03 نوفمبر، 2009

الوظيفة السامية للتخريف

مدخل لقراءة مجموعة (حكايات ضفدزاد) لأحمد يوسف عقيلة
محمد عبد الله الترهوني
·عودة إلى نظام الليالي:

إن العودة إلى نظام الليالي.. يعني العودة إلى الليل الخلاق.. ليل المتعة.. ليل اللذة.. والفكرة الحميمية.. أو عودة إلى التفكير من خلال الطقوس الليلية.. للراوي طقوسه التي تحتفظ له بأُذن السامع.. وللسامع طقوس تحتفظ له بحرارة المروي.. طقوس وجودية [1].. تجعل من حضور الغريب.. أو العجائبي تمهيداً لتجلي السرد.. الليل سماء البوح بلا مباح.. (وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح).. في الصباح ومع شعاع الشمس الأول تتبخر الكلمة المبللة بخيال الراوي.. ويتوقف التداخل بين حلم الراوي وحلم المروي له.. في النهار نستطيع العيش أو النوم بلا أحلام.. بلا خيال.. لكن لماذا الليل؟ ولماذا يحرّم الصباح ما كان في الليل مباحاً؟ (وإذا بامرأة الملك شهريار قالت: يا مسعود فجاءها عبدٌ أسود فعانقها وعانقته وواقعها وكذلك باقي العبيد فعلوا بالجواري ولم يزالوا كذلك حتى ولى النهار[2]).. النهار هو وقت الخيانة.. فجعله شهريار وقتاً للقتل.. في كل صباح يقتل من تزوجها أول الليل.. لن تكون هناك خيانة أخرى.. كابوس آخر.. وبما أن زوجته لن تكون في أي مكان آخر فسينام النهار مرتاح البال.. شهرزاد جعلت من الحكي تعويذة تمنع القتل جعلت من طقوس الليل (أتكلم وتسمعني) تعويذة لاستمرار وجودها.. كيف فعلت ذلك؟ فعلت ذلك من خلال تأخير تجلّي السر لألف ليلة وليلة.. السر الذي لم تكن الحكايات وحدها تحتويه.. بل فضول شهريار هو ما كان يتيح استثمار التجلي البطيء في الليالي.. ولكن هناك سؤال ربما في الإجابة عنه يكمن سر الحكايات في ألف ليلة وليلة.. هل كان أهل ساسان على علم بسبب قتل شهريار زوجته الخائنة؟ أو هل حكى شهريار حكايته أمام شهرزاد فكانت حكايتها عملية تفكيك للحكاية الأولى حكاية الخيانة؟ إن قتل شهرزاد للجواري والعبيد عند رميه عنق زوجته[3].. يشكك في علم أهل ساسان بالسبب ولا ندري إن كان هذا الشك يطال معرفة شهرزاد.. فلاشيء يشير إلى أنها كانت تعلم على وجه التأكيد حكاية شهريار مع زوجته.. إن معرفة شهرزاد من عدمها بهذه الحكاية له أكبر الأثر على المسار التأويلي للحكايات.. وربما تفقد الحكايات دور أفق انتظار القارئ لو لم تكن حكاية الملك شهريار وأخوه والتي كتبها ناسخ الحكايات.. مكتوبة قبل حكايات ألف ليلة وليلة.. سؤال آخر هام وهو.. هل كانت شهرزاد قد قررت أن سلاحها في مواجهة شهريار هو الحكايات عندما طلبت من أبيها أن يزوجها لشهريار؟ إن قول شهرزاد لأبيها (يا أبتِ زوجني هذا الملك.. فإمّا أن أعيش وإمّا أن أكون فداء لبنات المسلمين وسبباً لخلاصهن من يديه).. إن ما قالته شهرزاد لا يوحي أبداً بموضوع الحكايات.. بل إنه يلمح إلى عدة أمور على رأسها أن شهرزاد قد قررت قتل شهريار والانتقام.. وإلا فما معنى كلمة فداء هنا.. ربما فكرت شهرزاد في قتله.. وهذا ما سيؤدي إلى موتها فتكون بذلك (فداء لبنات المسلمين وسبباً لخلاصهن من يديه) إن ما يشكك في صحة النظر إلى قرار شهرزاد بالشكل الذي عرضناه هو قولها في بداية حديثها (أما أن أعيش ...) كيف كانت تتوقع شهرزاد أن تعيش على خلاف كل البنات قبلها؟ إن كل إجابة عن هذا السؤال ما هي إلا طريقة من طرق عديدة يمكن النظر بها إلى مغزى الحكايات.. وما يزيد حالة الشك لدينا حيال قرار شهرزاد هو حديثها مع أبيها الوزير في شأن زواجها من شهريار هو حكاية الحمار والثور مع صاحب الزرع التي حكاها الوزير في محاولة لجعل شهرزاد تتراجع عن طلبها.. وفي رأينا أن هذه الحكاية في غاية الأهمية.. فهي في الوسط بين حكاية شهريار وزوجته.. وكل حكايات الألف ليلة وليلة.. وبالنظر إلى ما تدور حوله هذه الحكاية نجد الفضول وما ينتج عنه.. ومن خلال تتبع السرد نجد أن هناك حالة متعددة من الفضول ينتج عنها أمر يغير في مسار الأحداث.. هناك فضول استماع التاجر لحديث الحمار والثوار.. وهناك فضول الحمار الذي أدى إلى اشتغاله مكان الثور.. وهناك فضول الزوجة التي ألحت أن يبوح زوجها بسبب ضحكه حتى لو أدى ذلك إلى موته.. وفضول استماع التاجر إلى كلام الديك والكلب الذي نتج عنه ضرب الزوجة وردها عن ما كانت تلمح إليه.. في كل مرة كان للفضول نتيجة مختلفة.. كان التاجر سيموت بسبب فضوله (الاستماع إلى حديث الحمار والثور).. وقد نجا بسبب فضوله واستماعه إلى حديث الديك والكلب.. ما الذي كان يرمي إليه الأب من وراء هذه الحكاية؟ هل هو معرفته لفضول ابنته ومحاولتها القرب من شهريار ومعرفته عن قرب؟ أم أنه أراد من هذه الحكاية أن يمنح شهرزاد سلاحاً غير ما كانت تفكر فيه تجاه الملك؟ لو أننا أخذنا بعين الاعتبار وصية شهرزاد لأختها بعد هذه الحكاية مباشرةً والتي تقول فيها (إذا توجهت إلى الملك أرسلت أطلبك فإذا جئت عندي ورأيت الملك فقولي يا أختي حدثيني حديثاً طويلاً نقطع به الليل وأنا أحدثك حديثاً يكون فيه الخلاص إن شاء الله) فإننا سوف نشعر بأن هناك تغييراً في قرار شهرزاد.. وأن أباها قد أوحى لها بالفكرة الرئيسية التي ستخطط على أساسها لألف ليلة وليلة قادمة.. لقد كان كابوس شهريار ناتجاً عن فضوله (فلما عاد الملك ورأى تغير حال ( أخيه) سأله عن سبب ذلك فقص عليه[4] ما كان من حكاية زوجته مع عبده.. وحكاية زوجة الملك مع العبد مسعود وذهاب هذا الكابوس لن يكون إلا بنتيجة معاكسة لفضول جديد إنها حكاية التاجر فضول الاستماع إلى حكاية الحمار والثور أولاً ثم الاستماع إلى حديث الديك والكلب ثانياً هذا هو ما خرجت به شهرزاد من الحكاية..[5] يجب أن نشير هنا إلى أن النظر إلى حكاية الأب بهذه الصورة يتفق والرأي أن شهرزاد كانت تعلم السبب وراء كابوس شهريار (كانت تعلم السر) لأنها لا تستطيع الاكتفاء فقط بالحكي وتقطيع الحكى لأثارة فضول الملك وإجباره على السماع ليلة أخرى.. إن هناك هدفاً اكبر ولابدُ وهو خروج الملك من كابوسه.. وبهذا كان لابد أن يكون للحكايات مغزى يتماشى وهذا الهدف.. هنا يمكن القول إنه ما كان للحكايات أن تكون لولا معرفة شهرزاد بسر شهريار.. لولا التشخيص الدقيق لمرض شهريار ما كان لشهرزاد أن تحدد جرعاتها العلاجية لألف ليلة وليلة لقد وجدت شهرزاد نفسها في مواجهة تضخيم ما يرمز إليه خيانة الزوجة في عقل شهريار.. ولم تفعل شهرزاد غير حل هذا الرمز في كل حكاية بطريقة مختلفة للوصول في آخر الأمر إلى الهدف وهو أن يحكي شهريار حكايته ويتخلص من كابوسه ولو أن شهريار لم يتكلم لما علمنا بتفاصيل حكايته مع أخيه.. فربما كنا سنعرف من بعض من في القصر عن سبب موت زوجة شهريار ولكن أبداً ما كنا لنعرف أن أخاه قتل زوجته و لماذا قتلها.. إذن نحن مع شهرزاد أمام حادثة ماضية تحولت إلى كابوس وحلم مزعج من الماضي.. كان على شهرزاد أن تحارب البنية الرمزية لهذا الحلم في عقل شهريار.

