14 أغسطس، 2011

سقوط..

1

... الأطفال يستلقون على ظهورهم فوق العشب.. يشبكون أصابعهم خلف رؤوسهم.. يراقبون غراباً يحوم في دوائر.. يتقافزون.. يدورون في مطاردة ظل الغراب.. يعثرون على عش قبّرة...

ــ واااو.. أربع دحيات.

ــ منمّشة.

ــ النمش للتمويه؟

ــ كدنا أن ندوسها بسبب النمش.

ــ ملمسها ناعم.

ــ احذر.. فهي هشّة.

ــ ما الذي يحدث لهذه البيضة حين تسقط من يدي؟

ــ تنكسر بالطبع!

ــ تنكسر فقط؟

ــ يحدث انفلات لمحتوياتها.

ــ ما رأيك لو أُسقطها؟

ــ حرام!

ــ أربع بيضات.. القبرة ستكتفي بثلاث.

2

... يرفع يده.. البيضة بين سبّابته وإبهامه.. ترقبه أعين خائفة.. لا تخفي فضولها.

ــ ثلاث.. اثنين.. واحد.

يُسقط البيضة...

ــ عصفور!!

ــ انظر.. بدأ يحرّك جناحيه.

ــ كان على وشك أن يفقس.

ــ أرأيتم؟ لم يحدث انفلات لمحتوياتها.

ــ خذوا.. كل واحد منكم يُسقط بيضة.. لا ترفعوا أيديكم كثيراً.

3

... يضعون العصافير الأربعة في العش.. القبّرة الأم تطوف في الجوار.. تصيح.. تمد عنقها تجاه العش.

4

... الجنرال صوت مبحوح.. يحشرج من مكانٍ ما:

ــ إذا سقط النظام يحدث انفلات!!

ــ أمّي.. صدّقيني.. حين يسقط ستكثر العصافير!!

***

(2011)

05 أغسطس، 2011

الغنّاوة المقاوِمة ..

النص المختزَل الذي يُرعب السُلطة

(فصل من مخطوط كتاب (القذاذير) للكاتب أحمد يوسف عقيلة)

الأغنام تُشكِّل نوعاً من الْمجتمع الْمُوازي.. حتَّى إنَّها تأخذ أسماءً مُعَيَّنة تُنادَى بها.. وتُعرَف حتَّى الجيل الرابع.. وربّما أكثر.. لهذا وُظِّفت في الأدب الشعبي في الرمز لنقد السُلطة.. فالأغنام (الرعيّة) ترمز للشعب.. ولهذا مرجعية دينية من خلال تسمية (الراعي والرعية).. والراعي هو الحاكم.. وإذا كان الحاكم ظالماً تحول من رمز (الراعي) إلى رمز (الذيب).. وغنّاوة جَزّ الصُّوْف مُحملة بالرمز.. فظاهرها على الأغنام.. وباطنها غنّاوة عَلَم.. أوما يُمكن تسميته بالمَسْكُوت عنه.. وهو المَقصود.. وهذا نوع من التَّوْرِيَة.. وهذه التورية هي التي منحتها ومضتها الشعرية.. حيث أمكنَ من خلالها تهريب الكثير من المكابيت.. وما يهمنا هنا هو الرمز السياسي في نقد السُلطة.

للتدليل على أهمية الغنّاوة ـ هذا النص المختزل الذي يرعب السُلطة ـ فقد دفع الشاعر محمود بوشعيب الشهير بلقب (البولندي) حياته ثمناً لسبع كلمات فقط:

سَمْسارة هَوِيْد الليل ... كَدَّوا الضان وازَوا ثَنُوها.

يتحدث هنا عن الاعتقالات التي تجري آخر الليل.. ونعت السُلطة بالسمسرة.. السمسار الشرعي ينبغي أن يأتي في وضح النهار.. أمّا من يأتي تحت جنح الظلام فهو مشبوه.. والثنو: جمع ثني.. وهو الكبش الفتيّ.. بعد تجاوز الحوْل.. وتُجمع ثني على ثنيان أيضاً.. غير أن (ثنو) من جموع الكثرة في اللهجة الليبية.. فالشاعر يريد أن يدلل على كثرة المعتقلين.. نص مختزَل في مقابل ترهّل السُلطة.

في ثمانينيات القرن الماضي قال الشاعر:

الذيب ما القي قَنّاص ... يلقط مساربه نين يقتله.

وهو تحريض على قتل الحاكم.. مما جعل شاعراً آخر يقول:

إن زلت في اطراد الذيب ... بسلاح يا غلَم نين نقتله.

لكن حين ظهر موضوع توريث السُلطة في ليبيا رد الشاعر:

حَتَّى لُو قتَلْت الذِّيْب ... ايْجِي ولده ساطِي عَ الغَلَم.

فقتل الحاكم الظالم لن يحل المشكلة نظراً لأن وريثه هو ابنه.. والمثل الليبي يقول (ما ايجي لبوه غير الذيب).

بعدما اختلطت الأمور في ليبيا.. ولم يعرف الناس المسؤول من اللص قال الشاعر:

كاثِر جفِيْل الضان ... تَمّا كلبها كَيْ ذيبها.

حين كثر القتل في السجون وحرب تشاد قال الشاعر سليمان الشرّيمة:

ما من اغْذا قَزّنت ... قَزِّن ضناك يا ذِيْب يا الله.

عندما احتج الناس على قتل الجنود الليبيين في تشاد.. في حرب لا ناقة فيها لليبيين ولا جمل.. أنكر الحاكم موت أي جندي هناك.. بل أنكر حرب تشاد من أساسها.. فقال الشاعر عبدالكافي البرعصي:

علي مَن تريد اتخيل ... الراعي جحد ريحة الغذا؟!

فصغار االأغنام (الغذا) ترمز للشباب.. ومن المستحيل أن ينكر الراعي ضياع الغذا.. لأن الأمهات ستجأر بالصياح!

في موضوع حرب تشاد أيضاً وضياع الجنود الليبيين في الصحراء قال الشاعر عبدالعالي القطعاني:

تضّابَح غشَيْت الضان ... ازعَما يا اغذا وين منفرع.

المنفرع هو المنعزل التائه.. والكلمة جاءت من الفرع الذي ينفصل عن الأصل.

بعض الجنود المحاربين في تشاد عادوا معاقين.. فقال الشاعر اخويطر الواحدي:

سرَح سلِيْم حاش عَدِيْم ... الكَبْش يا الرّاعي تغرمَه.

فهو يحمّل الحاكم مسؤولية الإعاقة (عديم) التي لحقت بالجنود.

الشاعر يوسف الدريبي يتساءل عن المفقودين:

مَدّيتِي معاك رفيق ... حشْتِي بلاه يا ضان وينهو؟

بعد موت بعض أعضاء مجلس قيادة انقلاب سبتمبر 1969.. وهم اثنا عشر عضواً.. قال الشاعر:

كانن اطناشر ذيب ... اشوي اعدادهن حاتر ادعا.

