيس لم يكن في الوسع إخفاؤها.. فأخذوا يُخرجونها قطعةً قطعة.. (لباس مزخرف.. طربوش.. حذاء طويل برأس مُدبَّب.. وعصا رقيقة).
... وسط الدهشة الثانية.. اختفى المختار...
6
... ذات صباح قام الأستاذ رجب معلِّم الجغرافيا بجمع المدرسة كلها.. وزَّع على التلاميذ جوالات صغيرة (زغَابي).. جاعلاً كل واحدة منها على شكل طربوش.. في أعلاه بالون مُلوَّن منفوخ.. وعندما لبسوا الطرابيش.. وهم يتباهون كالديوك بالبالونات المُلوَّنة فوق رؤوسهم.. وضعَهم المعلِّم في طابورين طويلين متوازيين في الشارع العام.. وقال:
ــ نبِّي منكم كلمة واحدة.. بصوت عالي.. كلمة (واحد).. مهما قلت أنا.. قولوا وراي (واحد).. مفهوم؟ نبِّي صوت يزلزل الدنيا!
تحرَّك الطابوران.. طابوران من الشوالات.. يجوبان شوارع المدينة.. أخذ المعلِّم يصرخ مُلوِّحاً بقبضتيه في الهواء.. والتلاميذ يردِّدون خلفه بملء حناجرهم الطفولية:
ــ شعبٌ عربيٌ.
ــ واااااااحد.
ــ جيشٌ عربيٌ.
ــ واااااااحد.
ــ أُمة عربية.
ــ واااااااحد.
ــ لمَّا نقول (أُمة عربية). قولوا (واحدة) يا بهايِم.
ثم استمر يصرخ بشعارات معادية لكل شيء!
في اليوم التالي لم يحضر المعلِّم إلى المدرسة.. أمَّا تلاميذه فقد كدَّسوا الشوالات في المخزن.. واستمتعوا بفرقعة البالونات تحت أقدامهم.
7
... داخل مكتبه في دار البلدية.. كان الأستاذ رجب يجلس في كرسيه الدَّوّار.. قال يُحدِّث نفسه:
ــ هنا.. حيث الدفء.. وبهجة الألوان.. والرؤية من فوق.. ما حاجتي للتلاميذ.. قم يا ولد.. اجلسي يا بنت.. اسكت يا عيِّل.. يتسلل الطباشير إلى صدري.. وأُنفق العمر في الحديث عن كُروية الأرض!
أخذ يُقلِّب بين يديه لوحة بلاستيكية مقوسة.. من ذلك النوع الذي يوضع على المكاتب.. مكتوبة بخط زخرفي مُجسَّم.. أغمض عينيه.. وبدأ يُجرِّب قراءتها بطريقة (برايل):
ــ ع.. م.. ي.. د.. ا.. ل.. ب.. ل.. د.. ي.. ة.
أعاد اللوحة إلى مكانها.. أغلق الباب بالمفتاح.. ثم فتح دُرجاً في خزانة معدنية.. أخرج حقيبة جلديّة.. بدأ يضع المحتويات بعناية فوق الطاولة.. (لباس مزركش من قطعتين.. طربوش.. حذاء طويل ذو رأس مُدبب.. وعصا رقيقة.. ملساء لامعة).
خلع البذلة.. ارتدى تلك العدة بكاملها.. ثم وقف أمام المرآة المستطيلة بالقرب من المدخل.. تأمَّل نفسه.. أدار ظهره للمرآة.. ألْقى نظرة من فوق كتفه.. وابتسم.
أخذ يُجرِّب بعض الشخصيّات.. مَسَّ نفْسه بعصاه السحرية.. فقابَله في المرآة نقيب تُثقل النجوم اللامعة كتفيه.. وتُزيِّن صدره الأنواط والنياشين.
أخذ دورة كاملة..
ــ لا بأس.. يبدو طيَّاراً.. واضح.. لابِس (فلايت سُوت).
مَسَّ نفْسه مرَّة أخرى.. فواجهَهُ في المرآة رجل يرتدي بذلة زرقاء أنيقة.. برباط عنق.. قميص أبيض.. وحذاء أسود.
ــ هذا أيضاً لا بأس به.. يبدو دبلوماسيًّا.. وزيراً أو ما شابَه.
تطلَّع خلفه.. إلى الإطار الذهبي الذي يحوي صورة الجنرال.. بلحيته الكثَّة.. وصدره المرصَّع بالأوسمة.. والسيف البَرَّاق.. وعصا الشرف.. ثم شرع يضحك.. وقد أذهله الشبه الشديد بين عصاه.. وعصا الجنرال الرقيقة الملساء!
***
(1999)

هناك 3 تعليقات:

  1. الكاتب الجميل أحمد
    قصتك تتسم بشيء من التطويل وربماهي تتناسب مع عدد أوراق الكارطة وإعادة التمشكاية .. ولكنها رائعة دون شك وحتى ولو لم تقل لنا ماذا لو كان في اليد الواحدة جوكرين هل نسوقر واحد أم نسقرطاه .. الجميل في اسكرطاية الجوكر ما يشبه رمي ديكتاتور بالرصاص .. نصر مضاعف لا نعرفه سوى على الارصفة أو في المرابيع .

    ردحذف
  2. السيد الكاتب الا فاعلم ان العرب قديما قد قالوا ماهومناسب للتعليق على ماقرأته في ... لاأدري مااسمي ماكتبت ؟ ولكن قيل لكل جواد كبوة ولكل فارس هفوة ..فهل ستكون فارسا ؟

    ردحذف
  3. الجوكر وحسب معلوماتي البسيطة في " الكارطة " -بإعتبارها لعبة ذكورية - يحل مكان ورقة غائبة ..وفي هذه الحالة ( حالة الغياب العربي الكاملة) كم نحتاج نحن العرب من جواكر ؟

    أختك سهام

    ردحذف