31 مارس، 2010

أثناء المطر

لأَنَّ..
الطفلَ سؤال..
لا يكفّ عن السؤال
"فرج أبوشينة"
( أ )
... البَرق يشطر الليل.. الرعد يقص الكهرباء.. المطر يصفع زجاج النافذة.. القطة الصفراء تتكور قرب الكانون.. تتثاءب أحياناً.
الأُم تطرّز جورباً.. تَمد ساقيها.. رؤوس أصابع قدميها تكاد تلامس حافة الكانون.
الطفل ينبطح على بطنه فوق النطع.. مُسنِداً وجهه براحتَيه.. يثنِي رجليه إلى الأعلى.. يؤرجحهما إلى اليمين وإلى اليسار.. يتأمل لهب الفنار.. يقضم الكعك.. ويطرح الأسئلة:
ــ أُمّي؟
ــ نعم.
ــ متَى يتوقف المطر؟
ــ حين تذوب الغَيمة.
ــ ومتَى تذوب الغَيمة؟
ــ ربّما بعد ساعة.. هذا يتوقّف على حجم الغيمة.
ــ من أين يأتي الغَيم؟
ــ من البحر.
ــ لا أُصدّق ذلك.
ــ الشمس تسخِّن البحر.. فيتصاعد البخار.. ثم يبرد.. تسوقه الريح.. وحين تعجز عن دفعه يسقط.
ــ لماذا هذه الدورة الطويلة؟
ــ هكذا شاء الله.
ــ لماذا لا يمطر الله بلا غَيم؟
ــ ... ... ...
( س )
ــ أُمي؟
ــ نعم.
ــ لماذا بيت جيراننا بخمس غرف.. بينما بيتنا بغرفة واحدة؟
ــ هذه هي الدنيا.. هناك أغنياء وهناك فقراء.
ــ لماذا؟
ــ هكذا اقتضت حِكمة الله.
ــ وما الحِكمة في أن يكون بيتنا بغرفة واحدة؟
ــ ... ... ...
( ئ )
ــ أمّي؟
ــ ماذا أيضاً؟
ــ متَى يأتي أبي؟
ــ حين تنتهي الحرب.
ــ ومتَى تنتهي الحرب؟
ــ لا أحد يعرف.
ــ هل الفقراء فقط هم الذين يدافعون عن الوطن؟
ــ غالباً.
( ل )
ــ أُمِّي؟
ــ ماذا هذه المرّة؟
ــ لماذا يضعون الأموات في حفرة؟
ــ إكراماً لهم.
ــ وما الكرامة في وضع الناس في حفرة وإغراقهم بالتراب؟
ــ الأموات يذهبون إلى السماء.
ــ كيف يذهبون إلى السماء عن طريق حفرة في الأرض؟
ــ ... ... ...
ــ هل سأموت أيضاً؟
ــ ... ... ...
ــ لماذا نُولَد إذا كنا سنموت؟
ــ ... ... ...
ــ أين الله؟
ــ ... ... ...
ــ لماذا الحرب؟
ــ ... ... ...
ــ ما هو الوطن؟
ــ ... ... ...
ــ طيّب.. سأسأل أبي حين يعود.
( ة )
... المطر يصفع زجاج النافذة.. القطة الصفراء تتكور قرب الكانون.. الأُم تغرق نفسها في تفاصيل الجورب.. الطفل يغفو فوق النطع.. متوسّداً ذراعه.. يتحدث أثناء نومه: (متَى تنتهي الحرب؟ لا أريد أن يذهب أبي إلى السماء).. ينعكس على وجهه ضوء الفنار الخافت.. في رأسه الصغير الكثير من الأسئلة العالقة.. وفي يده كعكة مقضومة.
***
(2008)

28 مارس، 2010

الْجُبَّة

... ينتظرُ حتى خروج آخر المصلِّين بعد العِشاء.. فيُقفِل المسجد.
نسي وهو يصلي بهم العِشاء وسَلَّم مِن ركعتين.. بل في الجمعة الماضية أمر بإقامة الصلاة بعد الخطبة الأولى.
يتمشَّى في الغابة المجاورة.. يطقطق السّبْحة بحكم العادة.
ــ رحم الله أبي.. كان يُصِرُّ دائماً على أن أُصبح إماماً.. (إذا فاتتنا المشيخة.. فلا يجب أن تفوتنا الإمامة) هكذا كان يردِّد.. وكأنه لم يعد ينقصنا سوى الأئمة!
يتنهَّد بعمق..
ــ كم أودُّ أن أمرح.. أرقص.. أغنِّي بملء حنجرتي.. يا إلهي تجتاحني رغبة في الصراخ.. هم يفعلون كلَّ شيء.. وأنا يُحرَّم علي أيُّ شيء.. لم أتجاوز الثلاثين.. لكنني لا أستطيع أن أرفع وجهي.. النظرة سهم من سِهام إبليس.. أليس هذا ما أُردِّده في خُطَبي؟ يبدو أنَّ إبليس يمتلك جُعبةً من السهام.
يعوي ذئب.. فتجاوبه باقي الذئاب..
ــ سئمتُ الحديث عن المحرَّمات.. والمكروهات.. وما يجوز.. وما لا يجوز.. أحتاج هذه الليلة إثماً لأتذوَّق الإنسان*.
يتابع السير..
ــ إنهم يجعلونك إماماً لمجرَّد أنك تطلِق لحيتك.. وتكَوِّر فوق رأسك عمامة.. لو كان الأمر مُتوقِّفاً على ذلك حقًّا.. لكان تَيس الحاجّ عطِيّة أجدر منِّي بذلك.. صحيح أنَّ لحية التيس بيضاء.. لكنَّ هذا يبدو أكثر مَهابة!
يتوقَّف.. ينحني.. يضع رأسه بين كفّيه.. ثم ينتصب.. يمدّ قامته.. ينزع العِمَامة.. يُديرُها فوق إصبعه.. يُطوِّح بها إلى الأعلى.. إلى السماء المشطورة بدرب التَبّان.
يخلع الجُبَّة.. يُكوِّرها.. يُلحقها للعِمَامة.. يتابع تموُّجاتها حتى تهمد على الأرض.. يُدير المسبحة بين كفَّيه.. يقطع الخيط.. يستلُّه.. يقذف بالحبّات.. حبَّةً حبَّة.
يتنفس بعمق.. يملأ رئتيه من هواء الليل البارد.. ويتوارى في الغابة...
... منذ ذلك الحين.. وأهلُ قريتنا يتحدّثون عن الرجل العاري.. الذي يظهر كل ليلةٍ في الغابة المجاورة...
(1996)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* (أحتاجُ هذه الليلةَ إثماً لأتذوَّق الإنسان): من ديوان (سرير على حافة المأتم) للشاعر سالم العوكلي.

