27 أبريل، 2009

عن الذاكرة والمكان والرؤى

الشاعر سالم العوكلي
عدسة: أحمد يوسف عقيلة
حوار مع القاص: أحمد يوسف عقيلة

حاوره الشاعر: سالم العوكلي.
(هذا أول حوار مع القاص عقيلة سنة 2000)
القاص (أحمد يوسف عقيلة) برز اسمه في كتابة القصة القصيرة مع بداية التسعينات.. وكان حضوره لافتاً ومميزاً.. عبر دأبه على استكناه مكان مازال خاماً بالنسبة للحركة السردية في ليبيا.. وهو (الجبل الأخضر).. وعبر استبطان علاقات وخُرافات وحكايات شعبية شكَّلت عجينة توجهه الإبداعي حتى الآن.. هادئاً دخل عالم القصة.. وخجولاً ولج حركة النشر.. لا شيء يشغله سوى القصة.. كل اهتماماته مُنصبَّة عليها.. وكل حواراته حولها.. لا يتورَّع عن أن يسافر أكثر من ألف كيلومتر كي يقرأ إنتاجه لأيٍّ من المهتمين.. مُثابر في الكتابة.. ومتواصل في النشر مع معظم المطبوعات المحلية والعربية ذات الصلة.. ومتواصل في الوقت نفسه مع جُلّ المثقفين في ليبيا وخارجها.. عبر إرسال إنتاجه إليهم بشكل شخصي.. وتلقِّي ملاحظاتهم بشغف.
وهذه محاورة أولى معه.. نحاول من خلالها ولوج عالمه السردي.. الذي ينبع هادئاً من ذاكرة ضاجّة وصاخبة.. تُشكِّل أهم روافد كتابته.. التي هي إحدى الظواهر القليلة التي تكسر سِمة غياب المكان في الكتابة الإبداعية في ليبيا بشكلٍ عام.
التكوين والبدايات:
ــ علاقتك بالسرد كيف كانت.. ومن أين بدأت؟
ــ ولدتُ في البراري العارية.. حيث لا سقف ولاجدران.. طفولتي تميَّزت بالتماسّ المباشر مع الطبيعة.. حيث شدة البرد القارس في الجبل الأخضر كنا نقاومها بالتحلُّق حول كوانين الجمر.. والتلهِّي بسرد الحكايات.. يقولون عندنا: (في الشتاء كل شيء ينقص حتى الصخر.. ما عدا ثلاثة أشياء: البحر.. الجمل.. ورماد النار.. فهي جميعاً تزيد).
كنَّا في الليل نتحلَّق حول عمتي (أم الخير بنت عقيلة).. تقصُّ علينا خراريفها التي لا تنضب.. كانت تملك جِراباً من الأحاجي والحكايات: أم بسيسي.. نقارش.. شمس طيَاح.. احديدان.. والكثير من الحكايات عن الغول والسلاطين.
عمي (عبدالرسول) هو أيضاً له حكاياته التي تختلف.. كانت عن البطولات والفروسية والهلالية.. وفي القسم الداخلي الذي درستُ به طفلاً.. لأننا كنَّا نسكن في البوادي بعيداً عن القرية.. سمعتُ حكاياتٍ أخرى.. تختلف عن حَكَايا (أم الخير وعبدالرسول).. سمعتُ الحكايات الماجنة.. والأحاجي الداعرة.. وتعلَّمتُ رسم الأشكال الفاضحة بالفحم على الجدران.. هذا عن علاقتي الفطرية مع الحكاية.. أمَّا على مستوى الوعي بها كجنس أدبي.. فأول رواية أذكر أنني قرأتُها كانت (الزنبقة السوداء) لاسكندر دوماس.. حيث كانت من مقرَّرات المنهج الدراسي.. ومنذ ذلك الوقت انفتح أمامي باب القراءة الواسع.. فقرأتُ كل ما وقعت عليه يدي.. حتى الروايات البوليسية لأجاثا كريستي.. كما قرأتُ كَمَّاً من الأدب العالمي والشعر والميثولوجيا.. أمّا الأدب العربي فقرأتُه في مرحلة تالية.. القديم والحديث منه.. ولم أكتشف الأدب الليبي إلاَّ مُتأخِّراً.. حيث كانت البداية مع الصادق النيهوم.. الذي تعلَّمتُ منه الارتياب في كل شيء.. في المُسلَّمات والمقدَّسات التي لا قُدسية لها أصلاً.. ولكنها اكتسبت قداستها من جهل الناس.
