احتفاء بقصص أحمد يوسف عقيلة
(قراءة في مجموعة "غناء الصراصير")
د . محمد محمد المفتي
لست بالناقد الأدبي.. بل أعترف أنني لست حتى بالقارئ المثابر للروايات والقصص التي كثيراً ما أهجرها قبل أن أكملها.. لملل لا أعرف مصدره.. ولهذا اخترت كلمة (احتفاء) في العنوان حتى لا يظن القارئ أنني بصدد عرض نقد تفكيكي أو سيميائي .. لمجموعة (غناء الصراصير) للقاص (أحمد يوسف عقيلة).
على أية حال بعث لي المؤلف بنسخ من أعماله الأخيرة.. هدية منه.. ولم الْتقه بعد! وقرأت المجموعة إبّان رحلة على الخطوط الجوية.. التي بالمناسبة.. بدأت تضع نُسَخاً من المجلات الليبية.. ومنها مجلة المؤتمر.. في حافظات ظهر الكراسي.
لغة الصك المصدق
شدتني في هذه المجموعة لغة المؤلف الطازجة والجديدة.. أسلوب متقشف/مقتضب/رشيق.. لا أجد وصفاً دقيقاً.. لكنه أقرب إلى لغة العلم الوصفية.. وإلى أسلوب الكتابات العلمية في عصر النهضة العربية الإسلامية قبل قرون.. أسلوب خالٍ من المحسنات العتيقة.. وهو أسلوب لم يحفل به لا الأدباء المعاصرون المأسورون بتراث كتـّاب الرسائل في دواوين الدولة الإسلامية.. كما لم يحفل به واضعو مناهج النصوص المدرسية.. ولو أردت وصف أسلوب (أحمد يوسف عقيلة) بدقة أكبر لقلت إنه أسلوب على درجة لافتة للاقتصاد.. أقرب إلى تقارير المصارف.. دونما استطرادات أو حشو.. وحتى لا يزعل الأدباء.. دعني أُذَكِّرهم بأن الشاعر الإنجليزي/الأميركي.. شاعر القرن العشرين (ت.س.إليوت) كان موظفاً في مصرف!
فالعجوز رابحة: (بلباسها المعتاد.. رداء أحمر.. تُقَطِّعه خطوط صفراء متصالبة.. شال أحمر داكن.. جورب مُخَطَّط .. حذاء مطاطي أسود.. وشم غابر.. وتكليلة)(ص34). والخَرّاز (الإسكافي): (ألفت يده المطرقة..ألفت ركبتاه الانثناء.. اعتاد ظهره على الانحناء.. ولم يعد أنفه ينكر رائحة الحذاء)(ص41). صور فوتوغرافية.. موحية.. دونما تصنُّع.. ودونما لغو.
صور متموجة
لكن صور (أحمد يوسف عقيلة) لا تبقي ساكنة.. بل تكتسب حركة سينمائية.. بل وبخياليةِ ديزني: (خرجت الصرخة.. صعدت.. تلوّت.. انداحت عبر شوارع قريتنا.. تنزلق فوق الجدران المتقشرة.. من تحت زوايا السقوف.. تقتحم الأبواب والنوافذ.. تتسرب من خلال الشقوق.. صرخ الجنين الذي كان متعسر الولادة..)(ص42).
أم أنه أنطقَ ـ في هذه الفقرة ـ لوحةَ (الصرخة) الشهيرة للفنان الانطباعي (إدموند مونخ)؟ ولكنها هذه المرة رُسِمت بحروف.. في قرية (عمر المختار)!
من خلال لغته البسيطة.. وإيقاعه السهل تحفل قصص (أحمد يوسف عقيلة) بالرمزية التي تماس السريالية.. لكنه يبقي سلساً مباشراً.. أقدامه دائماً على الأرض.. ليصف لنا أرضاً يراها كل صباح ومساء.. حيث يُقيم عند ذروة الجبل الأخضر.. وحيث تنحدر السفوح والوديان شمالاً نحو الغابة.. غابات البطوم والشعرا (العرعار) والشماري والسرو.. وجنوباً إلى منطقة (الجِشّة) شبه العارية إلا من نباتات الشيح والزعتر الخفيضة اللصيقة بالتراب.. وحيث تتدفق مياه السيول في الشتاء لتكوّن بحيرات ضحلة واسعة.. تسمّى (البلَط).. على مشارف الصحراء.. مرايا صقيلة وطرية.
ولأن الأرض لا تبقي في الذاكرة إلا بما يدور فوقها من حياة.. يتحفنا الكاتب بفقرات مثل: (..الدخان يترك ذيلاً أسود يسبح في المدى.. الأصوات المختلطة تبعث على الألفة والدفء.. التحايا الصباحية.. رغاء الإبل.. ثغاء الماعز.. وضحكات الأطفال وهم يطاردون الجديان في المراح)(ص51).
