عدسة: أحمد يوسف عقيلة
قراءة في قصيدة (مانك غريب اصداف)
للشاعر (الرويعي الفاخري)
بقلم: أحمد يوسف عقيلة
أعترف مُسبَقاً أنني واجهت مشكلة.. جعلتني أتردد كثيراً في القيام بهذ القراءة.. وذلك بسبب الصداقة والعلاقة الحميمة التي تربطني بالشاعر (الرويعي الفاخري).. مما خشيت معه أن أقع في شيء من المحاباة.. وعدم الحيادية.. لكنني أدرك دائماً أنّ الحياد أكذوبة كبرى.. فليس بمقدور الكائن البشري أن يكون محايداً على الإطلاق.. الحياد صفة من صفات الإله سبحانه.. هل هذا نوع من التبرير؟!
في أحد المساءات الربيعية كنت ذاهباً مع الصديق الشاعر (الرويعي الفاخري) للفسحة في أودية الجبل الأخضر.. وهي إحدى عاداتنا الدائمة.. حتى في الأجواء الماطرة.. وكان (الرويعي) يسألني حين ندخل الطرق الزراعية الضيّقة عمّا إذا كان الطريق نافذاً أم منقطعاً.. فهو يكره الطرق المسدودة التي تجعله يعود من حيث أتى.. وما أكثر الطرق المسدودة عندنا! وأطلّ القمر من فوق السحُب.. فقلت للرويعي: (أنا أنظر إلى القمر دائماً على أنه شاهد على شيءٍ ما).. فابتسم وشرع في إلقاء القصيدة:
تعال يا اللي مانك غريب اصداف
اندزّك إن كان تطول في لولاف
وحرص على أن يُنبّه إلى أنّ مطلع القصيدة للشاعر سعد بوخويدم.
أحياناً يُطلَب من الشاعر (الرويعي الفاخري) أن ينشد بعض قصائده.. فيومئ بيده في لامبالاة.. كأنه يطرد أو يهشّ شيئاً ما.. وفي كثير من الأحيان لا يرغب حتى في مجرّد الحديث عن الشِّعْر.. لكن في أحيان أخرى يُشرق وجهه الأسمر بابتسامة.. يظهر في عينيه بريق.. أُحسّ أنّ جسده النحيل ينْزوي مُفسِحاً المجال للروح المتوثِّبة لتنشد الشِّعْر.. هذا ما حدث في ذلك المساء الْمُقمر.. كنت استمتع بصوته يتهدَّج وأنا أنظر إلى القمر يُطل من خلف السحُب ويحتجب.. كان القمر يُشكِّل رمزاً للقِيَم في حِسّ الشاعر (الرويعي الفاخري).. فهو المتواضع على الرغم من علوّ مكانته:
مانك اللي متعالي
حتى وانت ديمة منزلك علاّلي
وهو رمز للعدالة أيضاً.. فهو ينشر نوره على الجميع:
بضيّك اتبدّد في ظلام ليالي
علي كلّ حَد مانك لْحَد عَيّاف
ولفظة (اتبدّد) هنا لفظة مشحونة.. فهي توحي بسيلان الظلام.
والقمر رمز للعزة.. فهو بمنأى عن الخوف:
لا تندقر لانَك صنيع لْوالِي
ولايلحقك لْحداف نين تخاف
وللحرية.. فهو الطّوّاف:
عندي حجايج صارّهن في بالي
يريدن اللي كي حالتك طَوّاف
والجميل هنا هو التعبير عن الحرية دون الوقوع في المباشرة.. فمفردة (طَوّاف) تغني عن الكثير من الثرثرة.
ولأنّ القمر تجتمع فيه كل هذه القِيَم فهو أهل لتحمّل مسؤولية الرسالة للحبيب.. لأنّ الرسول (المرسال) مؤتَمَن:
يشيلهن بلا تبطاي شَور الغالي
اللي اليوم عاميني عليه ارياف
لو كان غير تسمعهن السّا ترثَى لي
ونخاف تنصدع منهن اتطيح أنصاف
ونا غير ودّي يشغلَك موّالي
الاّ ف القساوة ما عليك اخلاف
وكل يوم تسمع في شكية امثالي
م الصادق وم اللي للخبر زَيّاف
جميع من عشَق تلقاه فيك يخالي
لو كانّك بنادم راه راسك جاف
ويُلخِّص الشاعر حالة التيه بسبب غياب المحبوب:
ونا زاد ودّي لك انْمثّل حالي
نهار غاب من منّه تجيب اوصاف
بمراكبي علي ديموم موجه عالي
عطل عليه لا صاري ولا مجداف
نلاحظ هنا أن الشاعر لم يقل بأنّ محبوبه كالقمر على عادة أغلب الشعراء.. بل جعل القمر في مرتبة أقل جمالاً.. فهو (يجيب أوصاف) فقط من المحبوب.
