19 يناير، 2010

الصَّرْخة

الصرخة.. إدوارد ميونخ
... جلس على النطع جلسته اليومية المعتادة.. أخذ يطرق على سندانه.
إلى جانبه.. على دفء النطع.. قِطَّة جاثمة.. تفتح عينيها مع كل طَرْقة.
(كم من المسامير دقَّ في أحذية الآخرين!؟).. سؤال يطرحه على نفسه مِراراً.
ألِفتْ يدُه المطرقة.. ألِفتْ ركبتُه الانثناء.. اعتاد ظهره على الانحناء.. ولم يَعُد أنفه يُنكِر رائحة الأحذية.
بدأ ـ كعادته اليومية أيضاً ـ يترنَّم بالأغنية الشعبية المأثورة عند الخرَّازين:
مازلت نشْكي بمشْكاي ... وعنِّي الدباير غابَــــت.
ومازلت نخْرِز بمشْفَاي ... عَلَيْ ركبتي نَيْن عابَت.
ومازلت نَمْسَح بيَمْناي ... عَلَيْ لحيتي نَيْن شابَت.
ثُمَّ توقف فجأة.. عن الغناء.. وعن الطَّرْق.. رفع رأسه.. ملأ صدره بالهواء.. برزت عروق رقبته.. اتسعت عيناه.. و.. صرخ.. صرخ بأقصى ما يستطيع الصوت البشري أن يفعل.
خرجت الصرخة.. صعدت.. تلوَّت.. انداحت عبر شوارع قريتنا.. تنْزلق فوق الجدران المُتقشِّرة.. من تحت زوايا السقوف.. تقتحم الأبواب والنوافذ.. تتسرَّب من خلال الشقوق..
توقفت الملاعق قبل أن تصل إلى الأفواه..
صرخ الجنين الذي كان مُتعسِّر الولادة..
نضجت الأرغفة في التنانير..
في الغُرَف الخلفية تكوَّرت النهود .. انشدَّ اللحم المُترهِّل..
تمزَّقت شِباك العناكب المنصوبة في الزوايا العُليا..
هَرَّت الكلاب.. دسَّت ذيولها بين أرجلها..
شيخ قبيلتنا ـ الذي كان يُعاني من عُسْر الحاجة ـ اندلق كل ما في بطنه فجأة..
في مسجدنا توقفت حَبّات المسابح عن التتابع.
فاضت الصرخة خارج قريتنا...
أطْلع الموتى رؤوسهم.. استندوا على الشواهد..
توقفت قوافل النمل.. اكتظَّت النياسب بالقَشّ..
تفتَّحت البراعم..
تشقَّق البَيض.. برزت مناقير العُصَيفيرات..
تحرَّكت سطوح البِرَك الراكدة.. ارتسمت فوقها الدوائر المتلاحقة.. لقلقت أطرافها المُوحِلة..
ثُمَّ.. سكن كل شيء...
... تابع الطَّرْق على سندانه برتابة.. والقِطَّة الجاثمة على دفء النطع.. تفتح عينيها مع كل طَرْقة.
(1997)

هناك 10 تعليقات:

  1. أستاذ احمد
    تبهرنا دائما بما تقتنص وتلتقط

    تحياتي


    رامز رمضان النويصري

    ردحذف
  2. ونحن أيضا يحق لنا أن نفتح أعيننا على كل هذا الألق ...سليل البدو رائع جدا جدا جدا

    ردحذف
  3. شكراً رامز.. شكراً فريحة.. لكما محض الود.

    ردحذف
  4. جميل دائما ما يطرحه عقيلة وبديعة تلك الصور التي اعقبت الصرخة
    لك شكري استاذ احمد
    -
    عبدالقادر العرابي

    ردحذف
  5. عزيزي عبدالقادر العرابي.. أشكرك واجد!!!

    ردحذف
  6. العزيز أحمد
    صرختك تستدعي صراخاتنا .. تختصر مأتم كثيرة وبيت عزاء يتيم ..
    تمتلك المفاجأة وتقف دونها أو بعدها .. لكنها دائماً تعبر عنا وتؤكد وجودنا.. هذه الصرخة عنوان لنا دون كتاب أو طوابع بريد .. صرخة تضيع السعاة في متاهات شوارع مدينتنا ولا تنتظر جواب .. لكنها تبعث رسالة دون عنوان .. وتبقى في إنتظار رد

    وتبقى صرخة تؤكد صوتها دون صدى .


    سهام .

    ردحذف
  7. أشكرك سهام.. آنستي الخروبة.

    ردحذف
  8. عندما اقرا ماتكتب اجد روحي ترفرف في احضان الجبل الاخضر مابين راس الهلال والعقورية

    ردحذف
  9. فريحة صالح يقول...

    ونحن أيضا يحق لنا أن نفتح أعيننا على كل هذا الألق ...سليل البدو رائع جدا جدا جدا

    ردحذف