25 مارس، 2010

الكِلاب

من كتاب: حكايات ضفدزاد لأحمد يوسف عقيلة

يقولون يا مولاي.. بأنك إذا قلتَ للكلب (يا كلب).. لم تزده شيئاً ولم تنقصه.. وحتى إذا قلتَ له (يا ابن الكلب).. أو(يا ابن ستين كلب).. فإنَّ ذلك لا يُعَدُّ إهانة.. لسببٍ بسيط يا مولاي.. هو أنَّ الكلب غير قابل للإهانة أصلاً!
لكن.. سَيبْنا من هذا.. واسمع هذه الحكاية..
بلغني يا مولاي.. أنه كان هناك ملِك يجلس في شُرفة قصره.. المُتربِّع فوق منطقة جبلية.. ويُطلُّ على آفاقٍ مُعشِبة.
حدث ذات مساء.. أنَّ كلباً مسعوراً قفز إلى حديقة القصر.. أثارَ الرعبَ.. والهلَعَ.. يهِرُّ.. يُطقطق بأنيابه.. اللعاب يتدفَّق خيوطاً من زوايا فمه.. يعَضُّ كل شيءٍ يأتي في طريقه.. الأعشاب.. جذوع الأشجار.. وحوافّ الجدران.
تدافع الحَرَس.. تقافزوا فوق السور.. وأغلقوا باب القصر.. لكنَّ أحد الحُرَّاس تأخَّر قليلاً.. فحاصره الكلب في إحدى الزوايا.. كشَّر عن أنيابه.. ووثب فوق الحارس وعضَّه.
أطلق صرخةً راعِبة .
صعدت الصرخة.. انزلقت مِن فوق شرُفات القصر.. وانداحت في الآفاق المُعشِبة.
وسكن الحارس...
حتى الكلب أقعى..
يبدو أنه قد أفرغ كلَّ غضبه وجنونه في تلك العَضَّة.. حتى إنه بدأ يلعق جِراح فريسته.. هل هي يقظة ضمير مُتأخِّرة؟ حتى الكلاب لها ضمائرها يا مولاي.
لم تفعل العيون المذهولة المُتجمِّدة فوق السور شيئاً سوى الترقُّب.
نهض الحارس.. عَوَى.. ونبح.. وعندما استدار ناحية الجدار.. اكتشف الملك مِن شُرفته أنَّ حارسه قد نبت له ذيل. يبدو أنه لم يكن في حاجةٍ إلى عَضَّة الكلب ليُصبح كلباً!
أخذ الحارس يعدو بمحاذاة السُّور.. يعوي.. ينبح.. يُبصبص.. ويمَذرِح.. ثُمَّ وقف قُبالة الشُّرفة:
ــ أنا خادمكم الوفي يا مولاي.
ابتسم الملك.. وقال يُحدِّث نفسه:
ــ مُذهِل أن يكون لك حارس يُبصبص.. وينبح.. ويتكلَّم.
ثُمَّ خطرت له فكرة...
نادَى جميع حاشيته وحُرّاسه.. أَوقفهم صفًّا في الحديقة.. أمرهم بعدم مغادرة أماكنهم.. مهما كان الأمر.. وقال:
ــ هذا أمر ملكي.
ثُمَّ نادَى على الحارس النبّاح.. وأمره بإحضار الكلب.
تململ الصف.. أخذوا يتلفَّتون.. بعضهم اندلق مِن بين فخذيه سائلٌ حارّ.. لكنَّ كلَّ واحدٍ منهم قال في نفسه:
ــ أن يعضَّني الكلب أفضل على كل حال مِن أن يعضَّني الملك.
هكذا يا مولاي.. مَرَّ الكلب على الطابور.. عَضَّة عَضَّة.. وكل عَضَّةٍ تصحبها صرخة فاجعة.. تنْزلق متلاشيةً فوق الفضاءات المُعشِبة.. وتموت في حنايا الشِّعَاب.
حظِي الملك بحاشيةٍ مثالية.. يهزُّون ذيولهم.. يُجيدون النباح والكلام.. وبدأ يُفكِّر جِديّاً في المستقبل.. أعني في استنساخ جِراء من هذه الفصيلة.. وعاش جلالته في بحبوحة.
لكنَّ بحبوحة الملوك عمرها قصير.
دخل عليه بعض حاشيته وحَرَسه ذات صباح.. يبلغونه بأمرٍ من أمور المملكة.
ذُهِل جلالته.. غَمَره العَرَق البارد.. الدَّبِق.. حاول إخفاء دهشته.. فقد اكتشف أنَّ حُرَّاسه وحاشيته قد ظهرت لهم أنياب طويلة.. حادَّة!
وأدرك ضِفْدَزاد الصباح.. فسكتت عن النقيق المُباح.

19 مارس، 2010

النِّيْسي

1
... على مرمى العين تتعرَّج الذُّرَى المكسوَّة بالصنوبر والشماري والبَطُّوم.. التي تغطِّيها زُرقة الأفق الشفَّافـة.. بينما تظهر المساحات الخضراء وسط الأشجار مفروشةً بالدِّرْيَاس والعنْصل.
عندما أكون في الغابة أعود إلى طفولتي الأولى.. حيث أكتشف الأشياء لأول مرَّة.. أراها.. أشمُّها.. ألمسها.. أتماهَى في المكان.. وأحسُّ أنَّ بإمكاني إدراك المعنى الخفي للأشياء.
الطفل الذي في أعماقي يبتهج.. ينتشي.. أتسلَّق الأشجار.. أستكشِف الأعشاش.. أتحسَّس العصافير.. يسري في جسدي دفء الريش وملاسته.. أرتاد الكهوف.. التي تُشكِّل لي دائماً سحراً لا يُقاوَم.
كان هناك أثَرٌ لنار.. نار الرعاة التي يوقدونها في ليالي الصقيع.. الْتقطتُ ثلاث فحمات كبيرة.. وصعدتُ ناحية الكهف.
2
... الكهف أسفل الجدار الصخري.. الممتد وسط السفح حتى يغيب مع تعرُّجات الوادي.. تحته مباشرة لسانٌ صخري مرتفع.. يُشكِّل أعلاه شُرفةً عريضة أمام المدخل.. فيبدو (الكاف) مُعلَّقاً.
تسلَّقتُ اللسان الصخري بحذر.. سقطت إحدى الفحمات.
مدخل الكاف ضَيِّق.. تتدلِّى على جوانبه بعض النباتات الظلِّية.. أرضية المدخل يُغطِّيها نبات الرِّينش والزَّيتَا.. يتَّسع من الداخل.. في سقفه بيت عنكبوت.
وقفتُ قليلاً حتى تألف عيناي الرؤية في العتمة.. هناك رائحة رطوبة وذرَق طيور.
عند جدار الكاف من الأسفل توجد مصطبة صخرية طويلة.. تنحني بانحناءة الجدار.. ترتكز فوقها بعض أعشاش النِّيْسي ـ الطائر الأكثر قداسة منذ أن عشَّش في مدخل الكهف أثناء الهجرة النبوية ـ بعضها به عصفوران.. أو عصفور واحد.. وبعضها لا يزال بيضاً.
تحسَّستها.. دافئة.. تنبض بشدة وهي ترفع أجنحتها.. وتفتح مناقيرها وتصوصئ.
عصفوران لا يزال يُغطِّيهما الزغب الأصفر بالكامل.. بينما انحسر الزغب عن العصافير الأخرى.. وغدا يُتوِّج الرؤوس.
الجدار الشرقي أملس.. عليه أثر كتابة بالحجر.. فكَّرتُ في أن أكتب شيئاً.. لكنني فضَّلتُ الرسم.. بدأتُ التخطيط بالفحم.. لم يكن لدي تصوُّر سابق عن الشكل الذي ينبغي رسمه.. لكنني بدأت برسم أفعى.
لماذا أفعى بالذات؟! لا أدري.
شكَّلْتُ الرأس كبيراً.. مُفلطحاً.. وجعلتُها عريضةً من الأمام.. انتهت فحمتي الأولى على مسافة ليست بعيدة من الرأس.. فأخذت الفحمة الثانية.. وكلما تقدمتُ ناحية الذيل.. ضاق العرض شيئاً فشيئاً.. صغرت الفحمة.. حتى عجزتُ عن الإمساك بها بين أصابعي.. فأخذتُ أسحقها بإبهامي حتى تلاشت.. دون أن يكتمل الذيل.
ابتعدتُ قليلاً عن الجدار.. لأرى لوحتي الأفعوانية.. ليس فيها ما يُشبه الأفعى سوى الاستطالة.
في تلك اللحظة دخل سرب النِّيْسي.. يا لَلقداسة.. يا لَلطُهْر! عندما اكتشف وجودي.. أخذ في التراجع.. ازدحم الكهف بالأجنحة الفِضِّية المُصطفِقة.. تجاوب بالحفيف الحادّ والصوصوة.. وتساقطت بعض الريشات.
انحنيتُ لالتقاط الريشات.. شعرتُ بحركة مُفاجئة غريبة فوق المصطبة.. الْتفتُ.. يا لَلفظاعة.. أفعى ضخمة.. بشعة.. تلتهم البيض.
ارتجفتُ.. بحثتُ عن شيءٍ لأضربها به.. بدأتْ تلتقط العصافير.. تبتلعها من رؤوسها.. وهي تُرفرف رفرفَاتها الأخيرة.
اقتربتُ مُلوِّحاً بذراعَيّ.. فتكوَّرت.. فَحَّت بصوتٍ كريه.. اتجهت إليّ.. فأسرعتُ ناحية فم الكهف.. وحين قابلني الجدار الشرقي وقفتُ مصعوقاً.. دار الكهف.. شعرت بأنه يكاد ينطبق.. فلم يكن هناك وجود لأفعى الفحم البتراء!
خرجتُ.. تنفَّستُ بصعوبة.. تفرَّستُ في يدَيّ.. كانتا ترتجفان.. وعروقهما بارزة.. أحسستُ بالغثَيان.. بدأت أحشائي تتحرَّك.. مادت الشُّرفة الصخرية.. اهتزَّت الأشجار.. تمايلتْ.. ترنَّحت الظِّلال.. تموَّجت الذُّرَى البعيدة.. غار الوادي.. اقتربت الضفَّتان.. مِلتُ على حافة الصخرة.. وتقيَّأتُ.. تقيَّأتُ دماً أسودَ.. ممزوجاً بالريش والزغب الأصفر!
***
(1998)