أمّا مع ضِفْدزاد فقد كان الأمر مختلفاً.. كان ضفديار يعاني هو أيضاً من حلم يتكرر كل ليلة تحول إلى كابوس.. لقد رأى في منامه ( ثعباناً).

(وياله من كابوس.. شئٌ مُفزِع.. مُرعِب.. رأيت ثعباناً دَخَل البِركة.. وأخذ يُفتِّش عنِّي.. تصوَّري.. يُفتِّش عنِّي أنا بالذات.. هنا في القاع.. مع أن المستنقع يعجُّ بالضفادع) تكرر هذا الكابوس في الليالي اللاحقة.. علينا أن نلاحظ أن ضفديار قد قام بالبوح بسره من البداية عكس شهريار الذي انتظرت شهرزاد ألف ليلة وليلة ليقوم هو بالكلام "أحسَّت ضِفْدَزاد بأن مصير البِركة قد أصبح متوقِّفاً عليها" كما كان مصير جنس شهرزاد متوقفاً عليها.. ماذا فعلت ضفدزاد؟ "لقد آن الأوان للاستفادة من مخزون حكمتها.. حتى تعيد الأمور إلى نصابها".. "وأدركتْ بأنها أصبحت في مواجهة وصراع مع الثعبان الذي يقتحم مخدعها كل ليلة".

علينا أن نشير هنا إلى أن شهرزاد كانت في صراع مع تذكر فعل الخيانة التي تحولت إلى كابوس.. وتحول إلى خطر يهدد حياتها هي نفسها في آخر الأمر.. أما ضفدزاد فقد كانت في صراع مع حلم تحول إلى كابوس لكنه يهدد الملك نفسه.

إن هذا الأمر يعني استخدام سلاح مختلف في هذا الصراع (إنه لا يرى الكوابيس إلاّ في الليل.. هل هي كراهية للظلام؟ حسناً.. إذن يجب أن لا ينام.. أعني في الليل.. حتى إذا نام نهاراً بعد طول السهر.. نام نوماً عميقاً.. ولكن ما الذي يجعل ملكاً لا ينام؟".. "المشكلة أنني أُحارب ثعباناً وهمياً.. إنه يلتفُّ ويتثنَّى هناك.. بعيداً في تجاويف الرأس.. تُرى ما الذي يطرد الثعابين من ليل الملوك؟!).. "قرَّرت أن تشحذ ذاكرتها.. وأن تسترجع كل الحكايات التي تعرفها.. أن تخرجها من الظلام.. لتفرغها في رأس الملك.. حتى تزحم ذلك الوحشَ المُلتفَّ في مكانٍ ما من رأس جلالته.. بدأت تَحكي له كل ليلة".. نعم تستخدم ضفدزاد نفس سلاح شهرزاد في مواجهة الكابوس الملكي.. لكن يبقى أن كلاً منهما يؤسس الحكي في مسارة علاجية مختلفة.. تؤسس شهرزاد الحكي ليتكلم الملك في النهاية.. أما ضفدزاد فتؤسسه على كلام الملك نفسه.. في الحالتين يلعب الرمز دور المعالج.. مع شهرزاد يعالج الماضي ذكرى تحولت إلى شبه الحلم.. أما مع ضفدزاد فهو يعالج المستقبل.. حلم ينذر بما سيقع.

