25 يناير، 2010

صَخَبُ الأَحْذِية

1
السيد المحترم / .................................
تحية طيبة.. وبعد..
دعني أختصر لك الأمر دون مقدمات.. بحسبة بسيطة.. وبدون آلة حاسبة.. فالأمر لا يستدعي ذلك.. ففي هذه الجمعة المباركة.. وقفتُ في عدة طوابير.. كل طابور لا يقلّ عن ساعة.. طابور الخبز على الصبح.. طابور أسطوانة الغاز.. التي عندما أنحني وأُدحرجها فإنني ـ أكرمكم الله ـ أُشبه الجُعَل وهو يدحرج كُرَة الرَّوث.. طابور البنْزين.. طابور الوقوف أمام نقاط التفتيش.. طابور الملعب.. ففي هذا اليوم شاهدت مباراة انتظرتُها طويلاً.. فهي قمَّة الدَّوري.. الدَّيربِي.. ورغم أنني أثناء المباراة ـ أقصد في المدرّجات ـ تلقيتُ فردة حذاء على وجهي.. إلا أنني لن أشكو من ذلك.. لأنني رددت فردة الحذاء على صاحبها.. تستطيع أن تقول بأنني أخذت حقي.. لكنني سأحسب ساعتي المباراة.. فقد كانت شيئاً يشبه كرة القدم! وهناك ساعة لخطبة الجمعة.. فقد جلدَنا فضيلته ـ كعادته ـ بخطبة غاية في الملل.
في المساء كنت أنتظر فيلم السهرة.. فمنذ أسبوع وهم يُعلنون بأنه قمّة في الإثارة.. فتسمَّرت ساعتين أمام الشاشة.. لكنه كان فيلماً هابطاً.. عفِناً.. يصبح المجموع عشر ساعات.. على عدد أصابع يديكم الطاهرتين.
ساعة في تصفح جرائد لا تصلح حتى لِلَفّ السندوتشات.. وساعة أخرى على بابكم حتى سُمِح لي بمقابلتكم.. وهكذا يصبح المجموع اثنتي عشرة ساعة كاملة كحَدّ أدنَى.. فأنتم محتاجون إلى استعمال أصابع قدميكم الطاهرتين أيضاً في الحساب.. مع العلم أنني تغاضيت عن أشياء كثيرة.. فهذه عينات فقط.. بلغَتْ نصفَ اليوم.. فإذا قُدِّر لي أن أعيش مائة عام من العُزلة.. أعني مائة عام فقط.. فإنّ خمسين عاماً تكون قد سُرِقت من عمري.. واعذروني سيادتكم في هذا التعبير.. ولذلك فإنني ـ وفقاً للقوانين واللوائح المعمول بها في الدولة ـ أُطالب بتعويض عن نصف عمري.. يا الله.. خمسون سنة كاملة! مائتا فَصْل.. ستة وثلاثون ألفاً.. ومائتان وخمسون يوماً!
ودمتم..
2
... بعد أن أكمل سيادته قراءة الشكوى.. وضع يده على خده.. وبدا عليه الذهول.. والاندماج في ما يُفترَض أنه تفكير عميق.. ثم أطلق ضحكة عالية.. اهتزّت لها النوافذ.. والنجوم اللامعة على كتفيه.. جعلت لُعابه يتطاير على الأوراق.. استغرق في الضحك.. وهو يدقُّ الأرض بحذائه.. حتى دمعت عيناه.
قطع ضحكته فجأة:
ــ وتعترف خطّيًّا بأنك مشاغب في الملاعب!
تجهَّم.. نظر إليّ بغضب:
ــ امْشِي.. امْشِي اَطْلَع بَرَّة.. يا فاضي.
ترددت قليلاً بارتباك.. اندلق ماء وجهي.. بلَّلَ صدري.. وأصاب الرذاذ حافّة الطاولة.
قفزتْ إلى ذهني في تلك اللحظة عبارة لا أدري مَن قالها: (أفضل طريقة لتقبُّل الإهانة تجاهلها.. فإن لم تستطع تجاهلها فزايدْ عليها.. فإن لم تستطع المزايدة.. فربَّما كنت تستحقها).. وقبل أن أُقرِّر أيّ هذه الخيارات أفضل.. صرخ مرةً أخرى:
ــ بَرَّة!
على صدى الصرخة سمعتُ حركة أبواب تُفتح.. وهمهمات.. ثم ضَجَّ المَمْشَى الرئيسي والممرات بصخب الأحذية الثقيلة.
3
... خرجتُ لا أرَى طريقي.. وفي الانعطافة الحادة للدّرَج.. واجهتْني مرآة مستطيلة.. فاكتشفتُ أنني بلا وَجْه!
(1999)

هناك 10 تعليقات:

  1. فرج سالم عطية25 مايو 2009 في 2:15 م

    (أفضل طريقة لتقبُّل الإهانة تجاهلها.. فإن لم تستطع تجاهلها فزايدْ عليها.. فإن لم تستطع المزايدة.. فربَّما كنت تستحقها).. ترى أي هذه الخيارات كان سيختار؟؟!!

    ردحذف
  2. مراحب فرج سالم عطية.. على علمي هذا أول مرور لك في ظل الخروبة.. لا تجعلها بيضة الديك!

    ردحذف
  3. هناك من لا تثنيه الإهانة على تكرار فعل إتيان ما يراه حق له ، ويبقى التجاهل واحد من أسباب انقطاع التواصل وغياب المودة .
    دمت مبتكرا مبدعا واصفا ومفتقا لكل الجروحات الصديئة

    نعيمة الطاهر

    ردحذف
  4. نعيمة الطاهر.. يسعدني مرورك دائماً.

    ردحذف
  5. أحمد يوسف .. أسقطت ورقة التوت .. إننا نرى ذات المرآة يومياً,ونرى أننا بلا ملامح , ولكن لا نعلن عن ذلك .. ربما خجلا أو خوفاً والنتيجة أن نصف أعمارنا ذهبت بلا ثمن . أحمد يوف لامست جرحاً غائراً .. عليك اللعنة.

    ردحذف
  6. الشاعر عبدالسلام الحجازي.. أشكر مرورك.. سأعتبر هذه (اللعنة) إطراءً!

    ردحذف
  7. عبدالحفيظ أبوغرارة25 يناير 2010 في 3:02 م

    عزيزي / أحمد
    أحببت كثيراً تعليق شاعرنا الكبير عبدالسلام الحجازي لذلك أستميحه عذراً لأصب فوق رأسك لعنة أخرى يا مبارك.

    ردحذف
  8. أخي عبدالحفيظ.. يتحدثون عن الشاعر الرجيم.. فهل سأكون القاص الرجيم؟! أسعدني مرورك وتعليقك.

    ردحذف
  9. إننا نهان في كل يوم مرة أو مرتين.. ولكن أكبر إهانة هي إختفاء وجوهنا ..إنه مؤلم .
    "إن كان عندك يازمان بقية .. ممايهان بها الكرام فهاتها"

    علاء الكزه

    ردحذف