فهو هنا يرجّح أن دعاء المظلومين كان سبباً في نقص أعضاء مجلس قيادة الانقلاب.

حين ضاقت الحال بالناس.. وعجز الكثير منهم عن تأمين لقمة العيش تناول الشعراء ذلك.. فقال الشاعر عبدالفتاح العقيبي:

حَلِيبِك كمَل تشْحِيْت ... وهلِك يا غَلَم في عازْته.

فهو ينتقد تبديد الأموال في الخارج مع احتياج الناس.. وفي رواية: (حَلِيبِك كمَل قانون).. والقانون: هو المقرّر المعلوم من الحليب الذي يُمنح للغير.

وقال آخر:

جواعَى ضناك وهَلك ... رعيانك لْمَن فيك يحلبوا؟!

يتساءل: أين تذهب الأموال والناس جياع؟!

وقال الشاعر إبراهيم سعد مجيد:

حالبِينِّك جِيْران ... وانْتِي اغْذاك مَوْتَى م العَطَش.

فهو هنا يُحدّد أن الأموال تُبدد على الدول المجاورة.

الشاعر يونس محمد بواشنابو يستغرب من وجود الكثير من الناس تحت خط الفقر مع كثرة خيرات البلد:

الضان حايْشة عَ البَيْت ... ضمّار والعَفا بارِم بْها!

ضمّار: جمع ضامر.. وهو الهزيل.

ويقول الشاعر آدم بوالنيّانية:

ربيعك اللي محجور ... ترميص بين جيرانك كمَل.

الناس ممنوعون من الحصول على خيرات بلدهم.. بينما يتناهبه الغرباء.. رَمص: تأخّر في الرّعي حتَّى الظلام.. الرّاعي يرَمِّص: أي يتأخر في العودة بأغنامه إلى ظلمة أوَّل الليل.

يستغرب آخر كيف كان خير البلد يطال الجيران.. ثم يأتي زمن تعجز فيه عن إعالة نفسها:

بعَد بيُوْضها للجار ... الضان في ضناها واحلة.

البيوض هو ما يعطَى للجار من الحليب واللبن.. جاء من البياض.

يقول الشاعر إبراهيم سعد مجيد منتقداً الحاكم لكونه دخيلاً:

لافِي علَيْها لَفو ... اللي حالِب الضان ما رعَى.

عندما مُنِع الليبيون من السفر إلى الخارج.. وفُرِض عليهم ما يشبه الستار الحديدي قال الشاعر:

عَلَيْها امْسَكِّر باب ... وراقِد هَنِي راع الغَلَم.

فهو يرى أن البلد تحولت إلى زريبة.

في نفس المعنى.. وهو التضييق على الناس.. يقول الشاعر:

زارِّينها رعْيان ... الضان لَيْ عَشاة ولَيْ نشَر.

العَشاة هي الرعي ليلاً.. والنشر هو الخروج من المراح.

الشاعر عبدالفتاح العقيبي يقول بأن سوء الحاكم لم يكن خافياً منذ البداية:

مِن يَوم وَقْفته في الضان ... الرّاعي اللي فِيْه بايتة.

اللي فِيْه بايتة: تعبير شعبي للدلالة على معرفة عواقب الأمور وحتميَّتها.

عندما قصف الرئيس الأميركي رونالد ريغان باب العزيزية.. وصفه الإعلام الليبي بـ(راعي البقر).. فقال الشاعر عبدالفتاح العقيبي:

اقطَر بصيد مسكونات ... الراعي كبر نار فوقهن.

القطَر: جمع قطرة.. وهي وكر الوحش.. تكون تحت الأرض أو الصخر.

قد يحسن الحاكم في بعض القرارات.. ثم فجأة يتخذ قرارات معاكسة.. فقال الشاعر يوسف الدريبي:

مريوح يا غَلَم راعيك ... حَنون وقت واوقات يلغبِك.

المريوح هو المجنون.. جاءت من الريح المتقلّبة.. يقولون في التعبير الشعبي: (فلان ريح بريح).. أي متقلّب المزاج.. واللغب هو الطرد.. ولاحظ أن الشاعر قال (حنون وقت).. بينما القسوة (أوقات)!

الشاعر مسعود اللواج ينتقد إهمال الحكومة لشعبها:

علي هلِك هنتي نين ... تردي اعطاش واعطاش تصدري.

بعد ثورة 17 فبراير 2011.. عبّر الشعراء عن نقدهم للسُلطة ومقاومتهم لها.. فحين لجأ الحاكم إلى مخبئه تحت الأرض في اليوم الرابع للثورة.. قال الشاعر إبراهيم سعد مجيد:

الضان قايلة للذيب ... يجيك يوم ترمي ع القطَر.

وقال الشاعر مسعود اللوّاج:

م الراعي وشِين اعمله ... خلاّك يا غلم حيلِك غفَد.

الغَفَد: جمع غَفُود.. وهي التي فقدت ولدها.

يستغرب الشاعر سعد بوخويدم من قسوة الحاكم الذي يُفترَض أن يكون راعياً شفوقاً يحميها من الذئاب.. لكنه تحوّل هو نفسه إلى ذئب:

يدير فيك دَورة ذيب ... تخطر عليك راعيك يا غلم؟!

الشاعر عبدالحميد يحيى ينتقد غطرسة الحاكم.. ووهمه بأنّ حُكمه سيدوم إلى الأبد:

يطّيشم عليهم هلِك ... يحسابها الراعي اتدوم له.

الشاعر مسعود اللوّاج يؤكّد أن الحاكم جنَى على نفسه:

بروحك لروحك جبت ... اطياح يا الراعي قِيمتك.

الشاعر سعد الصادق يمتدح الثوّار:

عليك ضايقة يا ذيب ... فزّاعة الغلم بارمين بك.

فَزّاعة: جمع فازع.. وهو المنجد.

الشاعر مسعود اللوّاج يُذكّر الحاكم بالقانون الإلهي: (كما تدين تُدان):

اللي درتّا في الضان ... من ظلم يا الراعي القيتّا.

حين تحدّث الحاكم عن تقسيم البلد بعد ثورة 17 فبراير.. قال الشاعر الشتّاي عبدالكريم بوسيف:

راعيها م الخير حرمها ... واليوم يريد يقَسّمها.

لقد كانت الغنّاوة بالمرصاد للسُلطة.. فهي برقية سهلة الحفظ والانتشار.. ومن رعب السُلطة من الغنّاوة قامت بتوظيف الشارحين والمؤولين ذوي الخبرة بدلالات الغنّاوة.. وهو نوع غريب من البوليس.. بوليس الغناوي!! لكنّ هذا ليس غريباً على أجهزة الأمن في ليبيا التي من بين مكاتبها: (مكتب مكافحة النجوميّة)!!