18 مارس، 2010

أخضر.. أحمر

(إلى فيروز سالم العوكلي)
1
... (رغَد) و(شَوق) تعاينان المكان للعب النقَّيْزة.. ترسمان المربعات على الرصيف.. تُلقي (شَوق) كسرة البلاطة في أوّل مربع.. تضع يديها على خصرها.. تقف على رِجلٍ واحدة.. تبدأ اللعب.. تقفز ضفيرتها مع كل نَقزة..
تتوقف فجأة.. تحكّ رأسها:
ــ كسرة البلاط لا ترن أثناء زحلقتها.. وفوق ذلك لونها باهت.
2
... بحثاً عن الرنين واللون تقترح (رغَد) استخدام عُلب الطماطم الصغيرة الحمراء.
3
... تُحضران عُلبتين.. تقول (شَوق):
ــ تحتاجان إلى تسطيح.. المفترَق قريب.
4
ــ دورك يا (رغَد).
تراقب (رغَد) الإشارة.. يخضرّ الضوء.. تُلقي عُلبتها أمام السيارات.. تفتح ذراعيها باتجاه السماء ضاحكة:
ــ إن شاء الله كروزر يا ربّي.
تتعرض العُلبة للدهس.. تضيء الإشارة الحمراء.. تجري (رغَد).. تلتقط علبتها المسطحة.
5
ــ دورك يا (شَوق).. الضوء أخضر.
تتدحرج العُلبة أمام الإطارات.. تتسطح.. تراقبان الإشارة.. يحمرّ الضوء..
ــ هيّا.. تَوّا..
تجري (شَوق).. تنحني لالتقاط عُلبتها.. يصرخ شرطي المرور.. يقفز.. ينتزع الطفلة.. تنحرف السيارة المسرعة.. تصطدم بعمود الإشارة.. تتهشّم دوائر الزجاج الملونة.. تختلط الشظايا الحمراء والخضراء.. يستوي العمود بالأرض.. يحسّ الشرطي بارتجاف الطفلة بين يديه.. يضمّها.. يمسح على كتفيها وضفيرتها:
ــ لماذا لم تنتبهي.. كاد يدهسك.
(شَوق) يقطِّع صوتها الارتجاف:
ــ ولكن.. الضوء.. أحمر!
***
(2010)

