24 يناير، 2010

البَدْر

1
... قمر الحصيدة يبدو مختلفاً هذه الليلة.. وهو يصعد فوق حافة الوادي.
داخل بؤرة الضوء.. شيء مُعتِم.. مُعلَّق.. كجسدٍ مصلوب.. الكلاب ـ بحسّها الغريزي ـ شعرت بوجود أجواء عدائية.. فأخذت تهرّ.. وهي تدسّ ذيولها بين أرجلها.
أنزل المصلوب يديه.. ضمّهما إلى صدره.. هبط.. انحنى.. تَمَطّى.. ثم شرع يمشي خلال الغابة.. نبحت الكلاب بوحشية.. وهي تحفر الأرض بأرجلها وتتراجع.. جنادب الحقول كفّت عن الإنشاد.
2
... تجمّعوا في طرف القرية.. يترقبون بفضول.. وخوف.. بعضهم اعتلى سطوح المنازل.
ــ إنها تقترب.
ــ أراها بوضوح.
ــ يا للفظاعة.. إنها عارية تماماً.
ــ وشعرها منفوش.
ــ هي هكذا دائماً.
3
... أفسَحوا لها.. الْتصَقوا بالجدران.. تمشي ببطء.. تتلفّت.. تتصفح الوجوه.
ــ لماذا تنظرون إليَّ هكذا؟ لا تقولوا لي بأنكم لم تروا امرأة عارية من قبل.. ملائكة! أنتم هكذا.. لا هَمّ لكم سوى هذا الشيء.. إذا كنتم لا تتضاجعون فأنتم تتحدثون عن المضاجعة.. وحتى في أعراسكم تتجمّعون بدافع الغريزة.. كما يحدث في مجتمع الكلاب.. واحد فقط هو الذي يَعْلَق بالكلبة.. بينما يكتفي الآخرون بالفُرجة وهم مستنفَرون.. تفو.
صالبت ذراعيها فوق نهديها..
ــ جئتُ قبل كل شيء لأتفقّد ممتلكاتي.. الواحد لا يفقد حقه في ممتلكاته لمجرد أنه اقترف خطيئة.. وأية خطيئة؟ علَّقتموني من ثديَيّ من أجل ماذا؟ لأنني مسحتُ عورة طفلي بالخبز؟ أمِن أجل خطيئة صغيرة كهذه أُشنَق في القمر إلى الأبد؟ ولماذا في القمر بالذات؟ ثُمّ إن الأطفال لا عورات لهم.
اقتربتْ من شيخ القبيلة.
ــ أنت يا ذكَر الجران.. أنت كفيل بتضليل الشيطان نفسه! أقسم أنك أنت مَن استولى على بيتي.. وسرق دجاجاتي وأرانبي.. لقد رأيت كل شيء من هناك.. من فوق.. كان الأجدر بهم أن يشنقوك أنت الآخر.. أنا لم أُشنَق لأكفّر عن خطايا الجميع.
قال ساخراً:
ــ أنا ليس لدي ثديان يُعلّقونني بهما.
ــ ليس من الضروري أن يُعلَّق المرء من ثدييه.. لن يعوزهم المكان الذي يُعلّقونك منه!
تعالت قهقهات في الخلف.. تسلل البعض مُبتعدين.
ــ إنكم تُشعِرون المرء بالرغبة في التقيؤ.. تلهثون ليل نهار.. كما يجري قمر المزن.. تجمعون القرش الأبيض لليوم الأسود.. كأن اليوم الأسود لا مفرّ منه.. حتى عُشّاقكم لصوص.. يختلسون النظرات.. يتهامسون.. يرتدون السواد.. يتسللون في أنصاف الليالي.. ويتسوّرون الجدران.
أخذت تمشي دون أن تلتفت إليهم.
ــ أعرفُ أنّ الشآبيب تتحول إلى حقول متموجة من السنابل.. لكنّ غيومكم عندما تهبط تُسرِع إلى البحر.. كأنها تهرب من شيءٍ ما.. لا شيء عندكم يتمّ كما يجب.. خبزكم إمّا أن يكون نيئاً أو محروقاً.. لكنه لا ينضج أبداً.
توقفت.. حكّت شعرها المنفوش.
ــ بالمناسبة.. لازلتم تحتفظون بإحدى عاداتكم القبيحة.. إذا جُرِح أحدكم.. بال له الآخر على جُرحه.. يا لها من حياة.. بَول على جُرح!
بصقت.. أشاحت.. أخذت تخطو مُبتعدة صوب الغابة.. عائدة إلى البدر.. الذي لايزال يتكئ منتظراً فوق حافة الوادي.
... عوى ذئب ثلاث مرات متباعدة.. وخشخشت الأشجار الراجفة في الريح.
(1999)

هناك 4 تعليقات:

  1. سخريتك جارحة في كثير من الأحيان يا بوعقيلة، لكننا لا نملك إلا أن نضحك، ونهاية هذه القصة رائعة:( عوى ذئب ثلاث مرات متباعدة.. وخشخشت الأشجار الراجفة في الريح).
    صالح المبروك.

    ردحذف
  2. شكراً صالح المبروك.. يسعدني أن القصة أعجبتك.

    ردحذف
  3. أعرف هذه الأسطورة ان صحت التسمية منذ كنت صغيرة ، كثيرا ما حكت لنا جدتي عن المرأة المعلقة من ثدييها لأنها ( مسخت النعمة ) ، وفي كثير من المرات كنت أقف في الليالي المقمرة أدقق في صورتها وأحاول تبيان ملامحها ، وفي كل مرة كنت اسرع إلى جدتي ، اسألها متى سينزلونها ، حرام ، فتقول لي ناهرة ( ما ينزلوهاش ، هذا جزاء اللي ما يعرف قيمة النعمة ) كبرت وقد ترسخت في عقلي أن ازدراء النعمة التي هي في الأغلب تعني ( الخبزة ) في تعريفنا الاجتماعي لها ، أمر يستوجب العقاب القاسي لكني ما تصورت يوما أن تلك المرأة المعلقة من ثدييها هنااااااااااااااك في أبعد مدى يمكن أن يصل إليه تفكيرنا ، وسط القمر ، ما تصورت أنها ستنزل في يوم ، لكنك أنزلتها ، فهل تعلم ما الذي فعلته ؟ لقد جعلتها تعري عورات الآخرين ، تدينهم ، تسخر منهم ، تطالبهم بحقها المغصوب ، لكنك في النهاية أرجعتها إلى حيث كانت ، وكأني بك تقول على لسانها: امتلأت الأرض بالخطايا فما عاد لي فيها مكان ،أرجعتها إلى حيث البدر ينتظرها متكئا ، وعواء الذئب يتردد في جنبات الغابة لكن إلى متى سيستمر عواء الذئاب ؟!!

    نعيمة الطاهر

    ردحذف
  4. أشكرك نعيمة الطاهر.. قراءة عميقة.. هذا يعني أن النص مفتوح.. يحتمل عدة قراءات.. وهذا يسعدني كثيراً.

    ردحذف