31 أكتوبر، 2009

السقف

(إلى أحمد إبراهيم سعد..
وُلِدت هذه القصة يوم مَولِده)
( س )
... أنا ـ وأعوذ بالله من كلمة أنا ـ عامل سقوف.. تعدَّت شُهرتي إلى القُرى المجاورة.. لستُ سَقّافاً للبيوت فقط.. بل للحظائر والزرائب ومراح الأغنام.. وحتى لِقنّ الدجاج.. فأنا مُتخصِّص في شيء اسمه سَقف.. الخَرساني.. القرميدي.. الصفيحي.. المُسَطَّح.. المُحَدَّب.. المُتحرِّك والثابت.. والقِباب أيضاً.. الكبيرة كقِباب المساجد.. والصغيرة كقِباب الأولياء.. بل حتى من الناحية اللغوية.. فأنا قتلتُ السَّقفَ بحثاً.. فمِن تقليبات الفعل (سَقَفَ): فَسَقَ: والفسوق لُغةً هو خروج الرُّطَبَة من غِشائها.. فالفسوق هو الخروج عن سَقْف الطاعة.. ومن التقليبات أيضاً: فَقَسَ: فالبيضة تُشكِّل السَّقْف الذي يحمي الطائر.. و(السّقَف) في اللهجة الليبية هو عُشّ الطائر الكبير.. كالعُقاب والحدَأة والغُراب.. ويبدو لي أنَّ معنى السَّقف جاء من هنا.. فهو يعني الارتفاع.. كأعشاش الطيور الكبيرة المركوزة في أعالي الشجر وحواف الأجراف الصخرية.. والسَّقِيفة هي المكان المَسقُوف الذي لا جُدران له.. لكن دعونا الآن من القاموس.
( ق )
هناك بعض السقوف تحيُّرني.. تربكني.. لا أحبُّ التعامل معها.. كسقف الوظيفة.. فأنت عندما تدخل مؤسسةً ما طالِباً وظيفة.. يقول لك المدير دون أن يلتفت إليك:
ــ السَّقف الوظيفي ما يسمحش.
فتنظر إلى فوق.. إلى السَّقف.. فتبهرك الثُّريّات.. تفتح ذراعيك على اتساعهما.. وتمضي دون أن تفهم.
... هناك سَقف آخر ألعن.. هو سَقف الإنتاج.. فهو يعلو ويهبط.. شيء لا تستطيع الإمساك به.. أو حتى لَمْسه.. وهناك سَقف للزواج أيضاً.. فأنت لا تستطيع أن تتزوج أكثر من أربع نساء.. أَعني مهما كانت فحولتك.. لكن دعونا من هذا.. واسمعوا ما حدث معي في مركز الشرطة.. فقد طلب مني السيّد رئيس المركز أن أُرَمِّم سَقف السجن.. فهو.. كما يقول.. عبارة عن بُرْج قلعة منذ العهد الإيطالي.. والإيطاليون ورثوه عن الأتراك.. والأتراك ورثوه عن الرومان.. والرومان قالوا بأنه تَرِكة من تَرِكات الإغريق.. ويُقال أيضاً بأنَّ فرسان القدِّيس يوحَنّا قد استعملوه أيضاً.. حين غزَوا بلادنا في العصور الوسطى.. فلا شكَّ أن سَقفه قد اهترأ بفعل الشتاءات الباردة والجليد.
( ف )
... كان السجن مُكتظًّا.. يسندون ظهورهم على الحِيطان المُتقشِّرة.. يضمُّون رُكَبَهم إلى صدورهم.. يتقفقفون.. وينشقون بأنوفهم.
لسعني البرد أيضاً.. رفعت رأسي.. تبدو الجدران لا نهاية لها.. ذاهبة في السماء كَطَعْنة.. تسلَّقَتْ عيناي الجُدران إلى حوافِّها العُليا.. فتبيَّن لي أنَّ السجن لم يكن له أيّ سَقف أَصلاً.
***
(2002.8.3)

هناك 6 تعليقات:

  1. لو كان لأي سجن سقف لكانت على الأقل تحددت مدة الإقامة .....

    ردحذف
  2. وهناك سقف أخر ،وهو سقف الحريات ..أعتقد أنه آخذ في الإتساع الأن .. مع كل كلمة صادقة، وكل صوت شجاع ،ومع كل حر أصيل يحاول رفع هذا السقف اللعين والمؤطر بخطوطه حمراء..ومع هذه الكلمات الرقمية نبدأ في إزاحة السقف ومحو الخطوط الحمراء والخضراء

    علاء
    عامل إزالة

    ردحذف
  3. في دلالات الرموز للاسقاط يعتبر رفض السقف مؤشرا لعقدة سلطة... وترمز السقوف المحنية والمقعرة للاحتواء ورفضها يعني موقفا قديمامؤلما يرتبط بالمرأة اما السقوف المسطحة فرفضها دلالة لاحساس قديم بالنبذوالهجر سببه الجفاف... اما السقوف المائلة فترتبط عادة بالتدين."الايحاء الديني"..اما تغير لغتك وتحولك للتنظير المباشر فيعني اننا نخاف على جمالك..لمن تقرا مؤخرا؟.. بالله عليك لاتضيع كنزك وتعويذتك"ام الخير"

    ردحذف
  4. منتهى الحرية أن لا يكون للسجن سقف .
    نتطلع للسماء والنجوم والشمس .. نغتسل بالمطر .. ننتشي بالطل والندى حتى ولو أغلقت جميع الأبواب .

    ردحذف
  5. منتهى العبودية ان تكون هناك نهايات عمودية (اسقف) و منتهى منتهى الحرية ان لا تكون هناك نهايات افقية (جدران)

    ردحذف
  6. هي الدنيا سجن كبير بارد ، لا معالم محددة له ولا اسقف محدبة أومدببة أو مستوية ، جدرانه الأفق وسقفه السماء .... لا ناج منه إلا من تعالت نفسه وسمت عن كل الصغائر ... الخروج من سجن النفس بداية الانطلاق نحو الحرية ....

    نعيمة الطاهر

    ردحذف