14 نوفمبر، 2009

كَاتِبُ الأماني

1
... إمام قريتنا يمتلك مفاتيح الجَنَّة.. حتى الأغنية الشعبية تقول ذلك: (في يديه مفاتيح الجنّة).. وهو في كل جمعة يُلوِّح لنا بالمفاتيح من فوق المنبر.. ومع أنَّ أبواب الجَنَّة ثمانية.. إلاّ أنَّ مفاتيح الإمام كانت تسعة!
في آخر جمعة من رمضان توعَّد الذين يتركون الصلاة بمجرَّد رؤيتهم لهلال العيد.. ووصف لنا أودية جهنَّم.. وادي العقارب.. ووادي الحَيّات.. وأطنَب في وصف الثعبان الأقرع.. فطوله سبعون ذراعاً.. طول كل ذراع سبعون شِبراً.. وإذا ضرب أحد الخُطاة بذيله فإنه يغوص في قبره سبعين ذراعاً.. طول كل ذراع مسيرة سبعين يوماً!
مسح عَرَقه بطرف كُمِّه.. ثم قال:
ـ الليلة هي ليلة القَدْر.. وما أدراك ما ليلة القَدْر.. إنها خير من ألف شهر.. يعني ثلاثة وثمانين عاماً.. يعني تساوي عُمْراً.. وقد وَعَد الله عِباده بأن يُحقِّق كل أمانيهم في هذه الليلة المباركة.. ستُومِض السماء بنورٍ خاطف.. فمن رآه فعليه أن يذكر أُمنيته.. وستتحقَّق في الحال.
بلع ريقه.. ثم أضاف:
ـ حتى إذا لم تروا النور.. فعلى كل واحدٍ منكم أن يكتب أُمنيته في ورقة.. ويضعها تحت وسادته.. فالملائكة ستطوف عليكم لتأخذ أمانيكم وتصعد بها إلى السماء.. إياكم أن تضعوا شيئاً آخر.. فالملائكة لا تأخذ هدايا ولا نقوداً.. ولا أي شيء من هذا القبيل.. ولا تكتبوا أمانيكم بخطٍّ رديء.. وأنت يا حاج امْحَيْمِيْد حَسِّن خطَّك.. ولا تُتعِب الملائكة في معرفة ما تُريد.. فأنت تَصُفُّ الحروف بطريقة غريبة.. يَعْيَا حتى الشيطان عن فَكِّ رموزها.. إنَّ خطَّك يُشبه أثر الخنفساء في الوحل.
توقَّف ليلتقط أنفاسه.. ثم تابَع:
ـ مَن لا يعرف الكتابة فعليه أن يَمُرَّ عليّ في بيتي بعد صلاة التراويح لأكتب له.. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
2
... انتهت التراويح.. عاد الإمام إلى بيته.. وجد حَشْداً من الناس أمام الباب.
ـ عليك أن تُعينني يا حاج امْحَيْمِيْد.. فيبدو أنني هذه الليلة سأكون كاتباً عمومياً للأماني.
ـ وماذا بوسعي أن أفعل في أمرٍ كهذا؟
ـ يُمكنك أن تفعل أي شيء.. (النواة تسند البرميل).
ضحك محيميد.. وقال بصوتٍ خافت:
ـ مع أنني لا أشبه النواة في شيء.. إلاّ أنك حقاً شديد الشبه بالبرميل!
ـ ماذا قلت يا حاج؟
ـ قلت لا إله إلاَّ الله.
ـ قسِّمْهم إلى صَفَّين.. صَفّ للرجال.. وصَفّ للنساء.
الْتفَت الإمام إلى الحَشْد:
ـ يُمكنكم أن تتمنّوا أي شيء.. فالله عنده خزائن السماوات والأرض.
صمت قليلاً.. ثم أضاف وهو يُقهقه داخلاً:
ـ لكن بشرط ألاّ يتمنَّى أحدكم الإمامة.
جلس القرفصاء.. واضِعاً أمامه قلماً ورُزْمة أوراق.
