03 مايو، 2009

هُموم الجحْشِ الأَشْهَب

1
... في ذلك المساء كان كل شيء يبعث على الكآبة.
بدأ العجاج يَعْصِف.. وفي السماء غيوم خريفية تسفعها الريح.. شمس مُحتجبة.. وبُومٌ ينعب في الخلوات.
الجحش الأشهب يُهدِّل أذنيه.. يُجرجر أرجله تحت ثقل أربعة براميل.. كان ساخطاً على كل شيء.. حتى على نفسه.. وهو مُستغرِقٌ في تفكير عميق:
ــ يحملون فوقك البراميل.. لا يكتفون بذلك.. بل يركبون هم أيضاً.. وإذا أبطأتَ.. ينخسونك في كتفيك حتى يسيل منها الدم الأسود.. أو يسوطونك على جانبيك.
انتبه على مشارف القرية.. أحسَّ بالارتياح.. فرفع عقيرته بنهيق احتفالي ممطوط.. وهو يفعل ذلك أيضاً عندما يلوح خيال الحمارة.. أو حتى يشم رائحتها عن بُعْد.. وأحياناً كثيرة ينهق بدافع الملل.
تلقَّى ضربةً بين أذنيه قبل أن يُكمل نهقته.. ترنَّح.. أحسَّ بالألم.. وبارتجاجات الضربة تسري في كل جسده.. ثُمَّ استعاد توازنه..
ــ يا للفظاعة.. إننا لا نملك حتى حقّ النهيق.. لكن لا بأس.. تقول حكمة الحمير: (اصْبِرْ.. فإمّا أن ينتهي الطريق.. أو يموت الحمار).. صبر الحمير إحدى الفضائل المُخيفة!
2
... في الخريف كانت عناقيد الخرُّوب الخضراء على موعدٍ مع السواد.. والحلاوة.. فاحت رائحتها عبر انعطافات الأودية.. ومسارب الغابة.
... كان الجحش ـ كعادته ـ مُستغرِقاً في هموم الرحلة:
ــ حَشُّ الخرُّوب على كل حال أفضل من جلب الماء.. وأهون من الحصاد وحمل الشوالات والغرائر.. فتحتَ الخرُّوبة يُمكنك أن تلوك بعض القرون الحلوة.. التي تسقط هنا وهناك.. ويبقى مذاقها في فمك إلى العام القادم.
تعثَّر بحجر.. فقال مُتألِّماً:
ــ هذه ثاني مرَّة أتعثَّر بهذا الحجر اللعين.. سيقولون تعثَّر به مرتين لأنه حمار! مع أنه من الممكن للواحد أن يتعثَّر بالحجر عشر مرات.
صمت قليلاً.. ثُمَّ استدرك:
ــ لكن.. على كل حال.. يقولون: (إنه لأمرٌ مُخجِل التعثُّر مرتين بالحجَر نفسه).
توقَّف وبال.. وعندما أبطأ تلقَّى سوطين على جنبه الأيمن..
ــ فليضربوا حتى مائة سوط.. الواحد إذا شرع في البول لا يمكنه التوقُّف حتى ينتهي.
نظر إلى أسفل بطنه وأضاف:
ــ انظر إلى عنوان ذكورتك.. لا أحد على وجه الأرض يملك مثل هذا الشيء.. يجب أن يكون في هذا نوع من العزاء.. بل يجب أن يكون مبعث فخر.. هناك دائماً نوع من التعويض.. فالواحد لا بُدَّ أن يجد شيئاً ما يزهو به في نهاية المطاف.
3
... اشتعلت جمرات الظهيرة.. لبست الأشياءُ ظِلَّها.
باعد الجحش الأشهب بين أرجله.. طأطأ قليلاً.. وبدأ يحكُّ ظهره بأسنانه.. ثُمَّ وضع أنفه في التراب وتمرَّغ.
بعد أن انتهى من طقوس القيلولة.. بدأ يحلم بأنه حمارٌ مُجنَّح!
ــ كم هو رائع أن أنتمي إلى الطبقة الطائرة.. من التراب إلى السماء.. من المَرَاغَة إلى الآفاق الرحبة.. وساعتها يُمكنني أن أعتلي أيَّة حمارة أريد.. بل أستطيع حتى اعتلاء الفرس.. يا إلهي لماذا لم تخلق الحمير بأجنحة؟! لا تقل لي بأنك لست قادراً على ذلك.. سبحانك.. لا يُعجزك شيء.. هكذا سيسمُّونني (الحمار الطائر).. أو ربَّما (الحمار المُجنَّح).. وستكون هذه (آخر نَهقة) في عالم الحمير.. كم هو مُدهش أن تمتلئ السماء بأسراب الحمير المُرفرفة.. وتتقطَّع أعناق الخيل وهي تنظر إلينا من الأسفل!
صهل الحصان.. فأفاق الجحش من حلمه.. نخر مُثيراً الغبار.. ثُمَّ قال وهو ينظر إلى الجواد:
ــ يا للإجحاف.. يغسلونه.. يُبدِّلون له مربطه.. يضعونه في الإسطبل.. بعيداً عن صهد الشمس.. ولَفْح البرد.. يُزيِّنون أرجله بالحدوة.. ويُعلِّقون في رقبته مخلاةً مُزخرفة مليئة بالشعير.. وماذا يفعل مقابل ذلك؟ لا شيء سوى الصهيل والرَّوث!
نفض أذنيه الطويلتين فأحدثتا فرقعة.. واستأنف:
ــ يقول أحد أمثال الحمير: (يموت الحمار وشَوقه في المخلاة).. هذا صحيح للأسف.. حمير كثيرة تموت وشوقها في المخالي.
4
... الجحش يُحدِّث نفسه.. وهو ينوء تحت حزمة الحطب:
ــ هذا اليوم ليس ككل الأيام.. فهو أكثرها سوءاً على الإطلاق.. فليس هناك ما هو أسوأ من جلب الحطب.. حيث تنغرز في جنبيك الأعواد الناتئة.. وتنحدر وتصعد عبر الأودية والسفوح الوعرة.. ويَحيدون بك عن الطريق.. فأنا لا أُحسِن السير في الدروب غير المطروقة.
يسير مطأطئ الرأس.. يشمُّ قَشَّ الشِّعاب.. يُثير الغبار بحوافره.. ويُسلِّي نفسه باجترار بعض الأفكار:
ــ لا أدري لماذا يعتقدون أننا بلا ماضٍ.. هذا ليس صحيحاً.. أعرف إحدى أساطير الحمير تقول بأنَّ الحمار هو آخر من ركب في سفينة نوح.. وقد كان الشيطان مُتعلِّقاً بذيله.. فرفض نوح أن يحمله في سفينته ما لم يتخلَّص من الشيطان.
نهق الحمار.. ارتفع في الهواء.. ورفس الشيطان بقائمتيه الخلفيتين.. ولكن.. هل يُمكن رفس الشيطان حقًّا؟! كان الأمر مُضحِكاً.. فالرفسات كانت تذهب سُدىً في الفراغ.. وأحسَّ الحمار بأنَّ قِواه قد خارت.. فتهالك.. وبدأت السفينة تتحرَّك.. والدنيا على وشك أن تغرق.. فصرخ نوح طالباً منه الصعود حتى بالشيطان.. يا لها من مفارقة.. ننقذ الشيطان.. ونعجز عن إنقاذ أنفسنا!
شعر بوخز الأعواد في خاصرته وهو يصعد من مجرى السيل.. وبدأت النعْرَة تلسعه في سيقانه من الداخل.. تصبَّب العرق من جانبيه وانحدر إلى أرجله.. تهدَّلت أذناه.. أخذت أنفاسه تتلاحق.. حاول التوقّف.. لكنه أدرك أنَّ هذا سيزيد الأمر سوءاً.. فتحامل على نفسه وواصل الصعود.
رفع رأسه.. حافَّة الوادي لا تزال بعيدة.. وتعرُّجات الطريق الصاعد تُضاعف المسافة.. انغرزت الأعواد في خاصرته.. انبثقت دماء لزجة.. أحسَّ بجريانها فوق ساقيه.. مما أثار النعْرَة فاشتدَّت لدغاتها.
كان يريد أن ينهق طالباً النجدة من أحدٍ ما.. حتى من الشيطان.. صحيح.. الشيطان مَدين له.. يجب أن يردَّ له الجميل.. لكنَّه لم ينهق.. فليست لديه الأنفاس الكافية لذلك.. ثُمَّ هو يُدرك أنَّ بطنه ستنتفخ.. وستخترق جلده كل الأعواد الناتئة في حزمة الحطب.. وهذه الحشرة اللعينة بدأت تقرصه في أماكن حسّاسة.
... فوق حافَّة الجُرف.. ينعطف الطريق بشكلٍ حادٍّ إلى اليمين.. بعد ثلاث خطوات على الأكثر.
نظر إلى الهاوية السحيقة.. وإلى الصخور المُسنَّنة.. والجذوع المُدبَّبة.. وتذكَّر في تلك اللحظة حلمه المُجنَّح.. فأغمض عينيه.. وأخذ يسير بشكلٍ مستقيم...
(1998)

هناك 3 تعليقات:

  1. السلام عليكم و رحمه الله و بركاته
    اسمح لي سيدي الكريم ان اقراء ما دونته اليوم على مراحل لان يحتاج الي وقت لقرأت و تمعن في معانيه...
    بالفعل يعجبني طريقه سردكك الاحداث فيما تكتبه.
    شكرا سيدي الكريم أحمد

    ردحذف
  2. الاستاد احمد لقد امتعتنى بهدا الاسلوب الشائق اسمح لى با الزيارة دئما والتجوال والجلوس تحت افنان الخروبة دمت رافدا مهما فى ادبنا الليبي وانك سيد الكلمات رشاد مدونة مرزق التى فى خاطرى

    ردحذف
  3. استاذي الفاضل لقد ادهشتني قصصك الرائعه وامتعتني كثيراً

    انا اشكرك

    انت انسان رائع

    ردحذف