17 مارس، 2010

الْمنْجَل

... (حمد المَنْجَل) تقلَّب في عدَّة وظائف حكومية.. بطناً وظهراً.. ابتداءً من مُحاسِب صغير قابعٍ في رُكن مكتبٍ مُعتِمٍ رَطِب.. مروراً بتاجر شَنطة بين ليبيا وشرق آسيا.. وانتهاءً بمدير شركة لها فروعها في كل أنحاء بلادنا الشاسعة.
(يعرف من أين تُؤكَل الكتف).. ويأكل (ناقة الله وسُقياها).. باختصار هو من أولئك القادرين على (أكل الدَّاعي والمدّعي).. والأهم من ذلك أنه يُدرِك أنَّ (البقرة السوداء تُدِرُّ حليباً أبيض).. يُقال بأنه لم يخرج من رحم أُمّه بالرأس.. صارخاً كسائر الأطفال.. بل وُلِد برجليه مُتلفِّتاً مُبتسِماً.. مُزوَّداً بالكثير من الخبرات.. وكان يتباهَى بأنه (مزقْزِق في الدَّحْية).
كان من فئة (اقلاَل الوالِي).. وبقفزةٍ غير منظورة أصبح من أهل الوالي نفسه.. وأخذْنا ننظر إليه بحسد وهو (راقِد بين قرون العنْز).. وانتقل من مُصنَّف في خانة (راقد رِيح).. إلى عضو فاعل في خانة (فوق الرِّيح).. بحيث لا تَطاله تقلُّباتُها.. ليس هذا فحسب.. بل أصبحت الرِّيح (تحطِّب له).. وتجري بما تشتهي سفُنُه.. وتحوَّل بأُعجوبة من (دِيك أجرَب).. إلى دِيك يبيض ذهَباً.
طلَّق امرأته.. باع سيارته القديمة.. واستبدل حتى جيرانه.. وأصبح يضع مِرفقَه خارج السيارة أثناء القيادة.
حمد المنجَل لا يحبُّ البقاء في الهامش.. بعيداً عن الأضواء.. فأنت تراه في كل مناسبة.. فهو الذي يُصلِّي بنا الجمعة.. وفي المساء يخلع جُبَّة الإمام ويولِّي وجهه شطر الملعب.. ليقوم بدور الصحفي الرياضي.. يلتقط الصوَر ويُعدُّ التقارير.. وأُذنه في الملاعب الأخرى بهاتفه النقّال.. وبين شوطَي المباراة يُفاجئكَ وهو يؤمُّ الجمهور في صلاة العصر.. وهو بقدر ما يُدبِّج الخُطَب الجهورية الرنّانة فوق المنابر.. حتى تُحس أنَّ الآخرة قد غدَت على مرمَى حجَر.. بل يجعلك تتلفَّت وأنت تشمُّ رائحة شياط النار في أركان المسجد.. فهو أيضاً ـ في سهراته الخاصة ـ يُجيد الأحاديث الماجنة.. والنِّكات الداعِرة.. تحت باب (لكلِّ مقامٍ مقال).
هو رجل كل الأوقات.. كل الأزمات.. كل الظروف.. يلبس لكل حالةٍ لَبوسَها.. إنّه من ذلك النوع الذي يُشعِل النار في الخفاء.. ثُم يتساءل في دهشةِ: من أين يتصاعد هذا الدخان؟! والأنكَى من ذلك أنَّه يتحوَّل إلى إطفائي.. بعد أن تكون النار قد أتت على كلِّ شيء.. وهو يرى أنَّ من الحَصَافة أن يكيل المرءُ بمكيالين.. أو عدَّة مكاييل.. لذلك فهو (ياكل مع الذيب.. ويزمِّر مع الراعي).
عندما يمشي ينحني قليلاً إلى الأمام.. ويبدو في ذلك الوضع مع حركة يديه أنَّه على استعدادٍ للالتفاف والتكوُّر حول شيءٍ ما.
إن لم يستطع أن يكون في قائمة الحُجّاج.. فهو في البعثة المُرافقة للحجيج.. وإن فاتَه هذا وذاك فهو في لجنة إجراء القُرعة على الأقل!
تجد على مائدته في الصيف فواكه الشتاء.. وفي الشتاء أطايب الصيف.. يراه الناس في أماكن مختلفة في نفس اللحظة.. حتى أقسم بعضهم أنَّ المنجَل من (رِجال الخطوة).
إذا ظهرت إشاعة في قريتنا فهو مَصْدرُها.. أو هو من يتلقَّفها ويمنحها جناحين.. عندما تواجهنا مشكلةٌ ما.. نَفْزَع إلى المنجل.. فيكفي أن يضع يده في جِيبه ليُخرِجَ لنا حمامةً.. أو أرنباً.. أو شوال دقيق أو سُكَّر.. فهو قد تكفَّل بحلِّ جميع المشاكل.. ابتداءً من تكدُّس القمامة وطَفْح المجاري.. مروراً بالتصحُّر والاحتباس الحراري.. وانتهاءً بالنفايات النووية وثقب الأوزون.
يقوم بعقد الزيجات.. كتابة أوراق الطلاق.. الصلاة على المَوتَى.. قراءة القرآن في المآتم.. حلق المواليد وختانهم في اليوم السابع.. وإشعال القناديل في المولد النبوي الشريف.
الأمور تجري بين يديه بطريقة سحرية.. كأنه يملك مصباح علاء الدين.. ويعمل تحت إمرته فيلَق من المَرَدة.. وخلاصة الأمر أنَّ المنجَل مؤسسة كاملة في زمنٍ غابت فيه المؤسسات.
وهاكم مثالاً واحداً على أسلوبه في حلِّ المشاكل المُستعصية: فالمياه مقطوعة عن قريتنا منذ شهر.. أو منذ (ستين وَجْبة) حسب تعبير عجائزنا.. لكنَّ المنجل يوم الجمعة بالذات.. ومن فوق المنبر.. وجد حلاً سحرياً لهذه المعضلة.. وهو أن يُحيلَنا إلى أنهار الجَنَّة.. وعلى الأخصّ نهر اسمه الكوثر.. مَن يشرب منه مرَّةً واحدة لا يظمأ بعدها أبداً.
بعد هذه الرحلة السماوية.. يردُّنا إلى كوكب الأرض.. وبالأخصِّ إلى قريتنا التي تنقطع عنها المياه منذ شهر.. ليبتهل إلى الله ـ طالِباً منّا التأمين ـ أن يوفِّق وُلاةَ الأمور إلى ما فيه خير البلاد والعباد.. وهكذا.. بقليلٍ من البلاغة.. وبصوتٍ جهوري.. والاستشهاد ببعض الحِكَم المأثورة.. وحفنة من الأمثال الشعبية.. والأبيات الشعرية.. وغَناوي العَلَم.. وبثلاث شجرات خرُّوب ذَكَر هرِمة.. وبدون مياه.. استطاع المنجَل أن يجعل من قريتنا فردوساً على الأرض.. فالأمور تبدو من السهولة أحياناً بحيث يصعب تصديقها.
لكنَّ كل هذه الأمور لا تُعدُّ شيئاً يُذكَر.. بالمقارنة بما حدث يوم الفيضان..
... اجتاح الطوفان وادينا.. تصدَّع المسجد.. انهار الفُرن.. الْتهم السيل الضفاف.. دخل كل بيت.. جرف الزرائب بما فيها.. اقتلع شجرة الكرموس الضخمة.. وفي الوقت الذي كُنّا فيه نغرق.. ونحن نحمل أطفالَنا فوق رؤوسنا.. ونحاول الاحتماء بالجدران المُتصدِّعة.. والتعلُّق بالأشجار والصخور الناتئة على ضفَّتي الوادي.. ظهر المنجَل فجأة.. وسط دهشة المُحاصَرين بالسيل.. يمشي باطمئنان فوق الزَّبَد.. دون أن تبتلَّ قدماه!
***
(1997)

13 مارس، 2010

البيضة..