***

نُشر بصحيفة ميادين.. العدد 12.. بتاريخ الثلاثاء 2011.8.2

13 يوليو، 2011

لكم شاكيركم.. ولنا شاكيرنا..


(ملاحظات على إذاعة ليبيا الحرة المسموعة من البيضاء)
حين كنا نتحدث ونسخر من أكاذيب إعلام نظام القذافي.. قالت صحفية أجنبية بصراحة جارحة: (الثوار أيضاً يكذبون!!).. واكتفينا بالخجل.. فنحن لا نريد أن نكذب أيضاً على صحفية تستمع إلى إذاعات الثوار.. فإذاعة مثل إذاعة ليبيا الحرة المسموعة التي تبث من مدينة البيضاء.. وتحت حُجة الخطاب التعبوي.. انتهجت أسلوب الرد على أكاذيب إعلام النظام بأكاذيب أكبر منها.. على طريقة الصحّاف.. وكأنّ إعلام النظام قدوة.. وفي ماراثون الكذب هذا خسر إعلام الثوار المسموع المصداقية.. حتى إن الناس أطلقوا على إذاعة ليبيا الحرة المسموعة من البيضاء اسم (مكذبة راس التراب).
فحين تستمع إلى إذاعة ليبيا الحرة من البيضاء تكتشف أن الثوار قد دخلوا مدينة سرت.. وتجاوزوها إلى تاورغاء.. وأن طرابلس قد تحررت.. وأن الثوار قد قاموا بتمشيط باب العزيزية.. هذا طبعاً بعد رحيل القذافي إلى أوغندا!! وتناوله العشاء مع موسيفيني!! وأن شوال السكر في طرابلس تجاوز 400 دينار.. وأن عنزاً فبرايرية من معيز الجبل الأخضر قد أنجبت جدياً بألوان علم الاستقلال.. فإذا كان لإعلام القذافي شاكيره.. فلنا شاكيرنا أيضاً.. بل إن شاكيرنا قد تجاوز شاكيرهم بمراحل!!
فهل الخطاب التعبوي يعني الكذب؟ أم أن بعض المذيعين اكتشفوا فجأة أن الكذب على الأثير يجعلهم نجوماً برّاقة من نجوم الثورة؟ بعد أن كان كذبهم لا يتجاوز المرابيع والقعدات الخاصة.
الأخطر من هذا أن إذاعة ليبيا الحرة المسموعة من البيضاء قد تبنّت خطاباً قبلياً.. وأخذ بعض مذيعيها ينالون من بعض قبائل الجبل الأخضر بالاسم.. بل وصل الأمر بأحد المذيعين إلى أن توعد إحدى القبائل بالتصفية ابتداء من يوم السبت!! وهو خطاب تحريضي جعل بعض شباب هذه القبائل يجتمعون مسلحين لمهاجمة هذه الإذاعة لولا تدخل بعض العقلاء.. فهل هذا الخطاب المتصحّر الذي يستخف بعقل المستمع هو خطاب الثورة التي دفع الشعب الليبي ـ ولايزال ـ ثمنها غالياً؟ وهل هذه هي ليبيا الحرة التي حلمنا بها؟! وهل المجلس الوطني الانتقالي يتبنى خطاب هذه الإذاعة؟ وهل الخطاب الحر يعني الكذب باسم الثورة؟ فإعلام يعجز عن الارتقاء إلى مستوى رقي هذه الثورة لا حاجة له.. لأنه جعل الآخرين لا يجدون فرقاً بين إعلام الثورة وإعلام النظام.. فينبغي أن يكون هناك فرق بينك وبين عدوك.. وإلا فما الحاجة إلى محاربته؟
***
الخميس.. 16 يونيو 2011
نُشر بصحيفة ميادين العدد الثامن 5 يوليو2011

06 يوليو، 2011

تواريخ ...

... الرفاق يتحلّقون حول اللهب.. ظِلالهم تتداخل على الصخور المحيطة.. خيط الشاي الأخضر الساقط يرغرغ داخل الأكواب.. الرغوة تصعد إلى الحواف.

ــ من منكم يتفطن لخطاب الزعيم الذي ظهر فيه مرتدياً سروالاً قصيراً فوق الركبة؟

ــ أعرفه.. هو الخطاب الألف وستمائة للزعيم.

ــ ذلك الخطاب هو تاريخ زواجي.

ــ الخطاب الذي شتم فيه الأمم المتحدة؟

ــ لا.

ــ الخطاب الذي ألغى فيه الدستور والقوانين؟

ــ لا.

ــ الخطاب الذي قال فيه: (أوروبا صقع عليكم).

ــ (صقع عليكم) هو تاريخ ذهابنا للحرب في صحراء تشاد.

ــ خطاب الثمان دجاجات وديك؟ الذي ظهر فيه بلباس مرقط يشبه النمر؟

ــ لالا.. خطاب الثمان دجاجات وديك هو وفاة جدّتي رحمها الله.. وظهر فيه حاسر الكتفين.

ــ أنا تخرّجت في اليوم الذي ألقى فيه الزعيم الخطاب رقم أربعة آلاف وثلاثمائة.. الخطاب الذي قال فيه: (سنخرق الأرض ونبلغ الجبال طولاً).

ــ حطّيت نعناع؟ أنا حضرت مباشرةً الخطاب الذي قال فيه: (محمد مجرّد ساعي بريد).

ــ الذي صلّى فيه المغرب ركعتين؟

ــ لا.. الخطاب الذي شرح فيه أن المرأة تحيض.. والرجل لا يحيض!

ــ آه.. الخطاب الذي اكتشف فيه أن المرأة أنثى.. و الرجل ذكر!

ــ وأفتى فيه أن الخمر غير محرمة في الأماكن الباردة!

ــ ضع المزيد من الحطب.. والخطاب الذي قال فيه إن الجنة بالحظ؟

ــ ذلك لم يكن خطاباً.. كان كلمة تاريخية لم تتجاوز الثلاث ساعات.

ــ أنا لا يمكن أن أنسى خطاب الزعيم الذي قال فيه إن المثرودة ليست أكلة شعبية.

ــ ذلك قبل خطابه الذي قال فيه بأن البيبسي مصنوعة من أمعاء الخنازير.

ــ لا وأنت الصادق.. قبل الخطاب الذي هاجم فيه ربطة العنق.. وقال إنها تشبه الصليب.. وظهر فيه بلباس الساموراي.

ــ صحيح.. الخطاب رقم خمسة آلاف.

ــ لالا.. الخطاب خمسة آلاف هو الذي وضع فيه الزعيم الريش الأحمر فوق رأسه.. مثل الهنود الحمر.

ــ ذلك الخطاب سمّاه الناس (خطاب البوعبعاب).

ــ هو اليوم الذي توفي فيه أبي.

ــ أليس هو الخطاب الذي أفتى فيه بأن من حق المرأة أن تتزوّج أربعة رجال؟

ــ يبدو أنك غير متابع لخطابات الزعيم.. بل هو الخطاب الذي وضع بعده الحذاء على شاشة التلفزيون في وجوه المشاهدين.

