08 يناير، 2010

فأر المكتبة

إلى الشاعر: مفتاح العمّاري
1
... ما أعبقَ رائحة الكتب.. خاصةً حين تخرج من المطابع لتوّها.. رائحة الورق تُدوِّخ.. الحبر.. الأغلفة الملونة.. حتّى إنّك تقول ـ على الرغم من الجوع ـ حرام أن تُقضَم هذه الكُتُب.. لكن للأسف الأشياء الجميلة هي التي تُغري بالقَضْم.. ما هذه الرائحة الأخرى؟ دعونا نستكشف الأمر.. غريب! قطعة جبن مالحة.. رائحتها تكاد تطغى على رائحة الكُتُب.. مُزيّنة بِحُبيبات سوداء.. يبدو أنّه نوع من البهار.. هل وصل الكرم بالبشر إلى هذا الحد؟ على مدار التاريخ كانت الولائم المبالَغ فيها تبعث على الشكّ.. يعتقدون أنّ الفئران غبيّة إلى هذا الحد.. فيضعون السُّمّ هكذا بكل وضوح فوق الجبنة.. ويضعون جميع الاتفاقيّات وراء ظهورهم.. السُّمّ من أسلحة الدمار الشامل.. هذا هو الإقصاء وإلغاء الآخر.. بل محوه من الوجود.. لن أمسّ هذه القطعة مهما بدت مُغرية.
2
... أنا لا أستطيع مقاومة الكُتُب.. بينما المكتبة بالنسبة للقِطَط السِّمان هي مُجرَّد ديكور.. فلم أسمع في حياتي عن قطِّ واحد يقضم الكُتُب.. علاقته بالكُتُب لا تتعدّى تشمُّمها.. أو الاستلقاء فوقها والتثاؤب بكسل.. على كُل حال.. الليل لا يزال في أوّله.. أنا أموت في كُتُب الأدب.. سأبدأ بالمُقبِّلات.. هناك دواوين شِعْر في أعلى المكتبة.. لا أدري لماذا يضعون الشِّعْر في الأعلى؟ سأبدأ بالشِّعْر الحديث.. فهو أخفّ.. وسهل الهضم.. الشِّعْر العمودي يتطلَّب أن أشرب بعده الكثير من السوائل.. حتّى تتحوَّل بطني إلى برميل يلقلق.. الشكل الهندسي للشِّعر العمودي يستفزّني أحياناً.. فهو منضود ومُرَتَّب أكثر مما ينبغي.. بالمسطرة.. قليل من الفوضى لا يضرّ.. بعض الدواوين خالية من الشِّعْر.. صدِّقوني إذا كان هذا شَعراً ـ حتى إنّه يُطبع في دواوين ـ فبإمكاني بكل سهولة أن أقضم الشِّعر.. أقصد أن أقرض الشِّعر.. عجيب.. أحياناً يكون الواحد شاعراً دون أن يدري! يقولون بأنّ الاختصار شقيق الموهبة.. أَمّا بالنسبة للقصائد الطويلة.. فنعرف أَنَّها وسيلة أولئك الذين لا يستطيعون نظم قصائد قصيرة.. هذا صحيح تماماً.. يقولون أيضاً بأنّ النثر كلام يمشي.. بينما الشِّعر كلام يرقص.. أنا شخصيًّا أقول إنّ بإمكان النثر أن يرقص أيضاً.. هذا يتوقَّف على براعة العازف.
3
... هذه مجموعة قصصية.. غلافها برّاق.. مُزَيَّن بلوحة تشكيليّة.. لنأخذ منها قَضْمة.. تفو.. لا طعم لها.. عبارة عن قصقصة وتقييد أحوال.. اسمه ثلاثياً.. طويل.. أسمر.. نحيف.. أحول.. أعرج.. رقبته معوجّة.. يسكن في الدور الثالث.. هذه تقارير مُخبرين وليست قصصاً.
4
