24 أغسطس، 2009

الْجُعَل

من كتاب: ( حكايات ضفدزاد ) لأحمد يوسف عقيلة
بلغني أيها الملك السعيد.. أنَّ الجُعَل كان مليئاً بالنوايا الطيبة.. وهو يضع اللمسات الأخيرة على كُرَةِ الزِّبل.. دار حولها دورةً كاملة.. ثُمَّ توقَّف..
ــ لا بأس.. ولكن هناك في الأعلى يوجد نقص.. إن ذلك النقص سيُشَكِّل عائقاً أثناء الدحرجة.
شرع في سَدِّ النقص..
ــ يبدو أنني استعجلتُ بعض الشيء.. إنَّ الأشياء التي نقوم بها على عَجَل.. كثيراً ما تأتي ناقصة.
عندما أنجز عمله.. رفع قَرْنه إلى السماء.. واستغرق في صلاةٍ خرساء.
ــ والآن.. جاء العمل الأهمّ.
استدار.. وضع رجليه الأماميتين على الأرض.. رفع أرجله الخلفية حتَّى لامست كُرَة الزِّبل.. وبدأ في دحرجتها.
ــ ما أسهل الدحرجة في المُنحدَرات.. إنَّ الكُرَة تتدحرج بنفسها.. حتَّى إنني لا أكاد ألحقها.. ليت الطريق دائماً هكذا.
عَدَّل وَضْعه المنكوس.. أخذ يسير إلى الأمام.. مُحاولاً اللحاق بكُرَته التي كانت تقفز مع المُنحدَر.
... استدار مرَّةً أخرى.. وأخذ يُدحرج من جديد.
توقَّفت الكُرَة.. اصطدمت بشيءٍ صلب.. دفعها بكُلِّ قوَّته.. ولكن..
ــ يبدو أن الطريق قد سُدَّت.. سأرَى.
دار حولها ليستطلع الأمر..
ــ إنها مُجَرَّد حَيْطَة.
دفع الكُرَة بعيداً حتَّى تَجَنَّب الصخرة.. ثُمَّ واصَل الدحرجة.
توقَّفت كُرَة الزِّبل مرَّةً أخرى.. اصطدمت بشيءٍ آخر.. بدا وكأنه يسحبها في اتِّجاهه.
ــ يبدو الأمر مختلفاً هذه المرَّة.. هل هو جُعَل آخر يريد انتزاع كُرَتي؟ معه حَقّ.. وجدها جاهزة.. لستُ أنا بالذي يتخلَّى عن كُرَته لأحد.
ذهب لاستطلاع الأمر آخِذاً موقف الدفاع.
ــ هذا ما كنتُ أخشاه.. إنها الأشواك.. الصخور لا تُشَكِّل عائقاً حقيقيًّا.. يُمكنني الدَّوَران حولها.. أو حتَّى الصعود فوقها.. لكنَّ الأشواك هي أسوأ ما يُصادف كُرَة الرَّوْث.. تنغرز فيها.. لا يمكن انتزاعها إلاَّ بعد أن تترك فجوات.. تجعل الدحرجة شيئاً لا يُطاق.
ــ ... والآن.. بعد اجتياز دَغْل الأشواك.. جاءت المرحلة الأصعب من الطريق.. صحيح أنني اقتربت كثيراً.. لكنَّ صعود هذه القِمَّة ليس بالأمر الْهَيِّن.. علَيَّ الْتِقاط أنفاسي أوَّلاً.
استند إلى كُرَته.. واضِعاً أرجله في حالة استرخاء.. في تلك اللحظة مَرَّت نمْلة.. وضعت قَشَّتها.. وقالت:
ــ صباح الخير يا (بُودْرنَّة).. يا لَها من كُرَةٍ كبيرة لولا رائحتُها!
ــ انتبهي لِقَشَّتِكِ حتَّى لا تأخذها الريح.. ولا شأن لكِ بالآخرين.
ــ (امْشي يا وَكّال الزّبل)! على كل حال ليس لدي وقتٌ أُضيّعه.. وفوق ذلك فأنا لا أطيق آكلي الرَّوث.
استعاد أنفاسه.. استأنف مسيرته...
ــ إنني أقترب من القِمَّة.. أكاد أصل.. أحسُّ بالخَدَر في كُلِّ أرجلي.. لم يَعُد يفصلني عن القِمَّة سوى خطوات.. هانت.. بضع خطوات واستريح.. لا تتوقَّفي أيتها الكُرَة.. لماذا توقّفتِ.. أرجلي تكاد تَنْشَلّ.. تدحرجي.. تدحرجي.. و.. سقط الجُعَل.. مرَّت من فوقه كُرَة الزِّبْل.. وانحدرت تقفز إلى الأسفل.
ــ لا.. لا.. لا يُمكن.
ــ سأبدأ من جديد.. هذه المرَّة لن أفشل.. (إنَّ أي عمل يُنْجَز دون مُعاناة.. عملٌ مشكوكٌ فيه)
.. لن أشعر بالخَدَر.. يجب أن أُغَنِّي كي أنسى التعب.. لا.. أنفاسي لا تُسعفني.. اصعدي أيتها الكُرَة.. لم يَبْقَ إلاّ القليل.. خطوة واحدة.. واحدة فقط.. لا تتوقَّفي.. لا.. لا.
و... انحدرت كُرَة الزِّبل...
تبعها بنظَره.. حتَّى استقرَّت في القاع.
ــ لا.. لم أَعُدْ أُطيق.
عادت النملة في الاتجاه الآخر..
ــ عجيب أمرك يا (بُودْرَنَّة).
ــ أهذه أنتِ من جديد؟ تشمَتين.. أليس كذلك؟
ــ أنا لا أشمت.. لكن أمرك عجيب.
ــ لماذا؟
ــ لو كان لي جناحان كجناحَيك لمَا تعبتُ كُلَّ هذا التعب.
ــ جناحان؟! هل قلتِ جناحان؟! نعم.. إنني أملك جناحين.. لست أدري كيف نسيتُ ذلك.. اللعنة على كُرَة الرَّوث.. نعم.. أستطيع الطيران.. أستطيع.. يا ليَ من مُغَفَّل!
أفرد جناحيه.. بدأ يُحَلِّق صاعداً في دوائر...
ــ كم أنتِ صغيرة أيتها النملة.. وكم هي ضئيلة كُرَة الزِّبل.. تبدو الأشياء تصغر.. تصغر.. لن أهبط الآن.. لقد تعبتُ.. سئمتُ الدحرجة.. والانكفاء على وجهي.. شيءٌ بالغ الروعة أن نُحلِّق فوق مكان سقوطنا!
وأدرك ضِفْدَزاد الصباح.. فسكتت عن النقيق المُباح.
***
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ (إن أي عمل يُنجَز دون مُعاناة.. عمل مشكوك فيه): عبارة للكاتب الكوبي (اليخو كاربنتير) وردت في روايته: الخطوات الضائعة.

هناك تعليقان (2):

  1. من شدة جوعي خيل لي أن كرة الزبل هي تمر معجون.. ولو كان الجعل مليئا بالنوايا الطيبة ؛ماعليه إلا دحرجت كورة التمر نحو فمي عند إرتفاع آذان صلاة المغرب..عندها سيكون قد أنجز عمل دون معاناة ..عمل غير مشكوك فيه..ويشكر عليه..

    علاء

    ردحذف
  2. أحمد يوسف/عندما تكون المعاناة داخلية تمس الاحساس وتتسلقك كحرباء لا تكاد تعرف لها لونآ ساعتها يكون الانجاز سهلآ سهلآ جدآ....

    ردحذف