ــ صحيح.. ذلك تاريخ ذهابنا للقتال في أوغندا.

ــ وخطاب الناقة؟

ــ أي ناقة؟

ــ الناقة التي سقط من فوقها وكُسرت ساقه.

ــ آه.. أذكر ذلك.. كان بعض مريديه يرتدون اللباس الأخضر الفضفاض.. ويستعدون لملاقاته بالدفوف وهو فوق الناقة.. وينشدون: (طلع البدر علينا).

ــ يا خسارة.. البدر طاح من فوق الناقة!

ــ يوم سقوط الزعيم من فوق الناقة هو مولد ابني البِكْر.

ــ حَرّك الجمر.. من منكم يذكر أول خطاب للزعيم المزمن؟

ــ أنا لا يمكنني أن أذكره.. فلم أولَد بعد في ذلك التاريخ.

ــ هههه.. أنا يستحيل أن أتذكّره.. فأبواي لم يتزوجا بعد.

ــ حتى أبي لم يولد بعد!

ــ تأخّر الليل.. ألم تلاحظوا أن الشاي أخضر؟

ــ هاهاها.. البحر الأخضر المتوسط!

ــ للأمانة.. الزعيم له نوادره.

ــ أخشى أن الديمقراطية ستأتينا برئيس جادّ.. يرتدي بذلة أنيقة.. ويخطب باقتضاب من ورقة.

ــ غريب! هذه أول مرة أسمع أحداً يخاف الديمقراطية!

ــ أنا سمعت خطيباً سلفيًّا يقول: (الديمقراطية دِين الكُفّار).

ــ ويصف الثوار بأنهم خوارج عن طاعة ولي الأمر.

ــ مضحكة حكاية ولي الأمر هذه.

ــ صبّ طاسة أخرى.. يا الله.. سنفتقد طرائف وقفشات وليّ الأمر!

***

(السبت 2011.6.4)

04 يونيو، 2011

الرَكْمجة في زمن الثورات

(من يوميات ثورة 17 فبراير في ليبيا)

1

في أعراسنا الشعبية يشرعون في التحضير للعرس قبل شهر أو أكثر من موعده.. فهناك الكسوة.. والذبائح.. والأكل.. والكوشة.. والدرابيك.. والهدايا.. والخيام.. والطناجر الضخمة.. والقصاع.. وألف ملعقة على الأقل.. والمصابيح الملونة.. والخلوط.. والحلويات.. وسيارات الزفة.. وسيارة فارهة للعروس.. والبالونات.. والخراطيش ذات الفوهتين.. وكاميرا فيديو.. وإذاعة كاملة للسهرة.. وحتى محرك كهربائي تحسباً لانقطاع الضوء.. الحاصل.. لجان لكل مهمة.. حتى لجنة للرصد الجوي.. فالعرس ينبغي أن يكون في أجواء مشمسة لا ريح فيها ولا عجاج.. والجيش الذي يقف وراء تجهيز هذه الخدمات يسمى (العَوّالة).. ويوم العرس.. ومن مكان غير منظور ـ كما يقول معلقو مباريات كرة القدم ـ يظهر شخص ما.. يأمر وينهى.. ويستقبل الضيوف.. يربط رأسه بمنشفة من شدة الصداع جرّاء الجهد الخارق الذي يسبق العرس! بينما هو في الواقع لم يظهر إلا يوم العرس.. هذا النموذج يسمى في التعبير الشعبي (تَيناح).. وهو نموذج للمركمج الاجتماعي.. أي راكب الأمواج.. سارق جهد الآخرين.. جُهد العَوّالة.

2

في المحافل والمهرجانات الثقافية.. وقبيل كلمة الافتتاح بدقيقة.. يصعد شخص فجأة.. لا تنقصه الأناقة.. يلتقط الميكرفون.. يرحب بالضيوف.. معتذراً عن قلة الإمكانيات.. فكل شيء تقريباً بالجهد الذاتي.. كل هذا وسط دهشة اللجنة المشرفة على المهرجان (عَوّالة المهرجان).. هذا نموذج آخر للمركمج.. تيناح المهرجانات.

3

حين اندلعت ثورة 17 فبراير في ليبيا.. سقط النظام في أربعة أيام.. حيث انزوى القذافي تحت الأرض في باب العزيزية في اليوم الرابع.. مفجوعاً هلِعاً من سرعة سقوط النظام.. لكن انزواءه كلف الكثير من الدماء.. وقال بعضهم ساخراً بأن الشعب الليبي أصدر كتاباً صغيراً بعنوان: (كيف تُسقط ديكتاتوراً في أربعة أيام بدون معلّم).. وفجأة ـ وهذه الـ(الفجأة) مهمة جداً على الرغم من تكرارها الذي قد يؤدي إلى الملل ـ ظهر مذيعون وناطقون رسميون من تحت الأرض أو من فوقها أو من كوكب آخر.. المهم أن الكثير منهم لم يره أحد في الأيام الأولى حتى في المظاهرات السلمية.. بل حتى في تشييع جنازات الشهداء.. وحين تحررت المدن ظهروا فجأة من مخابئهم كما يظهر الذباب.. وسط تساؤلات واستغراب (عَوّالة) الثورة.. واستولوا على الإذاعات المحلية.. وأخذ بعضهم يكيل السباب والشتائم للنظام.. وللقذافي شخصياً بنفس خطابه وأسلوبه الحصري في الشتائم.. بل أخذوا يهجون القذافي بأنه يهودي.. فأي خطاب هذا الذي يجعل من الديانة أو العرق أو اللون مسبّة وشتيمة؟! بعضهم استخدم نفس خزعبلات شاكير.. فحين ظهر علينا شاكير بمعجزة الدجاجة التي باضت بيضة خضراء.. رد أحد مذيعينا الطارئين بأن هناك عنزاً في الجبل الأخضر أنجبت جدياً برأس أحمر.. ووسط أسود.. ومؤخرة خضراء.. بألوان علم الاستقلال الثلاثة!! على طريقة محاربة العدو بنفس خزعبلاته.. وتحت أسلوب (ما من كذبة إلا وهناك كذبة أكبر منها).. هذا رَكْماج الإعلام المسموع المحلي.. تيناح الإذاعات المحلية.. الذي جعل الناس يفقدون الثقة في مصداقية هذه الإذاعات.. حتى أطلق بعضهم على هذه الإذاعة اسم (مَكذبة).

