09 فبراير، 2009

نِصْفُ قِرْش

1
... مِن أجل كَسْر رهبة اليوم الأوَّل في المدرسة تدسّ أُمُّه في جيبه نصفَ قرشٍ أصفرَ لامعاً مُدَوَّراً.. تضمّه.. تطبع على رقبته قُبلة صاخِبة.. تطبطب على الجيب.
2
... يحمل حقيبته مُتوجِّهاً إلى المدرسة في طرف القرية.. تقوده أُمُّه.. يتحسَّس في جيبه نصف القرش.. يتتبَّع نقوشه بإبْهامه.
يرى رفاقه على الطريق.. يَنْزع يده من يد أُمّه بعصبيّة.. ويمضى دون أن يلتفت إلى الخلف.
3
... ينقل نصف القرش إلى الجيب العلوي.. بالقرب من القلب.. يحثّ خُطاه إلى رفاقه الْمُنتظِرِين.. يَمرّ من تحت الخرُّوبة.. يخشخش القَشّ.. تُقرمش الأوراق الصفراء تحت حذائه الجديد.. يتعَثَّر.. يسقط.. يسقط نصف القرش.. وبنظرة أُفقيّة يبدو القَشُّ أشبه بغابة.
يقف.. ينْحنِي.. يتفَحَّص.. يستنجد بالرِّفاق.. يُمشّطون القَشّ.. يزيحون الأوراق.. يدقّ جرس المدرسة.. يُسرع مع رفاقه بنَفْسٍ مشطورة بين رَهْبة المدرسة وحَسْرة ضياع نصف القرش.. ودمعة على حافّة السقوط.
4
... (ألف.. باء.. تاء).. العينان على السبُّورة.. اليد تتحسَّس خواء الجيب.. (ألف.. باء.. تاء).. يمضى دهر بأكمله قبل أن يدقَّ جرس نهاية اليوم الدراسي.
يُسرع إلى الخرُّوبة.. يحرث التراب بأظافره الدامية.. يُصَعِّد نظرة توسُّل مع الساق الْخَشِنة.. يرأى الأوراق الصفراء تتساقط متأرجِحة.. يتَمَلّكه الغضب.. فيبدو أنَّ الخرُّوبة تفعل ذلك عن قصد لتُخفي اصفرار نصف القرش.
يقترب من البيت.. يرى أُمَّه تنتظره على العتبة.. يُحسّ بثقل الحقيبة.. يلتفت إلى الأشجار الْمُتناثرة.. يبدو له أنَّ كُلَّ شجرة خَرُّوب تُخفي تحتها نصفَ قرش ضائعاً.
5
... تقوده خُطاه إلى أبعد من المدرسة.. تنتفخ جيوبه.. وحِساباته.. يتعامل مع الكثير من الأنصاف.. أنصاف حلول.. أنصاف حقائق.. أنصاف رِجال.. يتَحَسَّس كثيراً من الأنصاف المصقولة المدوَّرة.. يتعثَّر مِراراً.. وتسقط أشياء لَم يعُد يذكرها.
6
... حين يعود ذات يوم إلى قريته.. يَمرّ من أمام الخرُّوبة الْهَرِمة..يُوقِف سيّارته.. يقترب.. يُخَشخش القَشّ.. تتكسَّر الأوراق الصفراء تحت حذائه اللامع.. يَنْحَنِي مُمَسِّداً بأَطراف أصابعه رؤوس القَشّ.
***
(2006)

هناك 11 تعليقًا:

  1. السلام عليكم..الجبل الأخضر وارف بالخروب والشماري والشيح والخصوصيات اللامحدودة.. وفوق ذلك كله الجهاد… فالحمد لله الذي مازال ذلك الجبل يُنجب من يحمل تلك الخصوصيات… تحياتي..
    إبراهيم بوالفحلة.

