05 سبتمبر، 2009

الْحِرْباء

( إلى أمّ العِزّ إبراهيم سعد)
1
... ولَّى زمنُ الولائم.. منذ شهرٍ بالهلال وأنا في هذا السفح المُجدِب.. لا شيء سوى (بوبرَيص) هزيل رَخُو الأسبوع الفائت.. في الوقت الذي يزدحم فيه السفح المقابل بالجنادب الصادحة.. لماذا الأشياء الحلوة دائماً على الضفة الأخرى؟ (بورقَيْص) يحتلُّ السماء.. البومة تتربَّع فوق السد الحجري.. الأفاعي تتمدَّد تحت حوافّ الصخور المُشْرِفة على مجرى الوادي.. والثعابين الخُضْر تترصَّد وسط الزرع.. لكنني سأعبر رغم كل شيء.. ذلك الجندب الصادح يستحق المخاطرة.. مَن يملك رصيداً من الألوان.. وعينين تنظران في جميع الاتجاهات في نفس اللحظة.. فهو لا يملك حياةً واحدة.
2
... ليس هناك ما هو أسهل من التنقل فوق الأشجار.. فأنا أملك اللون الأخضر بامتياز.. بل أملك عدَّة درجاتٍ من هذا اللون.. بما يناسب البلُّوط والخَرُّوب والبَطُّوم والشمَاري.. وحتى شجيرات الدِّرْياس.. ولكن هذه شجرة قَنْدول مُزهِرة.. القَنْدول المُزهِر مُحيِّر قليلاً.. سأصبغ الظهر والرأس بالأصفر الفاقع.. وأترك البطن والأطراف بالأخضر الداكن.. ولكن كيف يُمكنني عبور حقل الصلَيْعَا؟ مِن أين لي بالأحمر الفاقع؟ لن أعبر هذا الحقل الدموي.. سأُضطرُّ إلى الالتفاف.
3
... ليتني أستطيع القفز إلى تلك الضفة.. سيكون هذا من باب (حَرْق المراحل).. لماذا تموت كل الأشياء إلاّ المسافات؟ انتظروا.. ماذا لو عبرتُ فوق هذه السلحفاة؟ لدي اللون المناسب لهذه القَصْعة.. اللعنة.. السلاحف تجعل المسافات تتناسل.. سأصل العام القادم.
4
... يبدو قويًّا هذا الجندب الشاعر.. لا يكفُّ عن الإنشاد لحظةً واحدة.. يُعذِّبني بغنائه! أنا لا أعرف من أين يحصل الشعراء على قُوتِهم.. الواحد منهم يتسلَّق غصناً.. أو يجلس فوق صخرةٍ تحت الظل.. أو حتى تحت المطر.. يتأوَّه.. يفتح ذراعيه على اتِّساعهما.. ويشرع في الإنشاد وكأنه حاز العالم بأسره.. إذا حلَّت عليك العَشيّات الشتائية.. التي تتنفَّس برداً لاسعاً ينخر العظام.. وأنت بلا عَشاء فدع القصيدةَ تنفعك.. أو اذهب إلى النملة مرتعشاً مقروراً.. متسوِّلاً.. لتطردك كعادتها ساخرة: (في وَان الحصيدة تشغلك القصيدة).. ألا تعلم أنَّ النملة تجمع القَشَّ حتى على ضوء القمر؟!
5
... أخيراً وصلتُ إلى الصخرة.. دعونا نُعاين المكانَ أولاً: صخرة رمادية.. كامدة.. مُبقَّعة بالأسود.. بالإضافة إلى ترسُّبات الكِلْس الأبيض الذي يشوبه الأصفر.. وهناك بعض النمش الأحمر.. يا إلهي لماذا تُرِيْقُ كلَّ هذه الألوان في طريقي؟ هل عليَّ أن أُغيِّر لونَ جلدي في كلِّ خطوة؟ لا بأس.. جنادب السفح المقابل تستأهل العناء.. هل أسمعُ أحداً يَعِيْبُ كثرةَ التلوُّن؟
6
... لماذا يَعْبر هذا (البورقَيْص) من فوقي مباشرة؟ هاهو يرفرف صارخاً كعادته.. أنا أعرفه جيداً.. سيظل ساكناً في السماء.. أيُّ حركة ستكون مرصودة.. حتى ظِلال الظهيرة تقلَّصت.. انزوت في الأسافل.. أُحسُّ بأَكَلانٍ في مُؤخِّر رأسي.. أيُّ عالمٍ هذا الذي نعيش فيه.. الواحد لا يستطيع حتى أن يحكَّ رأسه.. سأصل إليكَ أيها الجُندب الشاعر.. سأصل إليكَ أيها البوزنِّين ولو تلوَّنتُ بألف لون.. كم أحسد الشعراء.. فهم يواصلون الغناء رغم كلِّ شيء.. يا لَسوء الطالع.. ها أنا عالقة.. عينٌ في السماء.. إلى بورقَيْص الذي يسكن فوق الريح.. فهو يمتلك سُلطة الأجنحة.. وعينٌ في الأرض حيث الأفعى تتثنَّى في الظلّ.. تحت طبقة التراب البارد.. فهي تمتلك سُلطة السُّمّ.. الهداهد تتمتَّع بالألوان للزينة.. أو للإغواء.. أمّا أنا فإنني مُدجَّجة بالألوان للتخفِّي.. انظروا كيف تغدو الألوان نوعاً من السُّلطة.. الحجر تحت أقدامي يلذع.. هذه الظهيرة يبدو أنها لن تنتهي أبداً.. حتى الزمن قد ينتصب كُتلةً متجسِّدة تجتاحُك رغبةٌ مُلحَّة في زحزحتها.. مثل هذه الصخرة اللاذعة التي تسدّ مجرى السيل.. لم أعد أُدْرِكُ إن كانت هذه الصخرة مكاناً أو زماناً.. اسمعوا.. اسمعوا كيف تتجاوب الغابة بغناء جنادب الظهيرة!
***
(2002)

هناك تعليقان (2):

  1. الوان للزينة والإغواء وأخرى للتخفي ...
    يستفزني أسلوبك في السرد والوصف ، وتحثني تفاصيلك الصغيرة للجري وراء إدراك الخاتمة ... أصلها بعد أن أكون قد تركت ذاتي هناك ... تحت تجويف تحتله صخرة أو تحت جناحي طائر يحلق في سماء وادي الكوف ...  
    دمت مبدعا يحفر اسمه فوق جدران الذاكرة ويرسمه وردة يانعة في شغاف القلوب .

    ن. ط

    ردحذف