19 مارس، 2010

النِّيْسي

1
... على مرمى العين تتعرَّج الذُّرَى المكسوَّة بالصنوبر والشماري والبَطُّوم.. التي تغطِّيها زُرقة الأفق الشفَّافـة.. بينما تظهر المساحات الخضراء وسط الأشجار مفروشةً بالدِّرْيَاس والعنْصل.
عندما أكون في الغابة أعود إلى طفولتي الأولى.. حيث أكتشف الأشياء لأول مرَّة.. أراها.. أشمُّها.. ألمسها.. أتماهَى في المكان.. وأحسُّ أنَّ بإمكاني إدراك المعنى الخفي للأشياء.
الطفل الذي في أعماقي يبتهج.. ينتشي.. أتسلَّق الأشجار.. أستكشِف الأعشاش.. أتحسَّس العصافير.. يسري في جسدي دفء الريش وملاسته.. أرتاد الكهوف.. التي تُشكِّل لي دائماً سحراً لا يُقاوَم.
كان هناك أثَرٌ لنار.. نار الرعاة التي يوقدونها في ليالي الصقيع.. الْتقطتُ ثلاث فحمات كبيرة.. وصعدتُ ناحية الكهف.
2
... الكهف أسفل الجدار الصخري.. الممتد وسط السفح حتى يغيب مع تعرُّجات الوادي.. تحته مباشرة لسانٌ صخري مرتفع.. يُشكِّل أعلاه شُرفةً عريضة أمام المدخل.. فيبدو (الكاف) مُعلَّقاً.
تسلَّقتُ اللسان الصخري بحذر.. سقطت إحدى الفحمات.
مدخل الكاف ضَيِّق.. تتدلِّى على جوانبه بعض النباتات الظلِّية.. أرضية المدخل يُغطِّيها نبات الرِّينش والزَّيتَا.. يتَّسع من الداخل.. في سقفه بيت عنكبوت.
وقفتُ قليلاً حتى تألف عيناي الرؤية في العتمة.. هناك رائحة رطوبة وذرَق طيور.
عند جدار الكاف من الأسفل توجد مصطبة صخرية طويلة.. تنحني بانحناءة الجدار.. ترتكز فوقها بعض أعشاش النِّيْسي ـ الطائر الأكثر قداسة منذ أن عشَّش في مدخل الكهف أثناء الهجرة النبوية ـ بعضها به عصفوران.. أو عصفور واحد.. وبعضها لا يزال بيضاً.
تحسَّستها.. دافئة.. تنبض بشدة وهي ترفع أجنحتها.. وتفتح مناقيرها وتصوصئ.
عصفوران لا يزال يُغطِّيهما الزغب الأصفر بالكامل.. بينما انحسر الزغب عن العصافير الأخرى.. وغدا يُتوِّج الرؤوس.
الجدار الشرقي أملس.. عليه أثر كتابة بالحجر.. فكَّرتُ في أن أكتب شيئاً.. لكنني فضَّلتُ الرسم.. بدأتُ التخطيط بالفحم.. لم يكن لدي تصوُّر سابق عن الشكل الذي ينبغي رسمه.. لكنني بدأت برسم أفعى.
لماذا أفعى بالذات؟! لا أدري.
شكَّلْتُ الرأس كبيراً.. مُفلطحاً.. وجعلتُها عريضةً من الأمام.. انتهت فحمتي الأولى على مسافة ليست بعيدة من الرأس.. فأخذت الفحمة الثانية.. وكلما تقدمتُ ناحية الذيل.. ضاق العرض شيئاً فشيئاً.. صغرت الفحمة.. حتى عجزتُ عن الإمساك بها بين أصابعي.. فأخذتُ أسحقها بإبهامي حتى تلاشت.. دون أن يكتمل الذيل.
ابتعدتُ قليلاً عن الجدار.. لأرى لوحتي الأفعوانية.. ليس فيها ما يُشبه الأفعى سوى الاستطالة.
في تلك اللحظة دخل سرب النِّيْسي.. يا لَلقداسة.. يا لَلطُهْر! عندما اكتشف وجودي.. أخذ في التراجع.. ازدحم الكهف بالأجنحة الفِضِّية المُصطفِقة.. تجاوب بالحفيف الحادّ والصوصوة.. وتساقطت بعض الريشات.
انحنيتُ لالتقاط الريشات.. شعرتُ بحركة مُفاجئة غريبة فوق المصطبة.. الْتفتُ.. يا لَلفظاعة.. أفعى ضخمة.. بشعة.. تلتهم البيض.
ارتجفتُ.. بحثتُ عن شيءٍ لأضربها به.. بدأتْ تلتقط العصافير.. تبتلعها من رؤوسها.. وهي تُرفرف رفرفَاتها الأخيرة.
اقتربتُ مُلوِّحاً بذراعَيّ.. فتكوَّرت.. فَحَّت بصوتٍ كريه.. اتجهت إليّ.. فأسرعتُ ناحية فم الكهف.. وحين قابلني الجدار الشرقي وقفتُ مصعوقاً.. دار الكهف.. شعرت بأنه يكاد ينطبق.. فلم يكن هناك وجود لأفعى الفحم البتراء!
خرجتُ.. تنفَّستُ بصعوبة.. تفرَّستُ في يدَيّ.. كانتا ترتجفان.. وعروقهما بارزة.. أحسستُ بالغثَيان.. بدأت أحشائي تتحرَّك.. مادت الشُّرفة الصخرية.. اهتزَّت الأشجار.. تمايلتْ.. ترنَّحت الظِّلال.. تموَّجت الذُّرَى البعيدة.. غار الوادي.. اقتربت الضفَّتان.. مِلتُ على حافة الصخرة.. وتقيَّأتُ.. تقيَّأتُ دماً أسودَ.. ممزوجاً بالريش والزغب الأصفر!
***
(1998)