4

حين زرت ميدان التحرير ببنغازي رفقة الصديق عبدالمجيد الفائدي مرت من أمامنا سيارة فارهة ذات دفع رباعي بها مجموعة من الشباب يتأبطون بنادق كلاشينكوف.. مع تقطيبة.. ونظرة صارمة.. وشفاه مزمومة.. يربطون رؤوسهم بعلم الاستقلال.. فقلت لصديقي عبدالمجيد الفائدي ساخراً: (هؤلاء هم اللجان الثورية لثورة 17 فبراير)!! فهم نفس مظهر اللجان الثورية.. وأخشى أنهم يستخدمون نفس أساليبهم.. فالثورة لم تكن من أجل إسقاط حاكم فرد ديكتاتور فقط.. بل كانت ثورة لتغيير أساليب حكم وحياة بالكامل.

5

آخرون ركبوا الموجة بطرق مختلفة.. ليس للظهور.. بل على العكس.. للاختفاء.. فبعضهم استغل فتح مخازن المعسكرات واستولى على آلاف البنادق.. وأخفوها في بيوتهم.. بينما الثوار يفتقرون إلى السلاح.. بل بعض من نهبوا الأسلحة أخذوا يبيعونها لمن يدفع أكثر حتى لو كان من اللجان الثورية.. هؤلاء ليسوا مجرد راكبي أمواج.. بل تجار أزمات.. وخونة.. إذا أردنا ألا نتحرج في تسمية الأشياء بأسمائها.. فقد ساهموا في جرائم الحرب والإبادة التي ارتُكبت ضد الشعب الليبي.

6

مركمجون كانوا في الخطوط الخلفية للجبهة.. لا يفعلون شيئاً في الظاهر سوى الانتظار.. وإعداد الشاي.. والنظر إلى السماء.. في انتظار ماذا؟ لم يطل الوقت كثيراً للإجابة عن هذا السؤال.. فبمجرد تضرر بعض الآليات من القصف قاموا بشحنها والعودة بها.. هؤلاء هم الربّاشة.. يبدو عملهم لا غبار عليه لأول وهلة.. لكنه ليس كذلك.. فمن غير الأخلاقي أن يقدّم أناس أرواحهم من أجل تحرير البلد.. بينما يتربص آخرون بالآلات كغنائم.

7

المركمجون موجودون في كل ثورة.. وفي كل أزمة.. البهلوانيون.. التيناحة.. هم دائماً جزء من المشهد.. لكن لا يمكنهم أن يشوهوا ملحمة الشعب الليبي التي قدّم فيها قوافل من الشهداء.. وانتزع حريته وهو أعزل سوى من إيمانه بعدالة قضيته.

8

نسيت أن أحدثكم عن الركمجة.. أعني ركوب الأمواج.. فراكبو أمواج المحيط يلتقطون ألواحهم.. وينتظرون على الشاطئ.. ينظرون بتمعن إلى الأمواج لاختيار التوقيت وركوب الموجة المناسبة.. كنت أعتقد أن هذا في المحيط فقط.

***

السبت.. 2 إبريل 2011

28 فبراير، 2011

فارق التوقيت ..

حين حدد الشباب الليبي تاريخ (17 فبراير 2011) يوماً لانطلاق غضبه المكبوت.. ظهرت على الفيس بوك صفحات جديدة تحمل صور الزعيم المزمن.. تتستر خلفها أسماء مستعارة.. وشرعوا يهددون كل من يدعو إلى التظاهر السلمي.. فهاجمناهم ودعونا إلى حظرهم من صفحاتنا.. وقد كان.

وحين انطلقت الانتفاضة السلمية في الشارع قام نظام القذافي بحرق المراحل في مواجهتها.. فلم يستعمل خراطيم المياه.. ولا القنابل المسيلة للدموع.. ولا الرصاص المطاطي.. بل الرصاص الحي الخارق الحارق المضاد للدروع.. ومضاد الطيران.. فالصدور الحاسرة للشباب الغاضب أكثر خطراً على الأنظمة الديكتاتورية من الدروع والطيران.

أنا أتفهم عدم استعماله القنابل المسيلة للدموع.. فهو يعرف أن الليبيين لم تعد لديهم دموع.. فقد استنزفها حين سلّط عصابات اللجان الثورية لشنق الطلبة في الجامعات ونقل الشنق على البث المباشر في التلفزيون وفي رمضان.. ثم قتل أبناء الليبيين في صحراء تشاد ومجاهل أدغال أفريقيا.. ثم ارتكب مجزرة سجن أبوسليم.. هذا غير السجون المكتظة تحت الأرض وفوقها.. وقصف أودية وغابات الجبل الأخضر بقنابل النابالم المحرّمة دولياً.. والجبال السوداء في رأس الهلال لا تزال شاهداً على ذلك.. فالليبيون أدركوا أن ذرف الدموع مرحلة انتهت.

مرتزقة القذافي وأسلحته الأوتوماتيكية التي استعملها منذ اللحظة الأولى في مواجهة الانتفاضة السلمية تفاجأ أنها لم تُجد نفعاً.. وحين سال الدم الليبي الأحمر القاني الفائر الغزير تنفّس الغضب المكبوت لعقود.. فحتى المترددون خرجوا لمواجهة الرصاص الحيّ بصدور مشرعة.. وبعيون تنظر مباشرة في وجه الموت.. لم ينكسر خوفهم وحسب.. بل أخافوا الخوف نفسه.. وسيسجل التاريخ أن القذافي هو أول رئيس دولة يستأجر الأجانب لقتل شعبه..!!

وتحوّل الديكتاتور من خانة المتسلط المخيف.. إلى خانة الخائف المنزوي في جحر تحت الأرض.. وبدأ يبحث عن أسلحة جديدة.. فشرع يخيف الغرب ببعبع الإسلاميين.. وهجرة الجنوب.. والحروب الأهلية.. وأخذ يتحدث عن القبلية وكأن الليبيين لا يزالون يعيشون في نجوع ومضارب يغزو بعضهم بعضاً.. ونسي أنه لم تعد هناك قبيلة في ليبيا من الناحية الواقعية.. فتجد العبيدي وزوجته برعصية وأمه حاسية وجدته لأمه مسمارية وجدته لأبيه ادرسية.. أي تجد في الأسرة الواحدة أحياناً أكثر من خمس أو ست قبائل.. ولعب على مسألة الشرق والغرب.. ونسي أيضاً أن الشرق والغرب في ليبيا هو مجرد توصيف جغرافي فقط.. ونسي أن الشباب المنتفض هو شباب الفيس بوك.. وليس شباب النجوع.. وتخويف الليبيين بالقبلية هو مثل تخويف المصريين في ميدان التحرير بالجمال والحمير.. أسلحة من زمن غابر.

لقد نسي القذافي أن الأزمات توحد الناس.. فحين جاء الطليان إلى ليبيا كان الليبيون في ذلك الوقت بالفعل مجموعة من القبائل التي يتقاتل بعضها.. فوضعوا كل خلافاتهم جانباً ووجهوا سلاحهم إلى المحتل.