... انتهينا من المقبّلات.. لندخل على الثقيل.. تلك الرواية الضخمة في الأسفل ستكفيني ربّما لعدة أسابيع أو شهور.. يا إلهي ألف صفحة! من خبرتي في القَضْم أُدرك سلفاً أنّ الروايات الضخمة لا تخلو أبداً من عشرات الصفحات الخالية من الطَّعْم.. من الصعب قول هذا.. لكن صدّقوني أو جرِّبوا بأنفسكم.. حتى الكُتّاب العمالقة العِظام يتورّطون في هذا.. كلّما قَضَمْتُ رواية ضخمة يتولَّد لدي سؤال: ما يُمكن أن يُقال في مائة صفحة لماذا يُقال في خمسمائة؟
5
ــ هل انتهيت؟
ــ مَنْ.. القِطّ؟!
ــ في الواقع دخلتُ المكتبة قبلَك.. كنتُ مُستلقياً في الأعلى أستمع إلى خربشتك من أوّل الليل.. أنت في الواقع تحاور نفسك.. هذا ما يُسمّونه الحوار في غياب الآخر.
ــ الآخر! هذا الآخر الذي تتحدّث عنه لا يُمكن حواره إلاّ في غيابه.. الحوار يقتضي الأمان أولاً.
ــ سمعتُ كل الهراء الذي تفوّهت به عن القِطط السِّمان.
ــ لَم يكن ذلك هُراءً.. هل تستطيع أن تقول لي كم كتاباً قضمتَ من هذه المكتبة؟
ــ قضْم الكُتُب لا يعنيني.. مهمتي قَضْم الفئران.
ــ طبعاً.. تعترف أنّك شرِّير.
ــ وهذا أيضاً هُراء.. أنا لستُ شرّيراً.. أنا أؤدّي دوري فقط.
ــ طبعاً.. من السهل قول ذلك.
ــ دعنا من هذه (الطبعاً).. أستطيع أن أقول لك إنّ الفأر هو الذي أوجد القِطّ.. أو لنقل خَلَقَه.. كما خَلَقَ الخروفُ الذئب.. وخَلَقَ الضفدعُ الثعبان.. الثعبان جائع.. والضفدع مسكين.. فما هو الحل في رأيك؟ ستُحدّثني عن القسوة والوحشيّة وإلغاء الآخر وكل هذه الترهات التي تعلمتَها من قَضْم الكُتُب.
ــ هل يعني هذا انّك ستلتهمني هذه الليلة؟
ــ رُبّما الآن.. هل يُساورك الشكّ في ذلك؟
ــ لديّ أُمنية أخيرة.
ــ كل أمانيك مُجابة.. هل ستتلو صلاتك؟
ــ كنتُ أنوي أن أختم وجبتي الليلة بقطعة جبن.. كنوع من التحلية.
ــ لا بأس.. سأنتظر.. لا تعتقد أنني لا أملك قِيَماً.
ــ لكنك مثل الجميع.. لا تتصرّف وفق قِيَمك.. أوووه.. طعم الجبن حرِّيف بعض الشيء.. انتقل الحرقان إلى رقبتي وإلى بطني.
ــ لماذا تستعجل؟ تلذَّذ بأكلها كما يحلو لك.
ــ أوووه.. انتهيت.. انتهيت.. أنا مستعد الآن.. حتى دون أن أربط عينَيّ.. أسرع.. أسرع.
ــ في الواقع لستُ جائعاً!
ــ ماذا؟! إن لَم تنْزل لالتهامي بسرعة فسأصعد إليك.
ــ غريب! كنتَ منذ لحظة تتحدث عن الشِّرّ والقسوة.. هل تغيّرت قناعاتك بعد قطعة الجبن؟
ــ أرجوك.. الرحمة.. انزل.. التهمْني!
ــ الفأر يتوسَّل القطَّ ليأكله.. يبدو أنّ مسار التاريخ يشهد في هذه اللحظة انعطافة حادّة.
ــ أتوسَّل إليك.. لَم أعد أحتمل.
ــ ألَم تقضم شيئاً من الواقعيّة في هذه المكتبة؟ الواقعية السحرية؟ أو حتى الواقعية القذرة؟ لأنّك ترزح تحت شعور بالاضطهاد فأنت تُفكِّر وتتصرَّف بعقليّة انتقاميّة.. لستُ في حاجة لقَضْم الكُتُب لأعرف هذا.. قد أبدو مغفّلاً في نظرك.. لكن ليس إلى درجة أن آكل الفئران المسمومة!
***
(2008)