1
... ليلةُ صيفٍ حارّة.. تلك الحرارة الرطبة.. التي تُشعرك بالضيق من كل شيء.. النوافذ مُشرَعة.. الأضواء في حدِّها الأدنى.. فأيّ ضوء في ليلةٍ كهذه ـ مهما كان خافتاً ـ يولِّد إحساساً كريهاً بالحرارة.. كنّا نجلس أمام بيوتنا.. نفترش حُصُر السّعَف.. ونتحدَّث بأصوات خفيضة.
2
... داخل أحد الأدغال الكثيفة في ضفّة الوادي بدأ شيء يُشعّ.. شيء مُبهِر.. ليس حادًّا مُستعِراً كضوء النار.. بل هو أقرب إلى هدوء وخفوت ضوء القمر.
3
... تطاولت أعناق الجالسين على الحُصُر.. يتطلعون ناحية البُهْرة.. سرى الخبر.. فخرجنا يدفعنا الفضول.. بخطواتٍ يشوبها الحذر.. لكننا نشعر بابتهاجٍ ما.. فحياتنا الرتيبة التي تَنْسَرِب أيامها كحبّات السّبْحة.. في حاجةٍ إلى وقوع شيء مختلف.. يُحرِّكها ولو إلى حين.. كما يقع الحجر في البركة الراكدة.
4
... كانت بيضة ضخمة.. لامعة.. في طرفها العلوي بعض النمش الأحمر.. لكنك تحار في تحديد لونها.. عندما تُمعن النظر فيها.. يُخيَّل إليك أنها عامرة بكل الألوان.. الدغل الملتف حولها يُشكِّل ما يشبه العشّ.. أخذنا ندور متابعين استدارتها باستغراب.. تجرَّأ أحدنا وبدأ يتحسسها بدهشة.. بل أخذ ينقر جدارها الأملس السميك بأصابعه.. فأصدرت رنيناً.. ترددت أصداؤه في قلوبنا.. رنين يجعلك تُحسُّ بارتعاشٍ لذيذ.
5
... تراجعت الدهشة فانطلقت الألسن:
ــ لا يمكن أن يكون هذا الشيء إلا سماوياً.
ــ لقد كفَّت السماء عن إرسال أشياء من هذا القبيل منذ زمن.
ــ لا تُجدِّف.. فالسماء لا تبعث أشياء غامضة.. الله دائماً يُفصِح عن نفسه.
ــ هذي دَحْية ابليس.. قالوا يدَحِّي في العمر مرة.
ــ عشنا وشفنا.. هذي أول مرَّة أسمع فيها أنّ الشيطان يبيض.
ــ الشيطان يبيض ويلد.. ويفعل كل شي.. والاّ فكيف يَكون شيطاناً.
ــ ولماذا اختار إبليس وادينا بالذات ليبيض فيه؟!
ــ هذا سؤال يُجيبك عنه إبليس نفسه.
ــ ما الذي يُمكن أن يكون بداخلها؟
ــ لعلّه كنْز.
ــ لا شَكّ أنّ فيها قبيلة من الأبالسة الصغار.
ــ مهما يكن.. فعيال إبليس يتمتّعون بالبَراءة.. فالطفولة هي الطفولة.
ــ من يدري.. قد تخرج منها امرأة عارية.. أو ملائكة.. أو شرطي.. أو حتى جنرال.. فبيض الشياطين يحفل دائماً بالمفاجآت.
6
... ظلت البيضة في واديها.. أحياناً يُخيَّل إلينا بأنها تكبر.. فها هي اليوم تكاد تلامس الأغصان.. أو لعل الأغصان هي التي تطاولت ناحية البيضة.. تردَّدنا عليها طيلة أيام.. غدت مزاراً ومَحجًّا.. خاصة في أوقات الغروب.. حيث تعكس حُمرة الشفق.. ويتحول سقفها المُدوَّر إلى ما يشبه قوس قُزَح.. لم نستبعد فكرة الكنْز.. حتى نساؤنا وأطفالنا طافوا حولها.. تحسّسوها.. وسمعوا رنينها المُربِك.. إلاّ الإمام.. فقد نغَّص علينا تلك المتعة بوعيده:
ــ هل أصبحتم جميعاً من أتباع إبليس؟ هذه البيضة الملعونة هي الغواية بعينها.. كل شيء ينجذب إليها.. ثم أيّ كنْز يُمكن أن يكون في دَحْية شيطان.. ألم تسمعوا ما قال الله سبحانه: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ).. أين إيمانكم.. ابصقوا عليها.. اركلوها.. وحتى بولوا عليها.. فلا قدسية لها.
ردَّ أحدهم:
ــ من أين سنأتِي بالبول.. والمياه مقطوعة منذ أكثر من شهر؟! دعونا ننتظر.. لن نخسر شيئاً.. لا بدَّ أن تفقس البيضة في نهاية المطاف.
أشاح الإمام بقرف:
ــ لا خير فيكم.. تنابلة.. شياطين.. تتعلقون بالأوهام.
7
... ذات ليلة قررتُ أن أضع حدًّا لبيضة إبليس.. فبعد منتصف الليل أخذتُ فأساً وخرجت.. سأفقسها.. سأُحطِّمها.. وليكن ما يكون.. لم نعد نحتمل ملمسها.. ولا رنينها.. سئمنا المسألة.. يجب أن نعرف ما بداخلها.. شياطين زُرْق.. أو ملائكة.. أو كنْز.. أو أيّة لعنة.
... شبح أسود يطوف حول البيضة.. اقتربتُ بحذر.. رغم اللباس الأسود الذي يُخفي حتى الوجه.. فقد عرفته.. إنه الإمام.. كان فضيلته يتحسّس بكلتا يديه بيضة إبليس.. باستمتاعٍ لا يُمكن إخفاؤه حتى في ظلام الليل.
***
(2000)

12 مارس، 2010

السَّاعَة..

هذه القصة من ضمن القصص التي ترجمها الصديق القاص (غازي القبلاوي) إلى اللغة الإنجليزية
1
... كنا في انتظار الساعة الخامسة مساءً.. أو بالأصح في انتظار الجنرال.. نروح ونجيء.. نتفقَّد المنصة.. والزينة.. صحيح أنَّ المنصة متواضعة بعض الشيء.. وبالكاد تتسع للجنرال ومرافقيه.. لكن ماذا بوسعنا أن نفعل أكثر من ذلك.. فنحن في القرية لا دراية لنا بتجهيز الاحتفالات.. ورغم هذا أخذ منظِّمو الاحتفال يُنبِّه بعضهم بعضاً إلى أي خلل.. مهما كان طفيفاً.. فالجنرال ـ والحق يُقال ـ دقيق في مثل هذه الأمور.. يتفطن إلى أيّ شيء.. لا يسمح بأي تسيُّب.. هكذا علَّمته الحياة العسكرية الصارمة.. فالأمور يجب أن تكون من الدقة بحيث تكون كالساعة.
على ذكر الساعة.. فقد تجاوزت الثانية بقليل.. ثم انظروا إلى ذلك العَلَم الذي الْتَوَى بفعل الريح.. يجب أن يصعد أحدكم لإصلاحه.. فالعَلَم المرفرف يجعل المرء يُحسّ بالزهو.. وإلا فلماذا وُضعت الأعلام أصلاً؟ هل انتهيتم من طباعة الطلب.. فالجنرال في عجلة.. هل فِرَق الكَشّاف والفِرَق الرياضية والفنون الشعبية جاهزة.. إنه لا يريد أن يتجاوز الاحتفال ساعةً واحدة.. كم بلغت الساعة؟ الثالثة؟ هل انتهيتم من طباعة الورقة؟ كل شيء واضح في الطلب؟ المدرسة والمستوصف والبئر والخزان العلوي؟
2
... وصل موكب الجنرال..
ــ كيف؟ الساعة أربعة بَسّ!
ــ تأكَّدتم أنه قال الخامسة؟
ــ بكل تأكيد.
ــ كارثة.. لم تصل الفِرَق بعد.
ــ ولا حتى الخَيّالة.
ــ الجنرال يموت في الخيل.
ــ ما العمل؟
ــ فيه خلل ما.
ــ لكن الطلب جاهز.
ــ فيه الخَزّان العلوي؟
ــ أي خزَّان علوي!
ضاعت الأصوات في زخم الهتاف.. والتصفيق.. والزغاريد.
3
... ترجَّل الجنرال.. بذلة بيضاء لامعة مَكْوية بعناية.. لو خرج منها الجنرال لوقفت لوحدها! صدر مُرصَّع بالأنواط الملونة.. فوق رأسه (كاب).. تحت إبطه عصا الشرف.. في قدميه حذاء أسود لامع هو الآخر.. باختصار كل شيء في قيافته يلمع.. بل ويُغري باللمس! إذا أردتَ أن تضع عنواناً لتلك اللحظة فهو (البريق والجاذبية).. التفَّ حوله وجهاء قريتنا.. اتّجه ناحية المنصة وهو يُلوِّح للجماهير.. يلمس أيديهم بكلتا يديه على الجانبين.. انحنى على طفلة صغيرة وقبَّلها.. قبَّل رأس إحدى العجائز.. ثم جلس على الكرسي.. أخذ يتلفَّت.. وينظر إلى ساعته.. أشار إلى أحد حُرّاسه.. فانحنى على كتفه.. فهمس الجنرال في أذنه شيئاً.
هل لاحظ قِلّة الجمهور؟ أم لاحظ غياب الفَرِق؟ ربما يتساءل عن عدم وجود الخَيّالة؟ نزل الحارس من فوق المنصة قاطعاً كل الشكوك:
ــ المفروض أن يبدأ الاحتفال الآن.
ــ الآن؟!
ــ تَوّا.
تلعثم المختار:
ــ لَم نستعدّ بعد.. مازالت ساعة كاملة.. الساعة الآن الرابعة فقط.
نظر الحارس إلى ساعته.. هَزَّ رأسه.. عاد مسرعاً إلى المنصة.. انحنى على أذن الجنرال.. فنظر إلى ساعته.. زَمَّ شفتيه.. وفتح كفيه علامةً على الاستغراب.
4
ــ ما فيش حَلّ ـ قال الحارس ـ ساعة الجنرال خمسة.
نظرْنا إلى بعضنا في حيرة.. لم يجرؤ أحد على القول بأنَّ ساعة الجنرال متقدِّمة ساعة كاملة.. كثر التلفُّت.. والنظر في وجوه بعضنا البعض.. في تلك اللحظة كان الجنرال ينظر ناحيتنا.. أو بالأصحّ ينظر إلى حارسه الواقف بيننا.. ثم نقر بسبَّابته على الساعة عدة نقرات سريعة.. فاقترح الحارس على المختار أن يصارح الجنرال بالأمر.. وليكن ما يكون.
بلع المختار ريقه..
ــ آه.. ليكُن ما يكون.. من السهل قول ذلك.. ماذا تخسر أنت؟! سأفعل.. سأصارحه.. هل سيأكلني.. أو يأخذ ثَوبِي؟!
قدَّم رِجلاً وأخَّر أخرى.. أو على وجه الدقَّة قدَّم عنقاً وأخَّر أخرى.. نفخ صدره.. ثَّم اتّجه إلى المنصة.. وحين أراد الصعود تعثَّر في الدرَج.. وفي لحظة يحار المرء في تسميتها.. أهي إلهام؟ فتح؟ لحظة ربّانية؟ أو ربّما شيطانية؟ قام مختارنا بضبط ساعته على ساعة الجنرال.
***
(2000)

