17 يناير، 2010

الْمستجِدّ

ا
... هذا هو اليوم الأوّل لنا في التدريب كأفراد شرطة.. يَحلقون رؤوسنا.. يُصلّعونها.. الشَعْر المدنِي الذي ينمو كما يحلو له يجب أن ننساه إلى الأبد كما قال الحلاق.. يُوقفوننا صفاً في الساحة المفروشة بالحصى الأبيض المدبب.. فاصل من التوبيخ.. قاموس من الشتائم.. يأمروننا بوضع أيدينا متشابكة فوق رؤوسنا.. والمشي على رُكبنا التي تنحسر عنها السراويل.
أرمق اللافتة المنصوبة في طرف الساحة: (الأمن مسؤوليّة كلّ مواطن).. أتساءل: (هل مسؤوليّة المواطن الأمنيّة تقتضي أن يَمشي على رُكبتيه الحاسرتين فوق الحصى المدبب؟).
ل
... رُكبتاي يُغطيهما الدم الأسود المتخثر.. أَنظرُ بإعجابٍ شديد إلى صفوف أفراد الشرطة الأقدم منا.. لباس أزرق موحَّد.. مكوي بعناية.. أحذية سوداء لَمّاعة.. نفس الخطوة.. نفس حركة اليدين.. بالمسطرة.. وبطريقةٍ ما ذكّرني ذلك المشهد بالاستنساخ.
ك
... يُحضرون كلباً أسود من نوع (وولف).. يقودونه بطَوق سميك في رقبته.. يرفع أنفه باتجاهنا.. يُكشّر عن أنيابٍ صقيلة حادة.. يتساقط اللعاب من زوايا فمه.
يصرخ الضابط:
ــ ثابِت.. استعدّ.
يبدو أنّ استعدادنا لَم يكن كافياً.. لَم يُعجب حتى الكلب الذي أصدر هريراً وهو ينظر إلينا بغضب.. يزعق الضابط مرّةً أخرى:
ــ عادةً سِرّ.. أطلق طولك.. وافتح الخطوة.. وارفع راسك.. واعتزّ بنفسك يا حيوان!
ل
... يبدأ الضابط في الشرح:
ــ ينقسم درس اليوم إلى قسمان.
ــ إلى قسمين يا سَيّدي.
ــ الله الله.. من الحيوان الذي صَحّح لي؟
ــ أنا يا سَيّدي.
ــ أنت؟ مستجدّ تصحّح لضابط؟ والله عال.. العسكرية أصبحت مهزلة.. بعد انتهاء التدريب لفّ على الساحة ألف لَفّة.. وأي غلطة في العدد تبدأ من جديد.. مفهوم يا حيوان؟ إن شاء الله تلفّ إلى الأبد.. وعندكم عقوبة جماعيّة بعد الدّرس.. هذه هي العسكريّة.. الحسنة تخصّ.. والسيّئة تعُمّ.. هذا سبب تخلفنا من دون الأمم.. حتى المستجدّ يناقش الضابط!
ب
يتنحنح.. يستعرِض مزايا الكلب اللاهث إلى جانبه:
ــ هذا الكلب من فصيلة ممتازة.. سريع.. وثاب.. لا يتردد.. حاد النظر.. يتمتع بحاسة سمع قوية.. إلى درجة أنه يسمع ما خلف الجدران السميكة.. شديد التركيز.. غَير مُشوَّش.. يشمّ أقلّ الروائح على بُعد أميال.
... يُربّت على عنق الكلب بِحنان.. يُصدر إليه إيعازاً فيُقعي.. ثمّ يصرخ فينا:
ــ انتباه.
يشرع هذه المرّة في استعراض المواصفات التي ينبغي توافرها في الشرطي:
ــ سريع.. وثاب.. لا يتردّد.. حادّ النظر.. يتمتع بحاسّة سمع قويّة.. إلى درجة أنه يسمع ما خلف الجدران السميكة.. شديد التركيز.. غَير مشوَّش.. لديه حِسّ أمنِي.. يشمّ أقلّ خلل أمنِي على بُعد أميال.
***
(2008)

هناك 9 تعليقات:

  1. أحمد يوسف عقيلة
    القاص المثابر في نسخته الجديدة على الشبكة
    عزيزي يعجبني هذا الركض وراء تطوير تجربتك من مختلف الأبعاد

    عبدالباسط ابوبكر محمد

    ردحذف
  2. صديقي أحمد: لا تنسَ صفة الوفاء الراسخة عند الكلب واضطرابها عند بعض البشر .على الرغم أن بعض البشر يتمتعون ببعض خصائص الكلاب .

    مفتاح امعيزيق .

    ردحذف
  3. الشاعران.. عبدالباسط أبوبكر.. مفتاح امعيزيق.. دائماً ونس.

    ردحذف
  4. الاستاذ احمد
    تحية طيبة
    (بالفعل نحن نريد رجال شرطة اوفياء)
    دمت ودام طرحك الرائع
    -
    -عبدالقادر العرابي

    ردحذف
  5. فعلا ، سؤال وجيه وفي محله:
    ( هل مسؤلية المواطن الأمنية تقتضي أن يمشي على ركبتيه الحاسرتين على الحصى المدبب ؟ ) .
    ماذا لو مشى على غيره من الأسطح هل سيكون خالي مسؤوليةأمنية تجاه الوطن ؟
    كلماتك أيها المشاكس تعمل مفعولها بعد نهاية قراءة كل قصة من قصصك ، ويبقى السؤال الأهم ، هل سحبت الكلاب وأرجلها حاسرة على اسطح مدببة حتى تساوت في صفاتها مع رجال الشرطة ؟

    نعيمة الطاهر

    ردحذف
  6. شكراً نعيمة..قراءتك تعميق للنص.

    ردحذف
  7. القاص الكبير / أحمد يوسف عقيلة
    يعجبني هذا التقاطع في الموضوع بين السرد الأفقي والعنوان العامودي ..حيث يلتقيان في نقطة واحدة تخدم النص .. مازلت أصر على أنها ظاهرة غير مسبوقة تستحق الوقوف عندها ..
    ولك مني أطيب تحية .

    عبدالحفيظ أبوغرارة

    ردحذف
  8. أخي عبدالحفيظ أبوغرارة.. يبهجني دائماً سطوعك في مدونتي.

    ردحذف