هناك 14 تعليقًا:

  1. مفتاح امعيزيق العريفي6 أبريل 2009 في 4:06 ص

    قال الشاعر :

    لا يُـقـتـلُ الباغي بمثل فُسوقِهِ

    وبـسُـمّـه لا يـُقـتـلُ الثعبانُ

    ردحذف
  2. فضيل المنفي8 يناير 2010 في 3:11 م

    بالفعل قد استمتعت بطلاوة لغتك، وبالفعل أنه صراع من أجل لقمة العيش، هذه اللقمة التي كانت سبب في ظهور الحزن بين شقوق وجوهنا.
    مع كامل المودة والتقدير .. والإنتاج الذي ترضى عنه.

    فضيل المنفي
    المملكة المتحدة
    درم

    ردحذف
  3. شكراً يا فضيل.. يسعدني أن تقرأني على الرغم من بُعد المسافة.

    ردحذف
  4. زهران القاسمي8 يناير 2010 في 6:18 م

    أحمد لكم نحتاج إلى فئران لكي تقرض كتبا كثيرة في مكتباتنا أقصد تقضم ، تعجبني هذه اللغة السلسة والغير متكلفة في قصصك ، أنت تقود القاريء بكل بساطة للنهاية، محبة كبيرة

    ردحذف
  5. أشكرك يا عزيزي زهران.. آنستني.

    ردحذف
  6. أشكرك يا خالي مفتاح العريفي.

    ردحذف
  7. كم هي لذيذة هذه الوجبة من الكلمات .. خالية الدسم ولكنها مغذية إلى درجة الاشباع .. أنا في انتظار المزيد .

    علاء الكزة

    ردحذف
  8. لأستاذ / أحمد يوسف عقيلة

    نعم بإمكان النثر أن يرقص أيضاً.. والدليل على ذلك هذا النص الرائع .

    تهنئة خاصة بمناسبة حصولك على الجائزة التي تتشرف بك ومزيداً من الإبداع .

    عبدالحفيظ أبوغرارة

    ردحذف
  9. الصديق علاء الكزة.. ابن العم عبدالحفيظ بوغرارة.. أشكركما .. أشرقتما في سماء الخروبة.

    ردحذف
  10. استاذ احمد ماذا سيحدث لو لم تجد الفئران كتباً لتاكلها, هل ستأكل الجبن المسمم ام تاكل القطط السمان.
    جمال المغربي

    ردحذف
  11. لفت انتباهي قول الأستاذ احمد عقيلة في رده على فضيل المنفي من المملكة المتحدة : يسعدني أن تقرأني ، وهو تعبير دقيق وشفاف إلى أبعد مدى ، فمن تقع بين يديه واحدة من قصص أحمد عقيلة أكيد سيكون سعيدا إن تمكن من قراءته وليس القراءة له ، نحن نقرأ لشخص ما عندما لا تربطنا بما يكتب أواصر من من رؤى مشتركة ،أو منظور واحد للأشياء وفهم متعمق لكثير من المفاهيم... لكنني على الصعيد الشخصي وعندما أغوص بين حروف واحدة من قصص إبن عقيلة أجدني أبحر داخل نفسه ، أتجول في دهاليز عقله التي دائما ما تؤدي بي إلى كوة من الضوء ، اتعمق في معاني كلماته ، ابحث عن شخوص قصصه ، أرى فأر المكتبة وهو يتنقل من دفة كتاب إلى صفحات آخر وألمح تلك النظرة الباردة القاسية التي ارتسمت في عيني القط وهو يعلن للفأر رفض التهامه له كونه قد صار مسموما بعد تناوله لقطعة الجبن اللاذعة الطعم ...
    برغم يقيني ان الأستاذ أحمد لا يميل إلى الإطالة وعنده أن الاختصار مطلوب في كل شيء إلا أنني في نهاية هذا التعليق الطويل أريد أن أقول : من يتمكن من قراءة أحمد عقيلة بالتأكيد هو من المحظوظين والأثيرين لدى كاتبنا المتفرد بانتاجه غير المسبوق ، وهذه واحدة من ثمار الخروبة دعوني التهمها وأحث الخطى للبحث عن أخرى .
    نعيمة الطاهر

    ردحذف
  12. شكراً جمال المغربي.. لا أعرف إجابةً لسؤالك.

    ردحذف
  13. أشكرك نعيمة الطاهر.. أنا بالفعل في حاجة إلى من يقرأني..

    ردحذف
  14. فضيل المنفي يقول...

    بالفعل قد استمتعت بطلاوة لغتك، وبالفعل أنه صراع من أجل لقمة العيش، هذه اللقمة التي كانت سبب في ظهور الحزن بين شقوق وجوهنا.
    مع كامل المودة والتقدير .. والإنتاج الذي ترضى عنه.

    ردحذف