11 مارس، 2010

امْرَأة الحِكَاية

( ا )
... تقول الأسطورة عندنا: (في السماء غِربالٌ ضخم.. حوافُّه العليا تختفي خلف سواد الغَيم.. وعندما يغصُّ بالسُحُب.. وتتلقلق بين حوافِّه المياه.. يهتزّ.. يرقص.. فتهبط الشآبيب.. رَشَّةً رَشَّة.. صافية.. نقيَّة).
( ل )
... ذيول الضباب تتلاشى صاعدة.. فتشفُّ عن غابةٍ مقرورة.. وصخورٍ لامعة.. تقطر حوافها.. وطُرقٍ جبلية متعرِّجة عبَّدتْها أقدامُنا.. وفوق الضباب سُحبٌ سوداء.. بِيض الحوافّ.. تُعانِد الريح.
( ن )
... في الصباح الباكر نصعد الجبل المُعمَّم بالغيوم.. حُزمة من الأطفال تحملنا الدهشة.. نتسابق لرصد الغربال لحظة اهتزازه.. مع اقترابنا من رأس الجبل بدت السُحُب تحتنا.. أغشية رقيقة فوق تعرُّجات الأودية.
( س )
... على رأس الصخرة في قمّة الجبل فوجئنا بامرأةٍ تجلس.. رداء بلون السماء.. شال بلون الغيم.. ووجهٌ استعار إشراقه من الماء والليالي المُقمرة.. حين أبصرتْنا ابتسمت.. مدَّت يدها إلى طَرَف المزنة.. سحبت خيطاً.. وشرعت تنسج.
( ا )
... في وقوفنا الذاهل.. جاء صوتها الدافئ:
ــ اقتربوا.. أنا الناسجة.. نسّاجة الغيم التي تعرفونها في حكاياتكم.. ألم يُخبروكم بأنني موجودة بالفعل.. الحَكايا ليست مجرَّد حَكايا.. إذا كان العالم هو كل ما تلمسونه وتُحسُّونه فقط.. فما أضيق هذا العالم.. كنتُ أعلم أنكم ستأتون لرؤية الغربال.. اقتربوا.. خذوا هذه المعاطف.. معاطف بيضاء في نصاعة الحليب.. وأخرى سوداء مُبطَّنة بالأبيض.. هناك قمصان أيضاً.. ليس المُراد من السحابةِ الأمطارُ.. أنا أختصر الأمر.. أنسج لكم من المُزْن مباشرة.. عندما تعودون إلى قريتكم.. ستجدون أنَّ معاطفكم وقمصانكم قد اعشوشبت.. اخبروا أمهاتكم وأخواتكم أنَّ مَن تأتيني ساعة الغروب فستحصل على رداء بلون الشفَق.
( ج )
... في اليوم التالي كنّا جميعاً نلتفُّ حول الناسجة.. حتى العجائز اللاهثات استطعن ارتقاء السفح الوعر.. يتأمَّلن بدهشةٍ الشالات التي ينبت عليها العُشْب.
( ة )
... في لحظة انهماكنا.. اكتشفْنا فجأةً أننا مُسيَّجون بالعساكر المُدجَّجين.. بنادقهم مُصوَّبة نحو النسّاجة.. وفي لحظة فاصلة.. بَرْزَخيّة.. لحظة اشتعال شهوة البنادق.. يلفُّنا الغيم الأسود.. وما إن ينقشع حتى تبدو الصخرة اللامعة.. وقد غادرتْها امرأةُ الحِكاية.. كنّا مُبتهجين بالمعاطف.. والقمصان.. والعُشْب النامي على أكتافنا.. هذه هي المرَّة الأولى التي نُحسُّ فيها بعجز العساكر.. رفعنا وجوهنا إلى السماء.. حيث اختفت امرأة الحِكاية.. لازلنا حتى الآن نسمع حفيف ردائها في ثنايا الغيم السابح.
(2001)

10 مارس، 2010

القطة..