هناك 6 تعليقات:

  1. الاديب والكاتب
    احمد
    تحية... لقد توقفت هنا واستمتعت كثيرا شكرالك.
    التشكيلي محمود الحاسي

    ردحذف
  2. الصديق محمود الحاسي.. شكراً من كل قلبي.. مدونتي هذا اليوم تتباهى على كل المدونات.. فقد وقّع فيها فنان من طراز رفيع.

    ردحذف
  3. الاستاذ / أحمد يوسف عقيلة

    إلى أين تأخذنا ؟

    سلاسة السرد ورعة الصور وجمال التعبير ..وأخيراً للمفاحأة والدهشة .

    عبدالحفيظ أبوغرارة

    ردحذف
  4. كنت ( غاطسة ) في كتابة تفاصيل ما مر في حياتي من أحداث بعد تشجيع كبير تلقيته من المبدع أحمد عقيلة لكني ولكي أجدد نشاطي مررت من هنا ، سارعت إلى قراءة ما كتبت أخي أحمد لأنعم ( بسلاسة السرد وروعة الصور وجمال التعبير .... ) كما قال زائر الخروبة الوفي الأستاذ عبد الحفيظ أبو غرارة ، سأخذ طائر النيسي وأعود إلى مداومة فعل الكتابة فأنا محتاجة إلى رفيق .

    نعيمة الطاهر

    ردحذف
  5. هنيئالنا بكاتب شدنا باسلوبه الشيق للخروبة التي تعكس حياة ثرية بثراء ما جادت به طبيعتنا الخلابة والتي لا تتاح لكل طفل ان يتفاعل ويتعايش مع ادق تفاصيلها الثرية كتفاعل اديبنا ها قد اتحت لنا الفرصةللتعايش مع سردك الرائع وتفاصيلك الاروع كلما تمعنا فيها وجدنا الاكثر في انتظار الجديد دائما ايها المبدع امباركة عدالة

    ردحذف
  6. الأديب الأستاذ أحمد عقيلة ...لقد استمتعت كثيرا بما خطه لنا قلمك السحري

    ردحذف