ثم يسترسل الشاعر (الرويعي):
مانك غريب زيارة
وعندك طريق لكل حَد في داره
(عندك طريق لكل حَد في داره): تأكيد على مبدأ العدالة.
وما هناك وطن ولا اتْحدّ قراره
وعلي كل وادي ف الخلا جَوّاف
التأكيد على قيمة الحرية من خلال لفظة (جَوّاف).. والشاعر (الرويعي الفاخري) يُجيد انتقاء مفرداته.. فالمفردة الدّالة التي تُغني عن الكثير من الكلام هي مبتغاه.. وهذا يتطلّب دراية بدلالة المفردات وظِلالها وإيحاءاتها.. وهو ما جعل من فَنّ الاختزال شيئاً عصيًّا على الكثيرين في كل مناحي الإبداع.
من خَلقة الدنيا وانت ضارب دارة
عليها وواخذ ف السما مشراف
هنا تهيئة للحديث عن القمر كشاهد.. فهو (من خَلقة الدنيا).. و(واخذ في السما مشراف).. وهي أهم مواصفات الشاهد.. القِدَم (الكبر).. وزاوية الرؤية التي تمكّنه من مشاهدة كل شيء.. وغَنيّ عن الذِّكْر أن الشاهد من المشاهدة العينيّة.
وشاهد علي حال الدهر واخباره
وفيه ما جرى من ظلم واستنصاف
وكسرة سلاطينه وهَدّ عَماره
وما فيه قامن من ادوَل واحلاف
هذان البيتان يُلخِّصان كل أحداث الدنيا.. ولعل كلمتي (ظلم واستنصاف) هما الغاية في الاختزال.. إنه نوع من (تقطير) المعنى.. إن صحّ هذا التعبير.. فالأمور كلها لا تخرج عن (العدالة والظلم).
وهْلالك اللي للحرب فيه اشارة
كَمّين وغد جابه عسكره زحّاف
الهلال في موروثنا الشعبي من خلال وضعه قد يشير إلى بعض الأحداث المتوقّعة.. كالحرب.
وكَمّين حصن تحتك ناقبين اسواره
وطاح وتعلّى كم عَلَم رفراف
وكَمّين عين من طعنة خفا غدّارة
اللي بات فيك اصبيّها لَصّاف
وكَمِّين شَيّ صار وخافيات اسراره
بعد الله لا غيرك اسمع لا شاف
استخدام لفظة (كَمِّيْن) للدلالة على الكثرة.. وهي تعادل في الفصحى (كَم مِن...).
حتى ان كانّك ما قلت لا خبّارة
لو كان تنطلق مارَك الاّ خَرّاف
ومَو اسكوت شِي جاهل عديم ادبارة
سكوتك اسكوت لكل شِي عَرّاف
كم من صامت لا يخفي وراء صمته شيئاً.. وكم من ثرثار لا يقول شيئاً أيضاً.. لكن صمت القمر هنا هو صمت العارف.. الصمت الذي جعل الشاعر (الرويعي) يحاول استنطاقه.. والإصغاء إليه.. وهو يذكّرني بالقول المأثور: (كلما قلّلتَ من الكلام.. ازداد الإصغاء إليك).
ثم يشرع (الرويعي) في الحديث عن أثر القمر في الوجود.. وفي حياتنا على الرغم من بُعده وصمته:
مانك غريب الطَّلّة
بَسمَك العالم يعرفك هو كلّه
اتورّي حساب التورخة بالْهِلّة
ولْمَدّ البحور وجزرهن كَيّاف
وهي حقائق علميّة معروفة لا يقف عندها (الرويعي) كثيراً.. لأنّ الإكثار منها يُفسد طراوة القصيدة.. لكن الأهم هو نظرتنا للقمر بحسب أحوالنا واحتياجاتنا:
يريدك الساري ع الطريق اتدلّه
ويريدك الجاني تنخسف نخساف
فالقمر عند بعضهم هداية وأنس (يريدك الساري ع الطريق اتدلّه).. وعند بعضهم الآخر مصدر فضح (ويريدك الجاني تنخسف نخساف).. لكنّ القمر يعتصم بصمته كعادته.. يضيء درب السالكين.. سُراةً أو جُناة.. حتى الطبيعة في مواسمها:
وراك الصيوف انْجومهن تجّلاّ
ودونك الشتية مزنهن حَرجاف
يْجن اوقات ما تقدر ضباب اتفلّه
ويْجن اوقات لشموس الضحى كسّاف
في بعض الأحيان يحجبه الضباب.. وفي أحيان أخرى يُظلِّل الشمس ويكسفها.