إن السبب الجوهري لسقوط الديكتاتور ـ من وجهة نظري ـ هو فارق التوقيت.. فالقذافي لم يستطع تجاوز اللحظة التي استولى فيها على السلطة في سبتمبر 1969.. فظل يراوح في مكانه.. يرفع قبضتيه في الهواء ويسب ويشتم منتشياً بأصوات الهاتفين المطبلين له.. ولم يستطع الخروج من هذا الوهم حتى فاجأته ثورة الشعب الليبي.. ثورة شباب ولدوا جميعاً في عهده.. فرض عليهم مقولاته وأطروحاته في المناهج الدراسية.. مادة المجتمع الجماهيري.. والوعي السياسي.. وبراعم وسواعد وأشبال الفاتح.. ولأن الباطل زهوق.. فلم يفلح القذافي بكل وسائله في محو وطمس الهوية والشخصية الليبية الأصيلة.. وحوّل الليبيون مقولات الزعيم المزمن إلى مادة للسخرية.

ولأن القذافي متأخر دائماً في التوقيت فقد جاءت حلوله للأزمة مضحكة.. فهو يعرض الأموال الطائلة على الليبيين بعد أن قتل أبناءهم.. فقالوا له دون أدنى تردد: (هيهات)..!! ثم يقوم بالإعلان على أن الحكومة تزيد المرتبات بنسبة (150%).. ونسي أيضاً أنه لم تعد هناك حكومة أصلاً.. فيستنجد بمشائخ السعودية لإصدار فتوى بتحريم التظاهر.. فيرد الشيخ عائض القرني مؤيداً فتوى الشيخ الليبي الصادق الغرياني الذي أفتى بوجوب الخروج وقتال النظام.. فمنذ متى والقذافي يهتم بالدين وفتاوى الفقهاء؟!

وإذا كان زين العابدين قد فهم وهرب.. ومبارك قد فهم وعاند وتنحى.. فإن القذافي لم يصدّق.. فصرخ بصوت متهدج مبحوح: (من يصدّق؟ هذا عقابها؟ معقولة يا عالم؟ هذي آخرتها؟).

ولأن القذافي لا يستمع إلا إلى نفسه.. فهو لم يسمع ولم ينتبه إلى أن الشباب الليبي كتب في صفحاته على الفيس بوك.. قبل يوم السابع عشر من فبراير.. كتبها الشاعر سالم العوكلي تحديداً: (على الحاكم المقيم خارج شعبه أن يراعي الفارق في التوقيت).

***

الأحد.. 27 فبراير 2011

12 فبراير، 2011

كائنات أحمد يوسف عقيلة ...

قراءة في الخيول البيض

بقلم الشاعر: مفتاح العمّاري

إننا نتعرف على آلاف الأشخاص.. لكننا سننجذب فقط إلى القلة الذين يحوزون على سرّ ما.. يجعلهم يستأثرون باهتمامنا وعنايتنا.. القلة الذين نتعاطف معهم وجدانياً.. و الذين من ثم سيشكلون جزءاً من نسيج تجاربنا وخبراتنا ومعارفنا.. ينطبق هذا القول على الكتب والأمكنة.. وكذلك النساء.. ففي رحلتنا مع الكتب ستختلف وتتنوع وتتعدد المحطات والعواصم والظلال.. ثمة كتب نمرّ بها مروراً سريعاً عابراً.. ولا تقتضي منّا كثير جهد أو وقت أو عناء.. لأنها لا تملك ما تقوله أو تدّعيه.. فبعضها قد يشعرنا بالملل بدءاً من الصفحات الأولى بحيث تتعذر مواصلة السفر معها أكثر من بضع لحظات لنغادرها متأففين مستائين.. بعضها ربما يحتمل تحايله أو تذاكيه الرفقة على مضض.. تحسبا لخبء جميل قد يكون مندساً.. ولكننا ما نلبث بعد حين أن نكتشف خديعة الملفوظ.. لنخرج كما يقال - بخفيّ حنين -. غير أن المؤانسة قد تستمر دهراً مع الندرة التي تغدق علينا من السحر ما قد يفيض أحياناً عن حاجتنا.

هذه التقدمة.. وهي تشير بتلطف إلى ما يندرج في خانة البديهيات.. إنما تطمح لشيء من التبسيط بغية التدليل على الأبهى في تفرده.. والذي يجعلنا نتوقف عنده وحده دون غيره.. ونصفه ونسمّيه.. ونبحث له عمّا يليق به من مديح.. اعترافاً وإنصافاً لما يبثه فينا من روح سخية.. ستظل دائماً وهّاجة وجامحة وتائقة ونضرة.. هذه هي الشراكة الحقّة التي علينا أن نحرص كل الحرص على تمتين عراها.. مع المتن المقروء ودعم روافدها.

يتعلق السحر هنا بكتاب (الخيول البيض) للقاص الجبليّ (أحمد يوسف عقيلة).. الذي بدأ واثقاً منذ البدء من ضراوة حلمه.. فأشار علينا أن نتبعه مأخوذين بشيء ما.. يكمن في ثنايا أسطورته.. ونحن حين نتساءل عن ماهيته.. عن سطوة هذه الكاريزما.. عن هبات العلو فيه ومعه.. عن المغويات التي فخختنا.. عن وعن.. أنما نلبي الشغف ذاته في إعادة كتابة المقروء.. قد نعزو في بساطة أن جبروت المخيلة ما كان له أن يبلغ هذا السمو لو لم يستحوذ على ذلك الشغف الحار وهو يغزو فضاءه بوَله المحبّ.. الشغف نفسه الذي ما يلبث أن يتلبسنا إزاء القراءة.. لأن ما كُتب بشغف.. سيُقرأ بشغف أيضاً.. كذلك على الكلمات أن تحذو الحذو ذاته.. الكلمات التي منحته هذا القدر أو ذاك من البهاء.. الكلمات.. ذخيرة الكاتب ولعبته.. والكلمات أيضاً.. لُحمة المتن ونسيجه في العالم الذي تتوخى إعادة خلقه من خامات ملقاة على الطريق.. وهو ما يتكفّل القاص في (الخيول البيض) بمهمة اكتشافها.. ليجعلنا نرى ما لم نره.. وكأنه يصقل المرايا بالقدر الذي يتيح لنا معرفة عالمنا بصورة مغايرة.. لم نتعوّدها.. أعتقد أن أي كاتب أصيل عليه أولاً أن يتفهّم هذه المعادلة.. ويقترب من لدنها.. ويتعلّم طقوسها ومراسمها وعاداتها وتقاليدها.. حتى يتمكن من امتلاك المفاتيح الكفيلة أولاً وقبل كل شيء بفك مغاليق سيمياء المحيط. وقد أدرك (أحمد يوسف عقيلة) هذا الشرط جيداً.. فنجح في الوصول مبكراً إلى مخابئ الكنز.. أي منذ مجموعته القصصية الأولى كان على دراية تامة بما يفعل.. لهذا تفوّق في رحلة سرده على مجانية المتاه.. ليضفر بصيده دونما حاجة للغو.. فبأقل الكلمات تعقيداً وأبلغها اختزالاً وتكثيفاً وتبسّطاً.. استطاع هذا الحاوي أنسنة غابة الجبل الأخضر.. وترويض وحوشها لتتضافر جميعها في صناعة جملة سردية بالغة المعنى.. حيث لا يسع الخيال وحده أن يكون إبداعاً ما لم ترضخ اللغة لمشيئة رؤاه.. هذا تحديداً الشقّ الأهم في كاريزما هذا الفحل.. زوج الغابة.. ومروّض الفتنة.. وهاتك السرّ.. وسائس المعنى.. لأنك عندما تريد أن تصنع أدباً ليس بالضرورة أن تكون لغوياً.. بل عابداً خاشعاً للغة.. وعاشقاً متيماً يحدس حلم حبيبته.. ويسبر أغوارها.