ـ أول واحد يا امْحَيميد.
3
... دخل خَطّاب الراعي..
ـ كيف حال شِياهك؟ سمعتُ أنَّ أحد التيوس قد نَفَق.
ـ يعوِّض الله.
ـ أرجو ألاّ تُدخِل التيس في الأُمنية.. فالملائكة لا شأن لها بالتيوس!
ضحك الراعي:
ـ لا.. التيوس كثيرة والحمد لله.. أكثر من الهَمّ على القلب.. وقطيعي صغير.. يكفيني حتى تيس واحد.. وأُمنيتي أن يسرح القطيع في أمان.. أعني دون أن تَمسَّه الذئاب.
ـ هذا سهل.. رغم أنَّ السماء لا تُمطِر كلاباً.. لكنَّ الملائكة ستتدبَّر الأمر.
***
ـ الحاجّة مسعودة.. أمنيتك؟
تنحنحت.. سعلت.. حَكَّت رأسها..
ـ أنا عجوز في آخر عمري.. وحيدة.. وقليلة والي..
ـ فهمتُ.. الحاجة مسعودة تتمنَّى أن تعيش في كنَف رجل بقية عمرها.
ـ يسلم فمك يا سِيْدي.
خرجتْ.. سألتْها العجائز:
ـ أَيْش تمنَّيتِ يا مسعودة؟
ـ أَيْش تمنَّيت غير سترة وشهادة!
***
دخل بَدْر يتحسَّس الجدار..
ـ تيامَنْ.. تيامَنْ قليلاً.. ما هي أُمنيتك؟
ـ وماذا يتمنَّى الأعمى سوى قُفَّة مليئة بالعيون!
***
وقفت فضِيْلة صامتة.. صَعَّد الإمام نَظَرَه.. احمرَّت وجنتاها.
ـ اِمْ.. سأكتب أُمنيتكِ وسأعتبِر صمتكِ علامة موافقة.
بدأ يكتب وهو ينظر إليها بعد كل جُملة.
ـ فارس يختطفني..
ـ ………
ـ ولماذا الاختطاف؟ ولكن ما شأني بهذا.
ـ ………
ـ فارس يختطفني على صهوة جواده الأبيض.
ـ ………
ـ هل يجب أن يكون جواداً؟ كان هذا في الماضي.. فلتكن سيارة.
ـ ………
ـ إذا كنتِ تُصرِّين على اللون الأبيض.. فلتكن السيارة بيضاء.
ـ ………
ـ هل تُريدين تحديد نوع السيارة؟ عفواً.. يبدو سؤالي غبيّاً.
طَوَى الورقة وسلَّمها لها.. فخرجت.
ـ أماني العَذَارَى تكاد تكون واحدة.. يبدو أنه يتوجَّب عليّ أن أستعمل الكربون!
***
ـ أُمنيتك يا سُويْهِر.
ـ أنا خَبّاز كما تعلم.. وأُريد أُمنيةً تليق بالمقام.
ـ يا سلام!
ـ ما رأيك في أن تكون أُمنيتي أن يطرد الله إسرائيل؟
ـ يا عيني.. يا صاحب المقام العالي.. لا يا خُوْي.. لا تجعل إسرائيل تُلوِّث أمانينا الحلوة.. دعكَ من ذلك.. الصليبيون مكثوا في فلسطين قرنين كاملين.. ثم بعد ذلك طردهم صلاح الدين.. وإسرائيل ليس لها سوى نصف قَرن بالكثير.. وماذا تساوي خمسون عاماً من حياة الأُمَم؟ شُوف غيرها.
ـ إذن فلتكن أُمنيتي أن أكون قادراً على الاستيقاظ طوال الليل.. فأنت تعرف تعب المهنة.
ـ الأمر أسهل من هذا بكثير.. يُمكنك أن تُعلِّق في رقبتك عَين بُومة.
***
دخل القِطُّ.. تمسَّح بالإمام..
ـ تعال.. سأكتب لك أيضاً.. وحيث إنك لا تستخدم الوسادة.. فسأُعلِّقها لك في رقبتك.. (القِطُّ يتمنَّى فأراً في الإفطار.. وآخر في الغداء.. وثالثاً في العشاء).. ما رأيك.. ثلاثة فئران في اليوم ليست بالشيء القليل.