    ردحذف
  2. فاجأتني مدونتك ..! أليس من الجميل أن نرى مدونة تمتليء بروحك البدوية الجميلة ؟

    أحييك .. و ننتظر منك الكثير .. و الجميل أيضاً .

    عبدالله عبدالله

    ردحذف
  3. لم أتفاجأ بهذه المدونة .. فقد عودتنا يا أحمد على المثابرة والتميز …

    مزيداً من التألق ..مع وافر محبتي .. جمعة عبدالعليم

    ردحذف
  4. عندما سمعت عن مدونة الخروبة لأول مرة قلت في نفسي : ما يديرها إلا أحمد يوسف عقيلة .. فهو المتهم بعلاقاته مع الخروب وكل الأشجار .. وبعد إجراء التحري وجدناه متلبساً بزراعة خروبة كبيرة كل ورقة فيها تحمل قصة وكل جذر فيها هو قاص من بلادنا الحبيبة.
    عبدالرحمن جماعة.

    ردحذف
  5. أن تنتج الخروبة ثمر الخروب . هذا شيء عادي رغم حلاوة مذاقه . ولكن أن تثمر حكايا لها مذاق الخروّب فهو سحر لا يتأتـّى إلاّ لساحر مثلك يستنطق الأشجار والأحجار والسفوح والوديان فترسل كل منها معزوفة من الحكايا تطرب لها الأسماع والقلوب . دمت يا أحمد فخراً لنا وللوطن . عبد السلام الحجازي .
    عبدالسلام الحجازي

    ردحذف
  6. العزيز أحمد ابن الخروب..
    ما دامت درتها كمل واللي ايدير ثوب ما يقطع كمه : صور لنا الخروبة صغيرة وكبيرة ، ثمارها طازجة ثم تصبح رب الخروب ، صور لنا حياتها وحياتكم معها ، هل لها جذور في التراث الشعبي عندكم كما لها جذور عميقة في الجبل الأخضر , هل هناك قصة عن الخروبة او ذكرت فيها الخروبة او لغيرك ، ولو بحث عن مزايا الخروب لا بأس.

    اتعب من اجلنا قليلا نحب محبي الخروبة شجرة وقصة … جمعية حماية شجرة الخروبة كانت من أحلامي مع الصحابي غير الجليل ، ولكن أرضنا كما نحن مبددة الاحلام.
    أحمد الفيتوري.

    ردحذف
  7. الحذاء الجديد والقرش اللامع الجديد والعام الدراسي الجديد ... كل شيء جديد في طفولة أحمد يوسف ..وهذا ما يذكرني بقوله :الحياة بالنسبة لي دهشة دائمة .

    ردحذف
  8. جلت جولـتي صــوب لحلام ... و جبّرتن و اكسرنّي
    و جلت جولـتي بين ليّـام ... و عاركتّن و اهزمنّي
    و جلت جولني شور لوهام ... استنطقتّن و اعرفنّي

    فعلا .. الرجل الحقيقي ليس الا طفل كبير .. شكرا للطفل الكبير احمد يوسف .

    ردحذف
  9. جلت جولـتي صــوب لحلام ... و جبّرتن واكسرنّي
    وجلت جولـتي بين ليّـام ... و عاركتّن واهزمنّي
    وجلت جولني شور لوهام ... استنطقتّن واعرفنّي.
    شكراً للشاعر المبدع الرويعي الفاخري.. أبياته لخّصت القصة.

    ردحذف
  10. أنت تخز الطفولة النائمة في الأعماق وخزاً..وذلك حين يقف على الخروبة الهرمة..على أننا ليس كذلك فحسب بل ونتغزّل في طفولتنا على الرغم مما بها من الشقاوة أحياناً..تحياتي..أبراهيم بولفحلة.

    ردحذف
  11. شكراً للعزيز إبراهيم سعد بوالفحلة على البُعد.. (البعد هو بعد النيّة).. يسعدني أنّ القصة أعجبتك.

    ردحذف