لهذا لا يسع القراءة إزاء قصص (أحمد يوسف عقيلة) إلا أن تستسلم لطغيان الخيال الباذخ.. ولاسيما في (الخيول البيض) حيث يبرهن هذا الجبليّ البارع على مقدرة فذة في إيقاظ الأشياء وبث الروح في الكائنات التي شبعت موتاً.. صياد ماهر وقنّاص دُربة للانقضاض على كائنات ومخلوقات بيئته الجبلية.. بل يعد الأبلغ دراية.. والأوفر خزيناً وخبرة وتجربة بما ينطوي عليه المكان من معارف وأشياء وأسماء.. كذلك ما تدخره ذاكرته من كنوز ووقائع وأحداث.. مما جعل قصصه مدونة ثرية.. ومعجماً حافلاً بكل المخلوقات المكابدة والجسورة.. بل والمتشبثة هي الأخرى بحياة عليها أن تستمر على الرغم من غوائل الغاب.. وتقلبات الطبيعة.. وشحّ المواقيت الخائنة.. من حيوانات وحشرات وطيور بلدته الجبلية الصغيرة المتاخمة لوادي الكوف.. (ماميللى) التي سُميت (عمر المختار).. تظل محظوظة جداً بهذا العرّاف الذي استطاع أن يحشد كل أساطير وخرافات ومأثورات الحكمة التي توارثتها المنطقة.. لتأتي قصصه من جهة أخرى بمثابة موسوعة للأمثال والحكم الشعبية.. بهكذا سرد قد استطاع.. وباقتدار.. أن يلامس مناطق شديدة التنوع والحساسية والتطلّب.. لذا تعدّ قراءته ضرورة ملحة.. ومجدية.. ليس لمعرفة المكان وحسب.. بل لإشباع ذلك الشغف الذي يظل دائماً في حاجة لمثل هكذا كتابة تتضافر في خلقها العديد من الروافد الفنية.. لشحن الوجدان بطاقة روحية.. تتوفر على فيض من التدفق والخصوبة.. يتاح عبرها السفر إلى مجاهل لم تكتشَف بعد.. فعبر خصائص السرد التي تتوفر على جملة من التراكيب الأسلوبية.. تشي بمعرفة طموحة.. ومثابرة شديدة الإخلاص للكتابة.. هي بامتياز كتابة تدل عليه هو وحده (أحمد يوسف عقيلة) كقاص شديد الندرة من حيث تفانيه إلى حد الفناء في خدمة نصوصه.. يكرس كل ما يمكن أن يجعل هذا النوع السردي على علاقة وطيدة التماس بحساسية العصر وذائقته من جهة.. ومن جهة أخرى لأنه الأبلغ تعبيراً عن الهوية.. فقصته تعد لصيقة إلى حد الانصهار ببيئتها.. إضافة إلى خاصية اللغة المستخدمة.. حيث يبرع القاص في استخدام المفردات الذكية التي تليق بسارد حاذق يعرف ماذا يريد.. من دون أن يهمل استدراج الألفاظ المستعملة في المحكيّة.. أسماء الأشياء والأمكنة والشخوص.. بحيث يستأنس الأسماء المحلية ليسبغ على قصصه درجة عالية من المصداقية.. كما نجده أيضاً يوائم بين الأرض والسماء.. لتتجاور مفارقات اليومي والمعيشي مع الميتافيزيقي.. ضمن أنساق درامية تنطوي على حمولات شعرية.. متقاطعاً في يسر وبداهة مع واقعية سحرية.. مكتظة بكل ما هو غرائبي وعجائبي ومدهش.. لهذا أعترف كقارئ يدّعي الإنصاف في احترام الأصيل والجديد والمختلف.. بأنني حيال سرد (أحمد يوسف عقيلة) أجد متعة عالية كلّما استعدت قراءة كائناته التي تهبني قدراً من البهجة والطمأنينة والتأمل.. لهذا قد احتل هذا الساحر موقعاً مرموقاً في مكتبتي.. ليصطف جنباً إلى جنب بين أفراد عائلتي الأثيرة.. أي في مصاف النخبة الذين أحرص على مسامرتهم بين الحين والآخر.. حيث حرصت أن يكون كتاب (الخيول البيض) قريباً من: مرآة الحبر لبورخيس. والخيميائي لباولو كويلهو.. والمجوس لإبراهيم الكوني.. ولا ريب في أن يحوز هذه المرتبة.. وذلك بفضل ملَكته الآسرة.. والتي بقدر ما أعلنت عن نفسها في ما أنتجه حتى الآن من قصص قصيرة.. إلا أنني أحدس بأن المنتظر سيكون مفاجأة لتاريخ الأدب.. لأن (عقيلة) في ما عبّر عنه سابقاً لا يعدو عن كونه محض مقدمة لكتابة أدب عظيم.

قرأت هذا الجبلي منذ الربع الأخير من عشرية تسعينيات القرن الماضي.. وقد تأجل رأيي بصدد كتابته كل هذه الفترة.. ربما لأسباب تتعلق بكتابته نفسها التي لا تقول كل شيء دفعة واحدة.. فهي تستدرجك إلى قراءات لا تنتهي.. فلكل قراءة لذاذتها ومتعتها واكتشافها وتأويلها.. وربما لأنه يثابر بفيض عارم من الوفاء منقطع النظير.. يهبه القدرة على السفر المتواصل في مجاهل القَصّ.. بروح الرحّالة والمغامر والبحّاثة والمكتشف الأثري.. بغية تهيئتنا.. وعلى نحو دائم للتنقل معه.. من عوالم مدهشة إلى أخرى أشد دهشة.. وأبلغ أثراً.. وأكثر سحراً.