أمَّا على مستوى الكتابة.. فأول قصة كتبتُها كانت سنة 1994.. لم أكن أُدرك أنَّ ما كتبتُه قصة.. كتبتُ نَصاً فقالوا هذه قصة قصيرة! لم تكن المسألة خياراً.. إنما جاءت هكذا.. لا أدري كيف؟ وبدايات النشر كانت في صحيفة (الأفريقي) الصادرة بدرنة.. التي كان في هَيأة تحريرها ـ لحسن الحظ ـ ثلاثة شعراء.. هم ( أحمد بللوـ سالم العوكلي ـ عبدالسلام العجيلي).. ومع أنَّ اسمي لم يكن معروفاً لديهم.. إلاَّ أنهم تعاملوا مع النصوص قبل كل شيء.. واهتموا بها كثيراً.. بل أستطيع القول بأنهم احتفوا بها.. ودعوني للمشاركة في أول أُمسية قصصية بالنسبة لي بمدينة (درنة).. كانت آراؤهم وملاحظاتهم قد جنَّبتْني الكثير من تعثُّر البدايات.
المكان والمجتمع:
ــ يتَّضح جليَّاً في قصصك علاقتك العضوية بالمكان.. واستبطانك الدائم لمجتمع القرية.. احتفاؤك بالكائنات.. وأنسنة الأشياء.. فماذا أعطاك هذا المكان جمالياً.. وهذا المجتمع الصغير من مضامين سردية؟
ــ في هذا المكان أرى الأشياء وكأنني أراها لأول مرة.. الطبيعة بالنسبة لي دهشة دائمة.. (الدهشة إزاء البديهيات) كما يقول الشاعر (مفتاح العمَّاري).. فالشروق والغروب مشهد يبدو متكرراً.. ولكن هل هو متكرر فعلاً؟ بالطبع لا.. فشروق اليوم ليس هو شروق الأمس.. إنني أُسمِّيها: (جِدَّة الأشياء المتكررة).. لذلك فأنا أستقبل المكان بكل حواسي.. أراه.. أتشممه.. ألمسه.. أتذوقه.. أتعامل مع الأشياء ـ حتى الجمادات ـ ككيانات واعية.. مُدرِكة.. أحاول تفهُّمها.. استيعابها.. والأهم هو أنني أُحبها.. وأُحس بأنها تبادلني نفس الحب. تطلَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إلى جبل (أُحُد) ثُمَّ قال: (أُحُد جبلٌ يحبنا ونحبه)! نعم.. بهذا التوافق.. والانسجام مع الطبيعة إلى حَدّ التماهي.. إننا عندما نقوم بأنسنة وروحنة الأشياء.. نستفيد من بُعدين: البُعد الأصلي للأشياء.. والبعد الإنساني المُضاف.. وهكذا نخلق أُفقاً أرحب في المكان والحركة والشكل والعلاقات.. ثم إن أنسنة الأشياء تأتي في مواجهة (تشييء) الإنسان.. أي جعله مجرد شيء.. إنه دفاع عن أرواحنا وإنسانيتنا.. فنحن في الواقع في حاجة ـ ليس إلى أنسنة الأشياء فقط ـ بل إلى أنسنة الإنسان نفسه.
هذا على مستوى العلاقة بالمكان.. أمَّا ما أعطاه هذا المجتمع الصغير.. فإنني أُحاول تقديم نماذج.. وبالتالي لا يهمني أن تكون الشخصية ذات ملامح محددة.. عندما أُقدِّم شخصية الإمام مثلاً.. لاتهمني ملامحه.. بقدر ما يهمني كنموذج للسلطة الدينية.. وهذا المجتمع مرتبط في الواقع بالمقدسات.. فالفقه مقدس مع أنه نِتاج بشري قابل للصواب وللخطأ.. وكذلك تفسير القرآن مع كونه نِتاجاً بشرياً هو الآخر.. مما جعل الفقهاء والمفسرين يشكِّلون (طبقة) تملك وحدها حق احتكار تأويل وتفسير النص الديني وفق رؤيتها الخاصة.. إضافةً إلى أننا ورثنا تقديس بعض الأشياء.. التي كان يُنظر إليها في المجتمع الريفي بنوع من القداسة.. مثل طائر (النِّيْسي) والعنكبوت الأبيض (أمّ الزَّين).. لأنها حمت الرسول في الغار.. والقُبَّرة المتوَّجة لأنها ابتنت أعشاشها في مواضع قدمي الرسول لتخفي أثره عن المُطاردين.. والثعبان الأخضر الذي يوجد في الآبار للاعتقاد بأنه جان.. ونبات (الحَرْمَل).. الذي لا نستطيع الاقتراب منه أو قطع أي فرع من فروعه قبل أن نضع على أصل النبتة قليلاً من الملح والشعير.. وأُمي كانت تتشاءم من قطع أي شيء أخضر بالقرب من البيت.. وهذه النظرة للطبيعة بنوع من التقديس تبقى من أهم الأسباب في الحفاظ على البيئة.. وقد