05 أكتوبر، 2009

التراب الوَطَنِي

1
ــ شمُّوا التراب الوَطنِي.
قال مُعَلِّمنا ذو المِعطف الرمادي المُجَعَّد الممضوغ.. بياقته المُتسِخة المُكرمشة.. ثم بدأ يُمَرِّر حَفنة التراب من أمام أُنوفنا.
ــ هذا التراب الوَطني.. الذي سَقاه أجدادنا بالدَّم والعَرَق والدموع.
ــ هذا تراب (بوعَمَايا) يا أستاذ!
ــ حيوان! تموت وأنت حيوان.. خسارة فيكم حصّة التاريخ في الهواء الطَّلْق.. كُلّ ما ترونه تُراب وَطني.. هذه الأشجار.. الصخور.. الرمال.. هذا هو التراب الوَطني الذي أَسقط أجدادنا مِن أجله أول طائرة في حرب.. ومن أجله أيضاً احتملوا التشريد في مَنافي الطليان.. والمقابر الجماعية.. والزَّجّ في المُعتقلات.. هل تعرفون معنى (الزَّجّ)؟
تبادلنا النظرات.. وفي لحظة واحدة ذهبَتْ أَذهاننا إلى المعنى نفسه.. أَطْرَقنا.. تظاهرْنا بتأمل (التراب الوَطني).. ونحن نسترق النظرات من تحت.
ــ شياطين! كلمة (الزَّجّ) لا تحمل أيّ معنىً بذيء.. إنها تعني فقط (الإدخال عُنْوَة)!
بدَأْنا نخنق الضحك.. أحسَّ مُعلِّمنا بالحرج.. قرَعنا بالعصا على رؤوسنا.. ثم تنحنح.. وقال:
ــ التراب الوَطني طاهر.. مُقدَّس.. والتفريط في حَبَّة واحدة منه خيانة عُظمى.. والولاء له هو أحد مقاييس المواطَنة.
أَغمض عينيه وتأَوَّه مُنتشياً وهو يستنشق التراب.. ثم شرع من جديد يُمَرِّر قبضته اليُمنى من تحت أُنوفنا مباشرة.. ضاغِطاً بيده اليُسرى فوق أَعناقنا.. صارِخاً:
ــ شمُّوا.. شمُّوا التراب الوَطني.. المقدَّس.. الطاهر.
اجتاحتنا نَوبة عُطاس.. ونحن نمسح التراب العالِق بأُنوفنا.
ــ عندكم ربع ساعة استراحة.. وبعدها كلّ واحد يحَضِّر كَم جُملة عَ التراب الوَطني.
2
... التراب الوَطني يُحاصر خُطواتنا.. يُكَبِّلها.. يخنقها.. بدأْنا نمشي بحَذَر.. على أَمشاط أقدامنا.. وداخلنا إحساس بالخطيئة.
... قبل انتهاء الاستراحة أَطْلَقْنا صرخة جماعية مُهرولين باتجاه المُعلِّم:
ــ يا أستااااااذ .. العَيّل بال عَ التراب الوَطنييييي!!
خَلَع مِعطَفَه الرَّمادي.. شَمَّر كُمَّيه.. أَسرع مُلوِّحاً بعصا الزيتون:
ــ تعال هنا يا خَراء.. أنت اللي دَنَّست التراب الوَطني؟! مدّ يَدَّك.
بعد الجلدة الأولى.. أخذ التلميذ ينفخ في كَفَّيه.. ثُمَّ ضَمَّهما تحت إبطَيه وهو يرتجف وينشق بأنفه.. وصرخ من خلال دموعه:
ــ الله غالب يا أستاذ.. كلّه تراب وَطني.. وَيْن نبُول؟!
***
(2002)
ـــــــــــــــــــ
ــ بوعَمَايا: التسمية المحلية للخلْد.. بضم الخاء وكسرها وسكون اللام كما جاء في لسان العرب.. وهو نوع من الجُرذان العمياء يعيش في أنفاق تحت الأرض.. يكثر في الجبل الأخضر بليبيا.
ــ أول طائرة سقطت في حرب أسقطها الليبيون سنة (1912) أثناء الحرب ضد الطليان.

هناك 9 تعليقات:

  1. أحسنت أستاذ أحمد.. كلمات ماتعة تحمل معاني رائعه ..تتدحرج صوبنا من قمة التراب الوطني .. من قرية عمر المختار بالجبل الأخضر ..المكان الذي سقاه أجدادننا بالدم والعرق.. كلمات مزجت بالتراب الوطني .

    علاء الكزة
    سهل بنغازي مستقر العجاج الوطني.

    ردحذف
  2. عبدالسلام الحجازي9 أكتوبر 2009 في 2:47 م

    أحسنت ياأحمد .. لقد قرأتُ هذه القصّة منذ سنين عديدة ثم تكررت قراءتي لها كلما وقع عليها ناظري , وها أنا أقرأها مرة أخرى .أخي أحمد لم تفقد هذه القصّة نكهة قرائتها أول مرّة . دُمت يا صديقي.

    ردحذف
  3. صالح المبروك13 أكتوبر 2009 في 11:37 م

    أسوأ شيء أن تتحول القيم النبيلة إلى إرهاب!!!

    ردحذف
  4. عزيزي / أحمد
    في البدء لا يسعني إلا أن أعرب لك عن إعجابي بك وبإبداعك الذي يتجلى من خلال هذه النصوص الرائعة .
    وتحضرني حادثة عن تراب الوطن حيث كنت أنا وأترابي في إحدى معسكرات الخدمة الوطنية ولخطأ ما إرتكبه أحدنا تم تذنيبنا وكان أحد معلمينا يحشو التراب في أفواهنا فقال أحدنا ساخراً : هل جئناإلى هنا لنخدم الوطن أم لنأكله .
    دمت لنا مبدع وكاتب مميز .

    ردحذف
  5. زهران القاسمي11 يناير 2010 في 2:11 ص

    اي والله أخي أحمد كله تراب وطني ، وين نبول فعلا ههههههههههههههههههههه

    ردحذف
  6. أشكرك صديقي زهران.. هل قلت لك بأن حكاياتك في سيرة الحجر أمتعتني؟

    ردحذف
  7. شكراً استاد أحمد, الاجمل من تراب وطني هو أبناء وطني المخليصين من امثالك.
    جمال المغربي

    ردحذف
  8. عندما تكون تصرفاتنا اليومية الاعتيادية جريمة فماذا سنطلق عليمن يقترفون الاخطاء الشنيعة لتراب هذا البلد ...؟؟؟



    شكراً لك استاذ احمد ودام خيالك وفكرك عطّاء

    ردحذف
  9. ذكرني وصفك للأستاذ بأستاذ اللغة العربية في المرحلة الإعدادية ضربات عصاه على ظهر يدي عاد لي الإحساس بها بعد قراءة القصة ، ضربني لأني لم أحفظ قصيدة للشاعر رفيق المهدوي تتحدث عن الوطن .
    مع كل يبقى تراب الوطن أغلى الموجودات في هذه الدنيا .

    نعيمة الطاهر

    ردحذف