الرعب المتوجس
هذه الصور الرومانسية آخذة في التلاشي.. حتى في مكان مثل الجبل الأخضر.. الذي رغم غطائه النباتي الكثيف من أشجار البطوم والشّعَرا والسرو.. استسلم لزحف الحياة العصرية.. من شبكة الطرق العنكبوتية ومباني خرسانية وصحون استقبال الأقمار الصناعية.. ناهيك عن شكاير النايلون العالقة في أشواك الشجر قرب كل قرية.. لتلمع عن بعد كما طيور بيضاء دون حراك.. لكن الأنكى هو نقص مياه الشرب وتسرب مياه المجاري.. وهى أمور لا علاقة للأدب بها.. بل تهم المخططين وخبراء البيئة.. لكنها وليدة التكاثر السكاني المنفلت الذي لم يبدأ العرب بعد حتى التفكير في ضبطه.. وإنما أذكرها لأنها المواضيع الأكثر إلحاحاً على ذهني.. وإذا استمرت فلن يجد أدباء المستقبل ما يكتبون عنه سوى الجوع والعطش والفوضى!
ولكن يا ترى.. هل مثل هذه الهواجس.. تفسر لنا إحساس (أحمد يوسف عقيلة) المتكرر بخطر غامض مداهم؟ أم أنّ عقله الباطن يُعيد صياغة مخاوف الإنسان من المداعبات المرعبة التي ترمينا بها الحياة والطبيعة بين الحين والآخر؟
القطة.. ذات العواطف البشرية.. تضطر إلى الخروج بحثاً عن طعام لتجد ما ترضع به قطيطاتها.. لكنها تجد عند عودتها أن (..لا شيء سوى نُتَفٍ من الوَبَر.. وبُقَع من الدم!) (ص29).. لكن المفاجأة المرعبة كانت من حظ الراعي الذي اجتث ترفاسة وأشعل ناراً: (.. يستمتع بطقطقة الأعواد اليابسة.. وتلذذ اللهب بالتهامها.. توهج الجمر.. أخرج الترفاسة.. وضعها فوق سرير الجمر.. وجثا بقربها.. نضح عرقها.. فاح عطرها.. تشققت.. برز رأس ناعم.. انطلق الرأس الناعم يسحب خلفه الجسد الأملس المتلوّي.. انتبه.. ينظر بذهول إلى شظايا الترفاسة.. والى الأفعى وهي تبتعد منزلقة بين صخور..) (ص50).
مَخضُ اللغة
لغة (أحمد يوسف عقيلة) لغة طازجة.. متحررة من الإنشاء.. والى حد كبير حتى من واو العطف.. فعباراته صُوَر مستقلة متلاحقة.. بل إنه لا يتحرج من مفاجأتنا بنحت جديد للكلمات.. مثل الأصباح (جمع صباح).. والأشفاق.. والقطيطات والعصيفرات.. ولِمَ لا.. فنحن بحاجة إلى توسيع معجمنا ما أمكن..
ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يستعمل الكلمات العامية: (تِسْبت العجين/تمخض القربة أوالحليب/الجَلّة"روث الغنم الجاف الذي يستعمله البدو لإيقاد النار"/تْحِتّ "تنثر"/الصهد "الوهج"/يشخب "ينبعث بقوة للسائل كالحليب والدم"/المراح "باحة الغنم"/يفَلّي "يلتقط القمل/الشمس حجّت "غربت"/العصيدة/طيور النيسي..) وهكذا.. ولا يسعني إلا أن أهنئه على حرصه على التواصل مع قرائه.. بقدر حرصه ألا يؤذي عيونهم بتراكيب متحجرة.
مجهر العوكلي
لكن مجموعة قصص (غناء الصراصير) مهمة أيضاً لسبب آخر.. وهي مقدمة المجموعة للشاعر (سالم العوكلي) الذي أراه شاعراً وناقداً متميزاً واستثنائياً على الساحة الأدبية الليبية.. وقد التقط (العوكلي) في ست صفحات.. خصائص عطاء (أحمد يوسف عقيلة) ولغته الجديدة.. فيشير إلى إيغال الكاتب في التفاصيل.. وتشابك ذاته مع البيئة.. وهيامه اللامحدود بالحَكايا.. وذاكرته الشعبية.. واتصاله بالأرض.. وحضور الحيوانات كلازمة درامية.. وسخريته.. وأنّ علينا ألا ننتظر الموعظة في نهايات قصصه.. بل علينا أن نفتش عن أنفسنا في ثنايا ايحائياته. ويشدد (العوكلي) على الدلالة الهامة لهذه المجموعة القصصية عندما يستشهد بعبارة الروائي الأميركي وليم فولكنر الذي قال: (لقد أصبحتُ كاتباً عندما اكتشفت أنني أستطيع أن أكتب عن قريتي)!
فهل لي أن أذهب إلى أبعد من ذلك؟ لقد عثر (أحمد يوسف عقيلة) على إحدى المعادلات الصعبة.. ألا وهي كيفية التعامل مع تراثنا الشعبي دون إسفاف أوسذاجة سردية رتيبة.. ورغم بعض المآخذ.. إلا أنّ قصصه ترنو من مستوى جديد قريب مما نراه لدى قصّاصي العالم اليوم.
وأخيراً.. تبقى هذه المجموعة القصصية رائعة واختراقاً للمألوف.. وعسى أن يقرأ هذه المجموعة كل مهتم بالأدب لدينا.. ولعلها تفتح حوارات نحن بحاجة لها.. لأنها كُتِبت بعصا راعي يقلب بها الثّرى (التراب الرطب الفَوّاح برائحة المطر في أول الشتاء).. ويراقب أحداثاً تحت مستوى القدمين.. وهي نقلة هائلة في بيئة أدبية كثيراً ما تخدع نفسها بالتطلع إلى السماء والنجوم.
***