ثم يعود الشاعر إلى الذات:
كلام قلت مَو زايد عليّ معلّه
الاّ من خبَر مازلت له رَدّاف
ايْمثّل أحوال الدهر وين اتْحَلّه
والناس في اتْجبّرهم عليه اضعاف
ثُمّ يختم بما يشبه الأقوال الماثورة:
والطير الهواوي كل ما يتعلّى
يقرب اسقوطه صقر والا باف
والذيب الحريص اتْجيه ساعة زَلّة
وايجي بلربعة ويطيح ف المنداف
هل يريد (الرويعي) القول إنّ القمر استثناء من كل هذا؟ فهو لا يسقط مهما ارتفع.. ولا يقع في فخّ أحد.. وهو تأكيد على مبدأ الحرية الذي جاء في أول القصيدة.. ربّما.. وربّما حمّلتُ النَّصّ قراءة متعسِّفة.. ما لفت انتباهي لهذه القصيدة النظرة المختلفة للقمر.. فقد اختار الشاعر (الرويعي) زاوية نظر تختلف ـ في رأيي ـ عن نظرة الشعراء عموماً.. حتى شعراء الفصحى.. نظرة تختلف عن نظر العابرين.. الذين اعتادوا النظر إلى الأشياء أفقيًّا.. وكأنّها لا تملك إلاّ بُعداً واحداً.
شيء آخر ينبغي أن نقف عنده.. وهو أن الشاعر يخاطب القمر في قصيدة كاملة.. دون أن يأتي على ذِكْر لفظة (قمر) ولو مرة واحدة! بل تحدّث عنه بتعداد صفاته وقرائنه.. وهو شيء يُحسب للشاعر.. لأنّ ذِكْر الأشياء مع وجود قرائنها الدالّة هو من باب الحشو. فعَدَم ذِكْر (القمر) هنا هو ما يُسَمِّيه البلاغيُّون: (الاحتراز مِن العَبَث).. والمَقصود أنَّ ما قامت عليه القَرِيْنة.. وأصبح معلوماً بالضرورة.. فذِكْره يُقَلِّل من قيمة الكلام البلاغية.. وبعض الشعَراء ـ للأسف ـ لا يتنبَّهون لمثل هذا الأمر.. فأحياناً تُذكَر ألفاظ وقرائنها موجودة.. وهذا يجعل بعض النصوص مُترَهِّلة.
الأصل في الخطاب أن يكون للعاقل.. وخطاب الجمادات يضعها في مرتبة العاقل.. إنه نوع من الأنسنة.. وقد حشد (الرويعي) لذلك الكثير من الأفعال: (اتبدّد.. تندقر.. تخاف.. تنصدع.. اتطيح.. تسمع.. اسمع.. شاف.. قلت.. تنطلق.. اتورّي.. اتدلّ.. اتفلّ).. وأسماء الفاعل: (ضارب دارة.. واخذ في السما مشراف.. شاهد).. وصيَغ المبالغة: (عَيّاف.. طَوّاف.. جَوّاف.. خَرّاف.. عَرّاف.. كَيّاف.. كسّاف).. مما خلق حالة شخصنة لهذا الكائن السابح في الفضاء.. وجعله أكثر أُلفة وقُرباً.
ولكن لماذا نُشيح بأبصارنا عن الأرض.. وننظر إلى السماء؟ الإنسان يفعل ذلك في كثير من الأوقات.. حين تشتد عتمة الأرض.. يرنو ببصره إلى فوق.. فالسماء مصدر النور والمطر والوحي.. يُحسّ بحاجته إلى الاتصال بالروح الكلي للكون.. يحنّ إلى النفخة الأولى.. ذلك الجزء الإلهي فينا.. يتطلّع إلى نور القمر الهادئ.. بعيداً عن ضجيج الأرض.. إنه تَوق إلى الجمال قبل كل شيء.
