21 نوفمبر، 2009

تأبِيْن

ــ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. يا أستاذ (حَمَد).. كلمة تأبين لو سمحت.. بصفتك أعرف الناس بالمرحوم.. بينك وبينه عِشرة عمر.. الرجل له مقام في المجتمع.. زَوِّق لنا كلمتين.
يمسح الأستاذ (حَمَد) دموعه بطرف كُمّه.. ينشق نشقتَين:
ــ الأدوية تسعة.. والأمراض عشرة.. الموت لا دواء له.. ولأنني كنت مُقرَّباً من المغفور له.. فإنني في هذه العُجالة سأُلخِّص سيرته الناصعة.
يظهر الارتياح على وجوه الحضور لسماع كلمة (سأُلخِّص).. وتصدر همهمة.. فقد تعوّدوا أن (حَمَد) حين يتدفَّق في الكلام لا يُمكن إسكاته.. من ذلك النوع الذي تُعطية عَنْزاً من أجل أن يتكلَّم.. وتُضطر في نهاية الأمر لإعطائه جَمَلاً من أجل أن يسكت.. يتنحنح (حَمَد):
ــ رحمه الله.. كان رجلاً عصاميًّا.. يرَقِّع ثَوبَه بسرواله! بشوشاً.. يضحك للريح.. طيّباً.. يأكل عشاه القطوس.. أَرْنَب الله في حماية الله! وفجأة.. تزغرد له الملائكة.. تنفتح له الدنيا مثل ذيل طاووس.. بَخْت في السّحاب وعَقل في التّراب.. فيصبح مثل الطفل الذي بدأ الزحف لتوّه.. يسيل لعابه.. ما تطاله يداه يضعه في فمه.. وهل نلومه على ذلك؟ الدنيا حلوة.
يبلع (حَمَد) ريقه:
ــ الله يغفر له.. عينه فارغة.. لكن شاطر.. لا يفُوته فايت ولا عَيْش بايت.. هو من أولئك السادة الذين نقول عنهم (في جيوبهم عقارِب).. وهي نَغمة تتردد دائماً عن أنّ أغنياءنا لا يعرفون التبَرّع للأعمال الخيريّة.. ولكن للإنصاف فقد تبَرّع المرحوم ذات يوم أمام هذا الجامع بالذات.. وفي ليلة القَدْر تَحديداً.. أعطى متسوِّلاً أعمى ربع دينار.. صحيح أنّ الربع كان مُمزَّقاً بعض الشيء.. ومن الطبعة الثالثة التي سقط تداولها منذ زمن.. ولكن الأعمى فرح به.. أنا كنتُ شاهداً على ذلك.. فقد جاء في الحديث: (أحبّ الأعمال إلى الله إدخال الفرح على قلب المؤمن).. فالفقيد كانت له حسناته.
يُقهقه أحدهم في الخلف.
ــ اتقوا الله.. الناس يقولون (حاجّ مَرّة اكفِينا شَرَّه).. لذلك حَجَّ الراحل سبع مرات.. ولكن.. هو الحاجّ موسى هو موسى الحاجّ.. هذا حَدِّي من ذنبه.. مثل الدِّيك.. يؤذِّن وقدماه في الْخَراء! يأكل الغَلّة ويسبّ المِلّة.. إي والله.. أنا أعرفه جيّداً.. عاجنه وخابزه.. الصادقة نور.. علينا أن نعترف بخطايانا لنطلب المغفرة.. الله يخَفّف عنه التراب الثقيل.
يرن هاتف نَقّال.. يُشْهِر (حَمَد) سبّابته في وجه صاحب النقّال:
ــ اقطع اتصالك بالمخلوق.. ودَع اتصالك بالخالق وحده.. المهم.. المرحوم ـ أخشى أن يخونني التعبير ـ عَسَل في جِلْد كَلْب! فهو عسل بغّضّ النظر عن قيمة الوعاء.. وهل يهمّ شكل الأوعية؟
يرفع (حَمَد) يده لإيقاف الضحك:
ــ دعونا ننصف الرجل.. فقد قدّم خدمات جليلة للمجتمع.. بنَى أكبر قصر في المنطقة.. يمكنك أن تراه من الجهات الأربع.. أنشأ مزرعة نموذجية تنتج أغلى أنواع العنب.. بالطبع أنتم لا تستطيعون تذوّق ذلك العنب.. ولكن الإنسان يأكل بعينه! زرع وادياً من الطماطم.. على الرغم من أنّه مسح غابة من الصنوبر.. وأزال آثاراً إغريقية ورومانية.. ليست هناك حِجامة ولا خِتان بدون دم.. وماذا تعني الحجارة الرومانية؟ والمغفور له ساحر في الزراعة.. يضع الكيماوي في الليل.. فلا تشرق الشمس حتى يحمرّ الطماطم.. سبحان الله!
يصرخ صوت:
ــ لَخِّصْ يا حَمَد.
تخنقه دموعه.. يمسح أنفه:
ــ الله غالب.. هذه قصورهم وهذه قبورهم.. المغفور له ـ للأمانة ـ كان حمار شغل.. لا يكلّ ولا يملّ.. ليل نهار.. وأنتم تعرفون علاقتنا الحميمة.. على الرغم من أنّها ـ يعني ـ صحْبة عجُول.. تَلْحَسنِي ونَلْحَسَك.. ولكننا ـ بصدق ـ كنّا فُولة مَقْسُوْمَة! لا تقولوا: (كَلْب وطاحَت عليه نخلَة).. اذكروا موتاكم بخير!
***
(2009)

هناك 5 تعليقات:

  1. السلام عليكم ...

    اضحكتني اسعدك الله ...
    فعلا فولة مقسومة ...

    ابعد من التأبين و الدفن ...


    خالص تحياتيي

    ردحذف
  2. مرحبة بومدين.. ازدانت خروبتي بزيارتك و بتعليقك.

    ردحذف
  3. السلام عليكم

    بك كل المراحب ... يسعدني ان اتابع ما يكتب هنا اولا بأول اخي ... فكل الابعاد هادفة و لها وقع في نفوسنا جميعا ... و اسلوب شيق وسلس ورائع ...

    عيدك مبارك ان شاء الله


    خالص تحياتي

    ردحذف
  4. السلام عليكم ورحمه الله وبركاته



    شكر الله سيعكم استاذي الفاضل



    آجرك الله



    صلاح الرشيد

    ردحذف
  5. السلام عليكم

    بك كل المراحب ... يسعدني ان اتابع ما يكتب هنا اولا بأول اخي ... فكل الابعاد هادفة و لها وقع في نفوسنا جميعا ... و اسلوب شيق وسلس ورائع ...

    عيدك مبارك ان شاء الله


    خالص تحياتي

    ردحذف