13 مارس، 2010

البيضة..

1
... ليلةُ صيفٍ حارّة.. تلك الحرارة الرطبة.. التي تُشعرك بالضيق من كل شيء.. النوافذ مُشرَعة.. الأضواء في حدِّها الأدنى.. فأيّ ضوء في ليلةٍ كهذه ـ مهما كان خافتاً ـ يولِّد إحساساً كريهاً بالحرارة.. كنّا نجلس أمام بيوتنا.. نفترش حُصُر السّعَف.. ونتحدَّث بأصوات خفيضة.
2
... داخل أحد الأدغال الكثيفة في ضفّة الوادي بدأ شيء يُشعّ.. شيء مُبهِر.. ليس حادًّا مُستعِراً كضوء النار.. بل هو أقرب إلى هدوء وخفوت ضوء القمر.
3
... تطاولت أعناق الجالسين على الحُصُر.. يتطلعون ناحية البُهْرة.. سرى الخبر.. فخرجنا يدفعنا الفضول.. بخطواتٍ يشوبها الحذر.. لكننا نشعر بابتهاجٍ ما.. فحياتنا الرتيبة التي تَنْسَرِب أيامها كحبّات السّبْحة.. في حاجةٍ إلى وقوع شيء مختلف.. يُحرِّكها ولو إلى حين.. كما يقع الحجر في البركة الراكدة.
4
... كانت بيضة ضخمة.. لامعة.. في طرفها العلوي بعض النمش الأحمر.. لكنك تحار في تحديد لونها.. عندما تُمعن النظر فيها.. يُخيَّل إليك أنها عامرة بكل الألوان.. الدغل الملتف حولها يُشكِّل ما يشبه العشّ.. أخذنا ندور متابعين استدارتها باستغراب.. تجرَّأ أحدنا وبدأ يتحسسها بدهشة.. بل أخذ ينقر جدارها الأملس السميك بأصابعه.. فأصدرت رنيناً.. ترددت أصداؤه في قلوبنا.. رنين يجعلك تُحسُّ بارتعاشٍ لذيذ.
5
... تراجعت الدهشة فانطلقت الألسن:
ــ لا يمكن أن يكون هذا الشيء إلا سماوياً.
ــ لقد كفَّت السماء عن إرسال أشياء من هذا القبيل منذ زمن.
ــ لا تُجدِّف.. فالسماء لا تبعث أشياء غامضة.. الله دائماً يُفصِح عن نفسه.
ــ هذي دَحْية ابليس.. قالوا يدَحِّي في العمر مرة.
ــ عشنا وشفنا.. هذي أول مرَّة أسمع فيها أنّ الشيطان يبيض.
ــ الشيطان يبيض ويلد.. ويفعل كل شي.. والاّ فكيف يَكون شيطاناً.
ــ ولماذا اختار إبليس وادينا بالذات ليبيض فيه؟!
ــ هذا سؤال يُجيبك عنه إبليس نفسه.
ــ ما الذي يُمكن أن يكون بداخلها؟
ــ لعلّه كنْز.
ــ لا شَكّ أنّ فيها قبيلة من الأبالسة الصغار.
ــ مهما يكن.. فعيال إبليس يتمتّعون بالبَراءة.. فالطفولة هي الطفولة.
ــ من يدري.. قد تخرج منها امرأة عارية.. أو ملائكة.. أو شرطي.. أو حتى جنرال.. فبيض الشياطين يحفل دائماً بالمفاجآت.
6
... ظلت البيضة في واديها.. أحياناً يُخيَّل إلينا بأنها تكبر.. فها هي اليوم تكاد تلامس الأغصان.. أو لعل الأغصان هي التي تطاولت ناحية البيضة.. تردَّدنا عليها طيلة أيام.. غدت مزاراً ومَحجًّا.. خاصة في أوقات الغروب.. حيث تعكس حُمرة الشفق.. ويتحول سقفها المُدوَّر إلى ما يشبه قوس قُزَح.. لم نستبعد فكرة الكنْز.. حتى نساؤنا وأطفالنا طافوا حولها.. تحسّسوها.. وسمعوا رنينها المُربِك.. إلاّ الإمام.. فقد نغَّص علينا تلك المتعة بوعيده:
ــ هل أصبحتم جميعاً من أتباع إبليس؟ هذه البيضة الملعونة هي الغواية بعينها.. كل شيء ينجذب إليها.. ثم أيّ كنْز يُمكن أن يكون في دَحْية شيطان.. ألم تسمعوا ما قال الله سبحانه: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ).. أين إيمانكم.. ابصقوا عليها.. اركلوها.. وحتى بولوا عليها.. فلا قدسية لها.
ردَّ أحدهم:
ــ من أين سنأتِي بالبول.. والمياه مقطوعة منذ أكثر من شهر؟! دعونا ننتظر.. لن نخسر شيئاً.. لا بدَّ أن تفقس البيضة في نهاية المطاف.
أشاح الإمام بقرف:
ــ لا خير فيكم.. تنابلة.. شياطين.. تتعلقون بالأوهام.
7
... ذات ليلة قررتُ أن أضع حدًّا لبيضة إبليس.. فبعد منتصف الليل أخذتُ فأساً وخرجت.. سأفقسها.. سأُحطِّمها.. وليكن ما يكون.. لم نعد نحتمل ملمسها.. ولا رنينها.. سئمنا المسألة.. يجب أن نعرف ما بداخلها.. شياطين زُرْق.. أو ملائكة.. أو كنْز.. أو أيّة لعنة.
... شبح أسود يطوف حول البيضة.. اقتربتُ بحذر.. رغم اللباس الأسود الذي يُخفي حتى الوجه.. فقد عرفته.. إنه الإمام.. كان فضيلته يتحسّس بكلتا يديه بيضة إبليس.. باستمتاعٍ لا يُمكن إخفاؤه حتى في ظلام الليل.
***
(2000)

هناك 3 تعليقات:

  1. روعة اخى احمد ...
    لقد استمتعت بقرائتها جدا.....
    بس ما قتليش شن صار فى دحية ابليس ؟ شن طلع منها هههههه
    مشرف موقع واحة جالو

    ردحذف
  2. إنّه الإمام ولاأحد غيره..(المزدوج)الذي يرهبنا دائماً
    وداخله تموج كل رغبات الدنيا،ويظهرلنا فقط إحساسه المعار.

    ردحذف
  3. نعيمة الطاهر

    سألخص التعليق في جملة واحدة أقتبسها منك أخي أحمد :
    ( بيض الشياطين يحفل دائما بالمفاجآت )!!!
    كلما قرأت واحدة من قصصك تلبستني الدهشة وتملكني الإحساس أنني أجلس في حضرة مبدع فذ ،،
    شكرا لك أيها الرائع فلقد وهبتني معن آخر للحياة

    ردحذف