(الرويعي الفاخري) شاعر له نكهة خاصة.. مختلفة.. يدرك أنّ الشعر منذ فترة واقع في حالة اجترار.. وإعادة إنتاج.. فهو في حاجة دائمة إلى ارتياد آفاق جديدة.. أن يتنفّس خارج المألوف المكرور.. هذا ليس تخميناً.. بل رأي سمعته منه أكثر من مرّة.. لذلك يبقى فترة طويلة دون أن يقول شيئاً.. وهو القابض على رسن القوافي.. لكنه كما يود كل يوم أن يسير في طرق جديدة غير مطروقة ولا مُغلَقة.. فهو يود أن ينحت كل قصيدة من قصائده من مادة وطينة مختلفة.
فشكراً للشاعر (الرويعي الفاخري) الذي منحنا هذه الرؤية إلى الأعلى من زاوية يعتقد الكثير منّا أنها غير موجودة أصلاً.. لكن عين الشاعر الموهوب ترى ما لا يُرَى.. تقتنص ما وراء الأشياء.. وتُجيد النظر من زوايا غير مألوفة.
***
(السبت 2009.4.11)
لا أدري أيهما أروع، الرويعي الفاخري بقصيدته غير المألوفة، أم أحمد يوسف بقراءته وعدسته أيضا.شكرا،، استمتعت.
ردحذفالقصيدة في حد ذاتها قصيدة كبيرة للشاعر ارويعي الفاخري
ردحذفالذي عودنا دائماً على الجديد في القصائد من حيث الفكرة
والذي اعتبره بصفة شخصية من المجددين في الشعر الشعبي من حيث الافكار والصور واللغة المستخدمة
المهم
القراءة جاءت لتغازل هذه القصيدة الرائعة ، واظن أن احمد يوسف عقيلة الذي نادراً مايترك امور القصة لينشغل بأمور أخرى
القصيدة يبدو أنها استفزت القاص وهذا مهم جداً
عبدالباسط أبوبكر محمد
أحسنت الانتقاء يا أحمد , كما أحسنت قراءة هذه القصيدة التي أذكر أنني حدثتك عنها ذات مرّة وأخبرتك أنها شكلت انعطافاً إلى الأعلى في مستوى الشعر عند الرويعي , فمثلما أجاد الشاعر ( سعد بو خويدم ) في مخالفة المألوف فطلب من القمر أن يكون ( مرساله ) إلى محبوبته. نرى أن الرويعي بلغ غاية الجودة في تناوله لهذا الموضوع بقصيدة هي أشبه ما تكون بدراسة مفصلة لهذا المخلوق ( الصامت العارف )الذي أقنع الجميع ببهائه رغم شدة إظلامه وبرودته.
ردحذفإن للقصيدة بقية وددت يا أحمد أنك أضفتها لقرائتك حتى تكتمل الدراسة وتزداد المتعة. أتركك بودّ.
شكراً ياأحمد فأنت دائماً سباق لالتقاط الجمال فليس ذلك غريباً عليك .. القصيدة رائعة والجدة أمر نسبي غير أن الأمر المثير هو تطويع كلمات جديدة لمطرقة الشعر الشعبي دون أن يظهر ما بها من غرابة مثل :طَوّاف ،عَيّاف ،ترثَى لي ، وغيرها من التركيب اللغوية الغير مألوفة ، كما أن الشاعر الرويعي يمتلك حس المتأمل وليس الصارخ!وهو أمر نفتقده في كثير من شعرائنا الشعبيين ........ الأمر الآخر فما دام لك هذا الحس النقدي يا سيد احمد فلماذا تتناول قصيدة النثر وهي في رأي أقرب إلى القصيدة الشعبية .. مع بالغ محبتي
ردحذف(جمعة عبدالعليم)
شكراً أخي جمعة عبدالعليم.. لا أعتقد أنني أمتلك حساً نقدياً.. أنا متذوق فقط.. أحاول التقاط وتذوق الجمال في الكلام وفي الطبيعة.. هذا ليس من باب التواضع.. لكنني أعرف إمكاناتي دون ادعاء.. صدقت..(الشاعر الرويعي يمتلك حس المتأمل وليس الصارخ).. وما أكثر الصراخ في شعرنا الشعبي! والرويعي فوق ذلك مفعم بالحس الإنساني.. أنا شخصياً أراهن عليه في إحداث نقلة نوعية في شعرنا الشعبي الذي يجتر نفسه منذ فترة.
ردحذفكبير يارويعي .. الكبير الل
ردحذفاسلمت