اللغة هي مكون الحلم وهي في نفس الوقت أداة تفسيره وتجليه.. إن اللغة في عالم الأحلام رمز وتأويل.. نص ورسالة.. باطن وظاهر [6].. شهرزاد كانت بالرمز تجعل من النسيان شيئاً ممكناً.. بما أن كابوس شهريار في الماضي.. أما ضفدزاد فتجعل للرمز عملاً وقائياً تحذيرياً.. بما أن حلم ضفديار كان نذيراً لوقوع أمر.. إنه في حالة شهرزاد تغييب.. أما في حالة ضفدزاد فهو استحضار.. كانت شهرزاد تحلم بطريقة معاكسة لحلم شهريار.. وضفدزاد تحلم بطريقة معاكسة لحلم ضفديار بما أن الرمز حلمي في أحد أبعاده أي يتأصل في الذكريات.. في الحركات التي تنبعث من أحلامنا في كلتا الحالتين كان يتم حصار ما لا يمكن حصاره.. فعلت شهرزاد ذلك من خلال مراكمة أحلام كثيرة على حلم أول أصبح مع الوقت بعيداً مكانه النسيان.. وفعلت ضفدزاد ذلك من خلال تحويل الصل (الثعبان) إلى عدة فروع والنظام إلى تشتيت.. والواحد إلى كثرة.. إنه تفكيك ثعبان الحلم إلى أجزاء صغيرة تعيد مع الوقت الثعبان إلى الظلام.. ولم تكن ضفدزاد تعمل على النسيان بل على العكس كانت تريد من أحلامها هي (حكاياتها) أن تجعل الثعبان أكثر وضوحاً أكثر تمييزاً أمام الملك.. وإذا حدث ذلك تجلى السر وفقد المجهول كل سطوته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ـ ( اتكلم وتسمعني.. إذن نحن موجودان) يعارض يونغ بهذه الجملة.. جملة ديكارت (أفكر إذن أنا موجود) راجع الكلمة والحوار والرواية ـ جوليا كريستيفات ـ حسن المودن.. مجلة الأدب الأجنبية.. العدد 104.

[2] ـ ألف ليلة وليلة.

[3] ـ المصدر السابق.

[4] ـ لا يمكن هنا أن نغض النظر عن موضوع الألحاح فأخو شهريار بألف ..... يمثل تلك الحاية إلا تحت إلحاح شديد.

[5] ـ وهذا عكس ما ذهب إليه عبد الفتاح كيليطو في العين والإبرة من أن شهرزاد (لم تذعن للإثارة ولسلطة الحكاية المروية من طرف أبيها) وهو لم ير أن هذه الحكاية إذا لم تستطيع جعل شهرزاد تعدل عن قرارها.. فستكون هي سلاحها في النجاة وبنات جنسها من القتل. أنظر العين والأبره.

[6] ـ تفسيرات الحلم وفلسفات النبوة.

هناك تعليقان (2):

  1. المدونة اكويسة سوي انها تحوي صورة رجل نصارني يلعب الكرة يا ريت تحذفها لايليق بمدونة محترمة الزج بهذه الصور الردئية

    وشكرا

    ردحذف
  2. استاذ احمد يوسف عقيلة ...
    استطعت فعلا تجسيد روح الحكاية في النجع الليبي بكل تفاصيلها ولم تتجاهل حتى المخفي منها .
    والرائع فعلا هو الحديث على السنة مخلوقات الغابة الليبية او دعنا نقول الوادي الليبي بكل مايحمل من اشياء ..يعرفها البدوي الليبي
    انه ابداع حقيقي يجعلك ترفع عينيك للسماء وتتسائل ؟؟؟؟؟؟؟؟؟
    اليك تحياتي
    واحيي من خلاالك الاستاذ محمد عبد الله الترهوني .
    سعاد يونس

    ردحذف