كان الهنود الحمر في الأمريكتين أكثر الشعوب حفاظاً على البيئة بسبب نظرة التقديس.. في مجتمعنا ثَمَّة مستويات للقداسة وحدود أيضاً.. أذكر أننا عندما كنَّا نزور مقام أحد المرابطين.. ندخل خلف أُمي بعد أن نخلع أحذيتنا.. فتحفن حفنةً من تراب الضريح.. وتحكُّ بها جلودنا.. وتحذِّرنا من أن نأخذ أي شيء من حَومة الشيخ.. لكنَّ تلك الحُرمة تزعزعت ذات يوم.. عندما عثروا على (جبح) نحل داخل أحد القبور.. فشقّوا القبر.. أمام العسل تراجعت حُرمة الأموات.. بما فيهم صاحب المقام نفسه.
في هذا المجتمع الصغير كان تصادمي الأول مع تجلِّيات السُلطة.. سُلطة الأب والفقيه ورئيس الفصل ومُشرِف القسم الداخلي والمُعلِّم والناظر.. وغالباً كانت العصا هي أداة الحوار.
كما أنه في هذا المجتمع إذا فقدت المرأة عُذريتها فتلك هي أٌمُّ الفضائح.. ليس بالنسبة لها وحدها.. بل لكل القبيلة.. العار الذي يُسوِّد الوجوه.. وقد يؤدِّي إلى قتل المرأة.. أمّا إذا فقد الرجل عُذريته فإنَّ ذلك يعني فتحاً من فتوحاته.. فيتصدَّر مجالس رفاقه مُنتفِشاً كالديك.. ويُجاهر مزهوَّاً بفعلته.
أذكر أيضاً أننا كنَّا نخاف من ذكر الإنجليز.. وعندما تمر العربات بالقرب من النجع.. نترك البيوت ونُسرِع إلى الوادي لنختبئ خلف أشجار الرتم.. والمرَّة الوحيدة التي لم نبتعد عن رتل العربات الصفراء.. قذف لنا سائق شاحنة عُلبة أسطوانية زرقاء لامعة.. فحملناها مُسرِعين إلى البيت.. حذَّرتْنا أُمِّي من أنها قد تكون قنبلة.. لكنَّ العُلبة كانت مُغرية إلى درجةٍ لا تُقاوَم.. ففتحناها وكانت مليئة بالشوكولاتة.. ومنذ تلك اللحظة وحتى الآن اقترن الإنجليز في ذهني بالأشياء اللامعة والحلوة.. والأهم من ذلك هو كسر الخوف من (الآخر).
الخصوصية والهوية:
ــ الخصوصية كلمة قد تكون مُبهَمة.. لكنها كثيراً ما ترِد في أدبياتنا كهاجس من هواجس الهوية.. ماذا تعني لك الخصوصية.. وهل تعتقد أن لك خصوصيتك في كتابة القصة؟
ــ تأثرتُ بكل مَن قرأتُ لهم.. وأنا مَدين لهم بذلك.. لكنني لم أخرج من معطف أحد ولا عباءته.. بل أخذتُ لغتي من مغزل أُمِّي.. من زخارف هدمتها وحَواياها واكليمها.. ومن ألوان أروقة بيتها.. أخذتُ لغتي وإيقاعي من نسيج العنكبوت.. من حركة قوافل النمل الدائبة في النياسب المتعرجة.. من دَوران الخيل فوق أجران السنابل.. من تراصف الأرغفة في التنور.. من أغاني البدو ومزاميرهم.. من وقع المطر.. وإيقاع (القاطر) في زوايا البيت.. من قَشِّ الأعشاش.. من ضباب الصباح وهو يتسرب من فوق حوافّ الأودية.. هل هذه هي الخصوصية؟ لا أدري.. هل الخصوصية قضية جغرافيّة وتنبع من المكان؟ إنَّ النيران والجرَّافات تكاد تأتي على غابات الجبل الأخضر.. وهي تجرف ذاكرتنا كل يوم.. فنحن في سباق من أجل أن نحتفظ لهذه الذاكرة ولو بصورة باهتة.. والاهتمام بإبراز جماليات المكان ليس جغرافيا بقدر ما هو غوص في التاريخ.. فالكهف لا قيمة له إلا من حيث علاقـته بالإنسان.. فبمجرد أن يدخل الإنسان كهفاً فإنه يتحول إلى تاريخ.. وكذلك الجبل والوادي والصخرة والشجرة.. فالفصل بين الجغرافيا والتاريخ لا يخلو من تعسُّف.
أنا في كتابتي لا أُحس بالتميُّـز عن الآخرين.. لكنني أشعر بالاختلاف عنهم.. وهناك فرق لا يخفى بين التميُّـز والاختلاف.. وينطبق عليَّ ما قاله الكاتب الأرجنتيني بورخيس: (حدثت لي أشياء قليلة.. ولكنني قرأتُ كثيراً).