1
... أحد المساءات الربيعية.. في تلك اللحظة التي يكون فيها قرص الشمس في متناول كفَّيك.. اللحظة التي تتوهَّج فيها التنانير.. وتنعقد حُزَم الدخان فوق الوادي.. كانت القِطَّة تتمدَّد في تجويفٍ تحت الصخرة.. غائبة عن الوعي.. بلغ الألم مُنتهاه.. حتى تلاشى الإحساس بالألم.
أفاقت.. استدارت.. غمرها إحساس جارف بالأُمومة.. هذه أول مرَّة تعرف طعم هذا الإحساس.
تأمَّلت أُسرتها.. خمس قُطيطات.. أربعٌ بِيض.. وواحدٌ أسود.. تشمَّمتْهم..
ــ البياض لِيّ.. والسواد له.. تُرى أين هو الآن؟ لا هَمَّ له سوى النّزول من فوق قِطَّةٍ واعتلاء أُخرى.. ثُمَّ يتلهَّى ويصطاد.. إنه لا يعرف حتى مذاق الألم.. ولكن.. لا بأس.. دعونا نتذوَّق اللحظة الراهنة.
لحستْهم.. واحداً واحداً.. ثُمَّ استلقت من جديد.. ومنحتْهم أثداءها الطافحة بالحليب.
2
في الصباح.. ألْقتْ نظرةً على صغارها العُميان.. لقد ارتوتْ.. وهي الآن مستغرِقة في نومٍ عميق.. كل واحد يدسُّ رأسه في حضن الآخر.
خرجت لاصطياد ما يمكن اصطياده.. تطلَّعت حولها.. إنها في مأمنٍ من شقاوة الأولاد.. اختارت هذا التجويف الصخري البعيد.. حتى لا تكون هدفاً للمقاليع.
الْتفتت إلى بيتها..
ــ ولكن ماذا لو تسلَّلت إحدى الأفاعي؟
ارتعشت وهي تتصوّر ذلك.. أخذت تُضيِّق الفتحة.. كوَّمت التراب في المدخل.. ثُمَّ...
ــ ماذا يفعل هذا الثعلب الملعون هنا؟ إنه يتشمَّم كل شيء.. لا يجب أن يراني.
عادت.. حشرت صغارها في أعماق التجويف.. وأخذت موقف الدفاع.. فكَّرت:
ــ إننا قريبون من المدخل.. في متناول المخالب.
شرعت تحفر إلى الداخل.. تحفر.. حتى توغَّلت.. ولم تعُد ترى صغارها.. عادت.. أخذت تلتقطهم من أعناقهم.. يتأرجحون بين فكَّي الأُمومة!
ــ والآن أصبحتم في مأمن.
مكثتْ قليلاً.. تلتقط أنفاسها.. لعقت صدرها.. ثُمَّ أطلعت رأسها من الفتحة.
ــ اختفى الثعلب.. لكنَّ رائحته لا تزال قوية.
رفعت أنفها في كل الاتجاهات..
ــ آه.. المخادع يترصَّد من خلف الصخرة.. يظنُّ أنه يخدعني.. صغاري لن يكونوا لُقمة سهلةً لأحد.
... وبقيت تسدُّ المدخل.
... في المساء.. حطَّت بُومة على الخَرُّوبة المجاورة.. ونعبت نعيباً فاجِعاً.
ــ لم يعُد ينقصني سوى البومة.. إنها أخطر من الثعلب.. لن تجد صعوبة في الدخول.. لكنني لن أترك صغاري الآن.. سأرى مَن منَّا ستصبر أكثر؟ هل ستبقَين فوق الغصن إلى الأبد؟!
3
... في آخر الليل أخذت القطيطات تموء.. وتتحسَّس الأثداء.. لم يغمض للأُم جفن.
ــ ماذا أفعل لحمايتهم؟ ماذا أفعل لدفع الخطر عن العائلة؟ إذا خرجتُ الْتهمهم المُترصِّدون.. إذا بقيتُ قتلهم الجوع.. ذلك السافل.. يغرز أسنانه في عنقي.. يقذف في أحشائي عائلة كاملة.. ثُمَّ يختفي.. كأنَّ الأمر لا يعنيه.. لو أنه يأتي الآن لتناوبنا الحراسة.. ولكن لا مناص من الخروج غداً.. لابُدَّ من الخروج في نهاية المطاف.. لن أسمح لهم بدفننا أحياء.
أطلعت رأسها.. تأملت القمر الحائم فوق الوادي.. وظِلال الأشجار الباهتة.. أطلقت البومة ثلاث نعبات متتالية مُؤكِّدةً وجودها.. ومسحت سحابةُ ضوءَ القمر.
4
في الفجر.. رفعت نفسها بوهن من بين صغارها.. التي لم تَكُفّ عن المواء طوال الليل.. زحفت ناحية المَخْرَج.. جفَّت الأثداء.. الجوع ينهشها.. كانت تسمع تكسُّر البَيض في الأعشاش الدافئة.. والزقزقات الأولى للعُصَيفيرات الوليدة.. أخرجت رأسها.. استرابت..
ــ كالعادة.. الأمور على أسوأ ما يُرام.. الثعلب فوق الصخرة.. البومة في أعلى الشجرة.. ولا شك أنَّ الأفعى تكمن في الجِوار.. إنهم يترصَّدون صغاري من فوق ومن تحت.
أغمضت عينيها.. ثُمَّ.. قررت أن تعود.. لا يزال هناك خِيار.. سدَّت المدخل بكومة من التراب.. وغابت في ظلمة الصخرة.
5
... عند ارتفاع الضحى.. بدأت كومة التراب تتحرَّك.. انتصبت أُذنا الثعلب.. أدارت البومة رأسها.. تكوَّرت الأفعى.. انزاح التراب.. برز المخلبان.. الرأس.. الكتفان.. انضغط الجسد مقذوفاً إلى الخارج.. مُنتفِخة.. تتمايل.. أثداؤها تنُزُّ بالحليب.. انحدرت مع الوادي.. تمشي بهدوء.. لا يبدو عليها أثر للخوف.. أو القلق.
... تسابق المُترصِّدون..
الأفعى أول الداخلين.. كانت أقربهم... توغَّلت.. أحسَّت بدفء التراب.. أخرجت لسانها تلتقط الرائحة الشهية.. ولكن.. لم يكن هناك أَثرٌ لشيء.. لا شيء سوى نُتَفٍ من الوَبَر.. وبُقَعٍ من الدَّم!
***
(1997)

09 مارس، 2010

(أحمد أبو عقيلة) يكشف المسكوت عنه

قراءة في مجموعة (الحرباء)
للقاص الليبي أحمد يوسف عقيلة

أ . هويدا صالح / مصر

القصة القصيرة فن سردي له دهشته، له مذاقه الخاص، ربما يختلف كثيراً عن الرواية والشعر، وإن كان لمرونته ودهشته قد سرّب رهاناته إلى الرواية، فتغيرت طرائق السرد الروائي وأفادت من تقنيات القصة القصيرة، كما أفاد الشعر من القصة القصيرة ولغتها، فرأينا قصيدة النثر تنافس وبجدارة قصيدة التفعيلة.

ولن يقف التجريب في القصة القصيرة عند حد، بل ستظل القصة تجدد نفسها وتقدم رهاناتها في تطور ونمو، ومن كتاب القصة القصيرة الذين يجيدون التجريب سواء من حيث اللغة المكثفة الدالة والموحية الكاتب الليبي (أحمد أبو عقيلة) في مجموعته: 'الحرباء'، فهو يقدم لنا سرديات تشبه الحياة نفسها بمختلف تناقضاتها وتعقيداتها وأزماتها وتقلباتها وتحولاتها وانفراجاتها. يفلح الكاتب في إعادة إنتاج الحياة سردياً، كما يقدم لنا الذات بكل تناقضاتها، وموقفها من العالم.