في (الخيول البيض) لكَم يبدو العالم بكراً وطازجاً وبريئاً.. حين نلامس لأول مرة الضفاف التي لم تطأها مخيلة بعد.. نحن هنا إذ نكتشف المكان.. إنما نكتشف أنفسنا.. لأن الحقيقة والمجاز يؤكدان دونما تلكؤ بأن الكتابة الأكثر تغلغلاً وبقاءً هي تلك التي تنقّب داخل أحلامنا.. وهذا ما فعله هذا الجبليّ.. إنه ببساطة.. حاول أن يشاطرنا رؤاه دونما خجل.. لنكتشف بأننا جميعاً من سلالة الأحلام ذاتها.. وأن ما يشذّ في هذا الحيز أو ذاك من السرد.. إنما لأننا قد جُبلنا أحياناً على الاستئناس بعثرات المخيّلة.. لذا نشعر غالباً بضرورة الإصغاء كلّما تربّع حَكّاء في مثل إعجاز مخيّلته على سُدّة الحكاية.. وهم قِلّة في زمن أمست فيه الحكاية تأخذ لها أشكالاً ممسوخة.. تفقدها غالبا لذة السفر.

____________

صدرت طبعتها الأولى عن الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان بليبيا1999.. وطبعتها الثانية عن دار الحوار بسوريا2010.. وطبعتها الفرنسية2005.

04 فبراير، 2011

رفقاً بليبيا ..

تقول الإحصائيات إن ثلاثة أرباع الشعبي الليبي تحت سن أربعين عاماً.. الشاب الليبي يبلغ أربعين عاماً دون عمل.. دون زواج.. دون سكن.. دون سيارة.. وعلى الرغم من ذلك لا نسمع اعتداءً على مصرف.. أو مؤسسة.. أو سوق.. على الرغم من أن حراسة المصارف والأسواق في بلادنا ليست مشددة.. بل لا تكاد تكون حراسة بالمعنى المعروف.. قُطّاع طُرق الدينار والدولار معروفون.. أصحاب المشاريع الوهمية.. والقصور.. والمزارع.. والأرصدة بكل العملات الصعبة والسهلة داخل البلاد وخارجها.. والسيارات الفارهة التي نجد صعوبة في نطق أسمائها.. ونمر بالقرب منها على أرجلنا ونكتفي بالنظر إليها من بعيد وهي أشبه بالمركبات الفضائية.. ونتساءل: هل نحن ليبيون حقاً؟

رفقاً بالشباب الليبي المحروم ورغم ذلك لا يمد يده.. ولا يعتدي على الممتلكات.. استجيبوا لمطالبه الأساسية.. دون تفضّل أو مِنّة.. قبل أن يرفع سقف هذه المطالب.. وتفقد البلاد الأمن والأمان.. الشباب الليبي لا يؤمن بأي شكل من أشكال العنف.. فلا تجبروه على فعل شيء لا يؤمن به.. هل تعتقدون أن الشباب الليبي لا يسمع ولا يرى؟ من هو الذي لا يتفرّج على قناة الجزيرة؟ حتى الذين يلعنونها لا يفوتهم حصاد اليوم..!!

***

الجمعة 2011.2.4

01 فبراير، 2011

اللعنة على الوطن..!!

1

في طفولتي سمعت حكايات الحرب ضد الطليان.. وعرفت أن جدّي لأمي قُتل في تلك الحرب.. وعمّي شطرته قنبلة إلى شطرين.. وأبي تزوّج أمي في معتقل المقرون.. وكل من استمعت إليه كانت له حكاية عن الموت والفقد.. وتقول أمي وهي تشير إلى أثر الشظية في رقبتها: (كل هذا على شان الوطن).. وعلى الرغم من أن كلمة الوطن لم تكن واضحة في ذهني.. إلاّ أنني تصورته شيئاً عظيماً يتلقى الناس شظايا القنابل في رقابهم من أجله.. بل ينشطرون من أجله.. ويزغردون لمن يتدلى من حبال المشانق في سبيله.

2

سمعت أبي يتحدث عن النفي.. وكيف ينتزعون الرجل من بين أطفاله ويعبرون به البحر إلى جزر نائية.. وأبي حين يذكر البحر يغمض عينيه مع ارتعاشة خفيفة.. ويقول في ختام حكايته (كل هذا على شان الوطن).. وكبرت صورة الوطن في نفسي.. هذا الكائن العجيب الخرافي الذي يغادره الناس من أجله..!

3

في المدرسة انتزعونا من الفصول في يوم بارد ماطر.. جمعونا في ساحة المدرسة.. وقالوا لنا: (الوطن في خطر.. قطار الموت يتجه نحونا بسرعة فائقة).. وقلنا ضاحكين: (كيف لقطار الموت أن يأتينا وليست في بلادنا سكة حديدية؟!).. وكانت الإجابة عند الضابط.. صرخ فينا.. وأعطانا إيعازاً بالانبطاح.. زحفنا على بطوننا.. تلقينا أحذية العساكر على مؤخراتنا.. مع سيل من الشتائم النابية.. وحين نهضنا مقرورين.. مموّهين بالأوحال.. ورُكبنا تسيل دماً.. ورآنا الضابط نرتجف.. قال لنا وهو يضحك.. (كل هذا على شان الوطن).. أحسسنا بشيء من الزهو لأننا زحفنا على بطوننا في الأوحال.. وداستنا الأحذية الخشنة من أجل الوطن..!

4

سمعت مذياعنا يغني للوطن:

وطنّا يا وطنّا..

في الظرف الشديد..

أنده يا وديد..

ندفع بالغالي النفيس..

واقرب من حبل الوريد..

والغالي يصبح لك رخيص.

5

فجأة.. اصطفت الحافلات.. وقال لنا الضابط.. (هيّا.. حملة تشجير).. لكنّ الحافلات دخلت إلى المطار العسكري.. وحملتنا الطائرة الروسية الضخمة على الفور إلى الصحراء.. وحاربنا هناك بعيداً عن الوطن.. حاربنا أناساً لا نكرههم.. بل لا نعرفهم.. وقال لنا الضابط (هذا على شان الوطن).. لكننا لم نصدّقه هذه المرّة.. ففررنا.. تركنا سلاحنا.. ورفاقنا الذين قُتلوا بدون أن ندفنهم.. تركناهم هناك بلا قبور.. ولا صلاة من أجلهم.

فاللعنة على وطن يجعلنا ننبطح ونزحف على بطوننا في الوحل.. اللعنة على وطن يجعلنا نتلقى أحذية العساكر في مؤخراتنا.. اللعنة على وطن يبذرنا في المنافي.. اللعنة على وطن يتحول إلى غول تنشطر أجسادنا من أجله دون أن يشبع.. اللعنة على وطن يُصفع فيه بائع الخضار لأن عربته التي أكلها الصدأ مرّت من أمام مبنى الحكومة الصدئة.. اللعنة على وطن يحارب فقراؤه فقط من أجل رفاه أغنيائه.. وألف لعنة على وطن يلتهم ولا يعطي...

... ورغم هذا.. فإننا نموت عشقاً لوطننا.. فنحن من سلالة أناس تشظّت أجسادهم من أجل هذا الوطن اللعين.. وورّثونا جيناتهم.

***

الجمعة 2011.1.28