المشروع الجمالي:
ــ ماذا تحاول أن تقول من خلال كتابة القصة.. وكيف تتخيَّل مشروعك الجمالي.. وتوجهك الفكري أوالإبداعي من خلال هذه الأداة؟
ــ يُقال: (الأدب تعبير غير عادي عن أشياء عادية). وهذا ما أُحاول عمله من خلال كتابة القصة.. أسعى إلى تحويل الحياة اليومية بتفاصيلها إلى قصص.. كل شيء من الممكن أن يتحول إلى حكاية.. وما أُحاول القيام به هو نقل هذه الدهشة إلى الآخرين.. أو بتعبير آخر (توسيع رُقعة الدهشة).. أُحس بأنّ سر الحياة كله يكمن في الأحداث اليومية البسيطة.. بل في الواقع اليومي الساذج.. يقول دوستويفسكي: (إنّ الشوق إلى الوقائع الجارية يتملَّكني).
القصة القصيرة فن قبل كل شيء.. والفن سلوك من سلوكيات الروح.. وأنا لا أحب القصص التي تعتمد على الفكرة المباشرة والذهنية.. أكثر مما تعتمد على الإدراك الجمالي.. فتأتي جافة (إن أجمل الأشياء تلك التي لا تُفسَّر.. تلك الأشياء التي بين الحقيقة والكذب) كما يقول شاعرنا (علي صدقي عبدالقادر) وتقول الشاعرة والروائية الجزائرية (أحلام مستغانمي): (الفن هو كل ما يهزُّنا.. وليس بالضرورة كل ما نفهمه).. أمّا المباشرة الخالية من الفن.. فعيبها الأساسي هو أنها تستمد شرعيتها من خارج الفن.. كالإيمان بقضية ما.
نحاول استكناه الجمال في عالم مليء بالخراب.. بالقتل.. بالمرض.. بالجوع.. والكوارث.. حتى الخرائب التي ينعب فوقها البوم.. لا ننظر إليها على أنها خرائب.. يكفي وجود طائر البوم لينفي عنها صفة الخراب.. ذات يوم مرَّ المسيح ـ عليه السلام ـ مع حوارييه على جيفة كلب يعيث فيها الدود.. فقال الحواريون: ما أنتنَ هذه الجيفة.. فردَّ المسيح: لكنَّ أسنانه ناصعة البياض!
إننا نحتفي بالحياة.. في زمن تُهدَر فيه الحياة.. زمن الإبادة الجماعية.. المقابر الجماعية.. المجازر.. الإرهاب.. التطهير العرقي.. زمن التلوث البيئي.. إن الحياة أغلى وأكثر قيمة من أن تُهدَر.. والحياة كما يجب تقتضي ـ في حدها الأدنى ـ الحرية والعدالة.
ــ هناك فارق بين المدينة كقيمة حضارية.. والمدينة كواقع قد يكون صادماً.. أين هذا من توجهك في الكتابة السردية؟
ــ لم أكتب عن المدينة ولم أحاول حتى الاقتراب منها.. ليس رفضاً لها.. بل لأنني لا أعرفها.. وإن كنت أخشى أنَّ عدم المعرفة قد يُشكل في حد ذاته نوعاً من الرفض.. فمن الصعب عليّ أن أكتب عن شيءٍ لا أعرفه.. فأنا وُلِدتُ ونشأتُ في الريف.. لم أولد حتى في القرية.. بل في النجع.. الذي كان دائماً على أُهبة الاستعداد للرحيل.. دار للشتاء وأخرى للربيع وثالثة للصيف ورابعة للخريف.. نتطلَّع إلى الأفق بقلق ونرحل وراء غيمةٍ في السماء.. وهي العقلية الرعوية.. حيث الإقامة المؤقتة ريثما يتم الاستهلاك في عملية رعي جائرة.. وهي التي سماها ابن خلدون (العقلية المُدمِّرة).. إنها حالة صراع مشحونة بالدراما.
ولا يزال الحوار مستمراً..

هناك تعليقان (2):

  1. الأستاذ أحمد إن ما تقوم به أنت هو الإبداع بعينه، فمجموعاتك القصصية تحمل بين طياتها كل ما هو جميل ومميز، هذا ليس مدحاً ولكنه شهادة حق. مدونة جميلة جداً والأجمل أن نلتقي بك وبالمبدع سالم العوكلي في حوار بين مبدعين مميزين جداً.

    عدالدائم اكواص

    ردحذف
  2. عرفتك عبر د فرج نجم حقا انك مبدع ادعك لزيارة مدونتي : الكوز
    http://ezwaya.blogspot.com/

    ناجي احمدة الزوي من اجدابيا

    ردحذف