فيما كان الإمام يطوي الورقة.. لعق القِطُّ شاربيه ومضَى.
... انتصف الليل.. والإمام مُنهمِك روحاً وجسداً وقلَماً في تدبيج الأماني.. فهو يعرف أنَّ الأشياء التي تصعد إلى السماء.. يجب أن تكون بالغة الدِقَّة.
أخذ يُراوِح في جلوسه بين القرفصاء والتربُّع.
دخل طفل صغير..
ـ يا أهلاً.. يا أهلاً.. عَطِيّة.. نعم يا اعْطَيوَة؟
ـ أُريد.. أُريد..
ـ نعم.. قُل.. ماذا تُريد؟
ـ أُريد نجمةً من السماء!
انتفض الإمام.. وضع القلم.. شَبَك يديه.. أخذ يتأمَّل الطفل.
ـ ما رأيك في الحلوى؟
ـ لا.. أُريد نجمة.
ـ حذاء جديد؟
ـ نجمة.
ـ صدقت.. الحذاء لا يُمكن أن يكون كالنجمة.. ورطة!
وضع رأسه بين كَفَّيه وأطرق..
ـ وجدتُها.. ما رأيك في درّاجة؟ تطوف بها يوم العيد على زملائك.. وتذهب بها إلى المدرسة.
ـ أُريد نجمة.. لا شيء سوى نجمة من السماء.
ـ هذا ما لم أحسب له حساباً.
طوى الإمام أوراقه.. دَسَّ القلم.. استلقَى على ظهره.. سحب الغطاء على وجهه وتظاهر بالنوم.. استدار الطفل.. وخرج باكياً.
ـ ما بك يا اعْطَيوَة.. لماذا تبكي؟
ـ الإمام.. لم.. يكتب.. لي.. أُمنيتي.
ـ ما الأمر يا سِيدي الشيخ.. لماذا لم تكتب للطفل؟
ـ اسكت يا امْحَيميد.. كفانا كذباً.. أنا نفسي كذبتُ الكذبة ثم صدَّقتُها.. ولاحِظْ أننا نكذب في ليلة القَدْر.
ـ وما الفرق؟ الكذب كذب في كل زمن.
ـ لا.. الكذبة في ليلة القَدْر تساوي أكثر من ثلاثين ألف كذبة.. رأسُك الصغير لن يستوعب هذا.
ـ اكتب له أي شيء.. حبر على ورق.. أنت خاسر حاجة؟
ـ لا أستطيع.. ثم ماذا لو تحقَّقت الأُمنية؟ ألا تُدرِك معنى هذا.. ألا تُدرِك معنى أن يحصل طفل على نجمة؟ جُمجمتك الصغيرة لن تتسع لهذا أيضاً.. لا يا امْحَيميد.. إنَّ أُمنية اعْطَيوة أكبر من أن تُكتَب.
4
... نام أهلُ قريتنا مُتحسِّسين ـ بين الحين والحين ـ أمانيهم تحت الوسائد.. الإمام وَحْدَه ظلَّ ساهِراً.. يَرْقُب النجوم بقلق.
***
(1995)

هناك 3 تعليقات:

  1. الأشياء التي تصعد إلى السماء يجب أن تكون بالغة الدقة ...كالسترة والشهادة ههه

    ردحذف
  2. مدونة رائعة تستحق التأمل

    ردحذف
  3. كل منا ينام وأمنيته تحت الوسادة ، وكم من أمنيات بقت لا تبرح مكانها ، لكن أمل تحقيقها يعاود الظهور قبل كل ميعاد للنوم ...
    أن تبقى أمانينا نائمة تحت الأوسدة فذلك خير ألف مرة من أن يدخل وسيط بيننا وبين من نأمل منه أن يحققها .. وحدها النجوم تظل شاهدة على وعود الأمنيات رغم خوف الخراصون ، أوليست النجوم زاهرة كقلوب الصغار ؟ !

    نعيمة الطاهر

    ردحذف