يبدأ سردياته بنص رمزي استعاري يقدم لنا فيه رحلة تحمل أسئلة الوجود وحيرة الذات على لسان رغيف خبز مهموم بوضعيته في العالم، يسائل الكاتب العالم في حوارية بين الرغيف والتنور، ويكشف عن همه:
"ــ وماذا بوسع رغيفٍ مثلي أن يفعل؟
ــ ... تَخَلَّ عن صمتك.. ما دمتَ قادراً على الحَكِي فإنك لن تموت".
وكأن هنا الكاتب يدرك أن السرد والحكي هو الحياة، هو المحافظة على الحياة، وربما تكون هذه الجملة كاشفة لسؤال الكتابة، فالمؤلف يرى أن الكتابة تساعده على الانتصار على الموت والتغييب.
وذات الرمزية يستخدمها الكاتب في النص التالي: (خط أحمر) حيث يكشف المسكوت عنه في أسئلة الوجود ولكن على لسان الحيوانات والطير:
"تثاءب.. نبح نبحتين في الفراغ.. أحسَّ بأنهما خاليتان من المعنى.. لا تليقان ببلاغة الكلاب.. فينبغي قبل كل شيء أن يُصغي إلى نباحك الآخرون.
كان جائعاً.. مقروراً.. مُلطَّخاً بالوحل.. فاجتاحتْه رغبة في أن ينبح على أحدٍ ما.. تلَفَّتَ في كل الاتجاهات.. نهض.. وأخذ ينبح على لهب الغروب خلف سواد الغابة".
كما أن المجموعة لها خصوصية وتفرّد تمكن الكاتب من نحت عالمه الخاص ولغته المتفردة في قصة (امرأة الحكاية):
"... في الصباح الباكر نصعد الجبل المُعمَّم بالغيوم.. حُزمة من الأطفال تحملنا الدهشة.. نتسابق لرصد الغربال لحظة اهتزازه.. مع اقترابنا من رأس الجبل بدت السُحُب تحتنا.. أغشية رقيقة فوق تعرُّجات الأودية".
يحمل (أحمد عقيلة) ذاكرة جمعية تمكنه من تقديم تفاصيل مجتمعه وبيئته في سرديات صغيرة متتالية وكاشفة بشكل واضح للذاكرة الشعبية الليبية، وانطلاقاً من مقولة (إداورد سعيد) "إن الأمم ما هي إلا سرديات كبرى"، أرى الكاتب قد قدم لنا ذاكرته الشعبية في سرديات متلاحقة، وفي لغة مكثفة وشعرية، ففي قصة (امرأة الحكاية) يقدم لنا أسطورة مدينته الخاصة:
"تقول الأسطورة عندنا: (في السماء غِربالٌ ضخم.. حوافه العليا تختفي خلف سواد الغَيم.. وعندما يغص بالسحب.. وتتلقلق بين حوافه المياه.. يهتز.. يرقص.. فتهبط الشآبيب.. رَشة رَشة.. صافية.. نقية".
ولا تكتفي الذات الساردة بتقديم الأساطير التي تسكن الذاكرة الجمعية، بل تجسدها حية أمام عيون الأطفال، فنساجة الغيم التي تسكن السماء وترسل المطر تحادث الأطفال في وقفوهم الذاهل، وتهديهم أردية وملابس بألوان الطيف، بل وتعدهم بتقديم هدايا المتفردة لكل من يأتيها من النساء في الغروب، ويفرح الناس، حتى العجائز يصعدن السفح الوعر من أجل رداء الحياة المدهش.
تواصل الذات كشفها لذاتها وللآخر، ترسم التشكلات النفسية والاجتماعية فنجده يهدي لصديقه الشاعر نصاً يكشف فيه عن هموم الذات المشابهة له في الكتابة، فها هو شاعر يوقع كل البنات في حبائل حَرفه البهي، شاعر يجذب كل أنظار المستمعين له فيسلب انتباهم ويقدم لهم الدهشة الطازجة، إنه غواية الحرف. يستعير الكاتب صورة الشاعر في مواقف فيها من المفارقة والدهشة الكثير ليقدم لنا المتخيل الذهني لصورة المبدع التي يتمناها:
"الحبلُ الذي قفزتْ فوقَه كلُ بنات الشارع..
مُعلَّقٌ في آخر الضجيج مِشنقةً لجروٍ يعوي..
وسط ضحك الأطفال!.
يعلو صوت من داخل القاعة:
ـ انظروا إلى الحبل كيف يكون مصدراً للفرح وللموت؟!".
ولا يكتفي الكاتب عبر هذه اللغة الشعرية المكثفة بهموم الذات المفردة، الهموم والتفاصيل الإنسانية فقط، بل يقدم لنا نصوصاً فيها من الهم العام والسياسي الكثير لكنها تأتي بشكل فيه من الإيحاء أكثر ما فيه من التصريح، بل يستخدم الرمز أحيانا كثيرة لكشف الهم العام والسياسي، بل يصل الأمر إلى حد السخرية والمحاكاة الساخرة لمعالجة هكذا موضوعات، فنجده في قصة (التراب الوطني) لا يميل إلى الرمز كما في قصة (خط أحمر)، بل يميل للمحاكاة الساخرة، فها هم مجموعة من التلاميذ بصحبة معلمهم، في رحلة يحكي لهم عن حروب خاضها الأجداد لتحرير التراب الوطني، ويتحدث عن التراب الوطني بقداسة ورهبة، وحين يبول أحد الأطفال في مكان ما على البعد ينزعج الصغار ويصرخون، بل يجلده المعلم على تبوله على التراب الوطني:
"التراب الوطني يحاصر خطواتنا ..يكبلها ..يخنقها ..بدأنا نمشي على أمشاط أقدامنا وداخلنا إحساس بالخطيئة .. قبل انتهاء الاستراحة أطلقنا صرخة جماعية مهرولين باتجاه المعلم:
ـ يا أستااااااذ .. العَيّل بال عَ التُّراب الوَطنييييي!!
خَلَع مِعطَفَه الرمادي.. شمّر كُمّيه.. أَسرع مُلوحاً بعصا الزيتون:
ـ تعال هنا يا خَراء.. أنت اللي دَنّست التراب الوَطني؟! مدّ يَدّك.
وصرخ التلميذ من خلال دموعه:
ـ الله غالب يا أستاذ.. كلّه تراب وَطني.. وَيْن نبُول؟!"
وهكذا رأينا عبر سرديات متنوعة حياة وتفاصيل المجتمع الليبي بلغة طازجة ومدهشة، ونصوص موغلة في الوجع، وموغلة في الرمزية أحياناً، ومحاولات جادة لكشف المسكوت عنه في مجتمعه، المسكوت عنه سياسياً واجتماعياً. يمتلك الكاتب رؤية واعية بمشكلات مجتمعه، ورؤية عميقة تجاه الذات وعلاقتها بالآخر المفرد والجمعي.
***
2010

أَشْياءُ تَسْقُطُ مِنَ السَّماء

(إلى أنيس الرافعي)
1
... أسمائي كثيرة.. عنكبوت.. رتيلاء.. وفي لحظات الغضب.. وقبل أن يدوسونِي تحت أحذيتهم ينعتوننِي بالحشرة المقزِّزة.. يُلقِّبوننِي بـ(الأرملة السَّوداء).. هل هذا نوع من الْمَيْز العنصري؟ اللون شيء يسقط من السماء.. ماذا يَعنِي اللون بالنسبة للأرملة؟ ماذا لو كنتُ أرملة بيضاء؟ أو شقراء؟ هل سأبدو أقلّ توحُّشاً في نظر الآخرين؟
2
... على ذِكْر التوحُّش.. أنا لستُ مُتوحِّشة.. صحيح أنّ شكلي لا يدعو إلى الأُلفة.. بل قد يبعث الرجفة.. وصحيح أيضاً أنَّنِي آكل زوجي في فراش الزوجيّة.. لكنّ ذلك ـ ماذا أُسَمِّيه؟ ـ شيء عملي.. ما نفع الزوج بعد أن يزرع البذرة في داخل الأنثى؟ يتحوَّل إلى مخلوق كثير الثرثرة.. كثير الطلبات.. يُدير لها ظهره ويشخر.. لا يتورّع عن خيانتها.
3
... بِمناسبة أكل الزَّوج.. زوجات كثيرات يأكلن أزواجهنّ بطريقةٍ ما.. كُلّ ما في الأمر أنَّنِي آكل زوجي بقضْمة واحدة.. حتّى إنّه لا يُحسّ بالأَلَم.. بينما هناك زوجات يأكلن أزواجهنّ على دفعات.. قد تستغرق الواحدة منهنّ أربعين أو خمسين سنة.. لكنّها تأتِي عليه في آخر الأمر.. تَمتصّ كلَّ سوائله.. لا يبقى في النهاية سوى هيكل زوج.. جِلْد على عظم.. دون أدنَى شعور بالذَّنْب.. ولا تُوصَف بأنَها قاتلة.. لِمُجرَّد أنّها تأكل زوجها على مَهل.. بالتقسيط.
4
... على ذِكر الذنب والتوبة.. حتَّى لو تَخلَّيتُ عن عادة أكل الشريك.. فسأظلّ دائماً (الأرملة السَّوداء).. ماذا بوسعي أن أفعل؟ اللقب أيضاً يسقط من السماء.
***
(2008)

03 مارس، 2010

بعدستي...

صور التقطتها أثناء تجوالي.. لم أشأ أن يكون مروري عابراً..
الفم..
حامل النور..
الراعي..
بُناة القصور..
الصدَفة ليست للحماية فقط.. ألا ترون أنها جميلة أيضاً؟
عمر طويل.. ومكان محدود..
الدنيا فارغة..
حذاء مَن؟!