02 سبتمبر، 2009

الْخُيُول البِيْض

( خ )
... في الليالي الأربعين تتجمَّد أطرافك.. تبتعد أصابع يديك عن بعضها.. تصطكُّ أسنانك.. ترتعش شفتاك.. يَزرقُّ لونك.. ويتقلَّص جسدك! نعم.. يتقلَّص جسدك.. حتى إنك تُحسُّ بأنَّ ملابسك غدت فضفاضة بعض الشيء!
في الليالي الأربعين ـ إذا كنتَ من الذين يستيقظون في الصباحات الباكرة ـ تجد أنَّ سطوح البِرَك قد تجمَّدت.. إلى درجة أنه يُمكنك أن ترفع ذلك الغطاء الزجاجي بين يديك.
كِبار السنّ في قريتنا يتدثَّرون بعباءاتهم بالقرب من المواقد.. ويمتهنون التثاؤب.. وإذا أراد أحدهم الإشارة إلى شيءٍ ما.. أشار إليه بالشفة السُفلَى.. حتى لا يُضطرَّ إلى إخراج يده من العباءة! وبين الحين والحين يبحثون بأقدامهم في ذاكرة الرماد عن بقايا جذوة.
( ي )
... الليالي الأربعون موسم من مواسم الحكايات..
ــ يقولون إنَّ الراعي مسعود قد ذهب بقطيعه إلى الأودية.. فهذا أوان ظهور الخيول البِيض.
ــ مسكين هذا المسعود.. منذ سنوات وهو يفعل ذلك في عِزّ الشتاء دون جدوى.
ــ كم أتمنَّى أن أرى تلك الخيول.
ــ أنا أكثر قناعةً منكِ.. أنا لا أحلم سوى بجوادٍ أبيضَ واحد.
ــ يقولون إنها خيول كثيرة.. يسوقها سائس بلباسٍ أبيض.. وبيده سوط طويل تُسمَع له فرقعة.
ــ ويقولون أيضاً إنَّ مَن يرى الخيول البِيض يُحقِّق كل أمانيه.
ــ ويتزوَّج بمَن يشاء.
ــ الخيول البِيض لا يُمكن للنساء أن تراها.
شهقت الأخريات شهقةً جَماعية:
ــ لماذا؟
ــ لأنها لا تظهر إلاّ في ليلةٍ واحدةٍ من السنة.. وهي ليلة غير معروفة.. كما أنها لا تظهر إلاّ في الأودية البعيدة.. وقد تمرُّ سنوات دون أن يراها أحد.. فكيف يُمكن للنساء أن تراها؟
ــ هذا يعني أنَّ رؤيتها تكاد تكون حِكراً على الرجال.. والرُّعاة بالذات.. فهم وحدهم الذين يبيتون في الأودية.
تنهدت إحداهن:
ــ كم أتمنَّى أن يتزوَّجني أحد الرُّعاة.
ــ إذا تزوَّجكِ الراعي فلن تكوني في حاجةٍ إلى رؤية الخيول البِيض!
( و )
... أحد الأماسي الأربعينية.. كانت تُمطِر بلا صوت.. في الحنايا والسفوح تُسمَع شهقات الأرض الخافتة وهي ترتشف دفقات المطر.. وفي الأحشاء النديَّة كان الربيع ينمو خِلسة.
مسعود يُشعِل النار وهو يُطلِق صيحاتٍ غريبة.. زاجِراً القطيع.. أو مُنادياً الكلاب.. حاثّاً إياها على النُباح.. دخان الحطب المُبتلّ يتصاعد كثيفاً.. مُقاوماً زخّات المطر.. السيول تُخرخِر مُتجهةً نحو الشمال.. وتغيب في المنعطفات.. حيث الأودية تصبُّ في أودية.. غِربان المساء تتشاكس.. تتقلَّب في الهواء.. فرِحةً بالمطر.. وبالعودة إلى أوكارها.. وفي الأُفق الشرقي ترتسم النَّدْوَى قوساً زاهياً.. يتلاشَى أسفله خلف ذوائب الأشجار.
تكوَّم الراعي بالقرب من النار.. مُصغياً.. كان يُخيَّل إليه أحياناً أنه يسمع صهيلاً أو وقْعَ حوافر.. وأحياناً أخرى يُخيَّل إليه أنَّ حصاناً قد نَخَر خلف الشجرة المجاورة.. فيقوم ليستطلع الأمر.. ويُصيخ إلى سكون الليل.
( ل )
... في آخر الليل غلَبه النعاس.. فاستسلم للنوم بالقرب من الجمرات الخابية تحت الرماد الأبيض.. وقُبَيل الفجر.. حينما كان مسعود لا يزال مُستغرِقاً في النوم.. كانت الخيول البِيض تنحدِر مع الوادي.. وقد أخفت السفوح النَّديَّة وَقْعَ سنابكها.
***
(1996)

هناك تعليقان (2):

  1. منذ ظهور ذلك الذئب اللعين وأنا منكمش على نفسي..متكور تحت لحافي.. كاتما أنفاسي..واليوم ؛ومع إنحدارالخيول البيض للوادي، أخرج مسرعا للحاق بها حتى وإن كان البرد شديدا!!
    ــــــــــــــــــــــــــــ
    منور يأحمد عقيلة..كلماتك رائعه..وحكاياك ماتعه .

    علاء

    ردحذف
  2. ... في آخر الليل غلَبه النعاس.. فاستسلم للنوم بالقرب من الجمرات الخابية تحت الرماد الأبيض.. وقُبَيل الفجر.. حينما كان مسعود لا يزال مُستغرِقاً في النوم.. كانت الخيول البِيض تنحدِر مع الوادي.. وقد أخفت السفوح النَّديَّة وَقْعَ سنابكها.


    لم أقرأ بل سمعت ورأيت وعشت الحكاية .

    إبداع في الرسم و التصوير بالحروف .

    ردحذف