22 ديسمبر، 2009

الْمَتاهَة...

1
... ضباب الصباح يستلقي في الأودية.. وبعض السُحُب الشاردة تجوب السماء.
الْتقطت رَجْعَة عصا رقيقة.. فتحت باب المَرَاح.. فتدافع القطيع.. غَصَّ المدخل.. ثم تدفَّقت الشِياه خلال مسارب الغابة.
صاحت أُمَّها:
ــ لا تسرحي بعيداً.
لكنَّ رَجْعَة لم تسمع.. كانت تُحاول أن تسبق الأغنام.. فلا شكَّ أنه هناك.. ينتظر.. تُرَى هل بدأ العزف على مزماره؟
2
... تجمَّع القطيع تحت الخَرُّوبة.. بدأت الجديان تمُدُّ أعناقها.. وتُحاول التسلُّق وهي تتقافز فوق بعضها.
مَدَّت رَجْعَة عصاها إلى أعلى.. خشخشت قرون الخَرُّوب.. تساقطت.. بدأت الجديان تصيح صيحاتٍ مكتومةً وهي تملأ أفواهها وتتناطح.
جلست فوق صخرة.. تتأمَّل القطيع.. أحسَّت بنشوة وهي تشمُّ فَوْح الخَرُّوب المُختلِط برائحة الفحول.
تلفَّتت وهي تُصيخ..
ــ تأخر اليوم.. ليس من عادته أن يفعل هذا.
خُيِّل إليها أنها تسمع صوت المزمار.. ابتسمت.. نهضت مُتجِهةً ناحية الصوت.
ــ ليس في مكانه المعهود.. يبدو أنه بالقرب من الكهف.
صعدت.. بدأ المزمار يصدح بوضوح.
ــ إنه في الكهف.. لم يفعل ذلك من قبل.
أخذت تًفكِّر..
ــ رجل.. امرأة.. كهف..
أحسَّت بارتعاشٍ لذيذ.. دخلت.. نادت:
ــ سعد.. سعد.
مشت في ضوء المدخل.. أحدثت خطواتها خشخشة.. انبعثت رائحة الزبل الجاف وذَرَق الطيور.. كلما توغَّلت أصبحت النغمة أكثر وضوحاً وحِدَّة.
توقَّفت.. الْتفتت إلى الوراء.. لم تَعُد ترى مدخل الكهف.. اكتشفت أنها في قلب الظلام.
ــ لماذا يفعل ذلك؟
تجاوب الكهف بأصوات المزامير.. ارتعشت..
ــ لماذا لم أنتبِه إلى أنَّ النغمة مُختلِفة؟
سكتت المزامير.. تلاشى الصدى.. ساد صمتٌ مخيف.
ــ سعد.. سعد.. إنك تُخيفني.
استدارت مسرعة.. اصطدمت بشيءٍ ما.. صرخت.
ــ مَن أنت؟ اتركني.. اتركني.
انتزعت الشالَ يد خشِنة.. أحكمت قبضتها على الشَّعر المُنسدِل.. مزَّقت اليد الأخرى فَتحة القميص.. الْتفَّ الساعِدان القويان حول الخصر.. حَمَلَها.. طرَحها أرضاً.. بدأت الأصابع تحفِر في الظهر.. غاص الوجه بين النهدين.. تعالت الأنفاس.. الصراخ.. التمزيق.. التشنُّج.. اللعاب.. العرَق.
... وبقي الشال المُتكوِّم في الركن يبرق في الظلمة.
3
... أفاقت.. شعرت بالبرد.. تحسَّست الجدران الرطبة.. تلمَّست جسدها العاري.. واكتشفت كل شيء..
دفنت وجهها داخل كفَّيها.. اختضَّ جسدها.. وبكت:
ــ الوحش.. تُرَى مَن هو؟ مَن الذي.. الذي فعلها؟ لم أتمكَّن حتى من رؤية وجهه.
نهضت.. أخذت تتحسَّس الجدران.. فوجدت أنَّ هناك عدة ممرّات.. أحسَّت برُعب المَتاهة.. سارت في أحد الممرّات.. ثم عادت تتلمَّس.. وسارت في الاتجاه الآخر.. رجعت مرّةً أخرى.. توقَّفت.. أسندت ظهرها.. لسعها البرد.. اعتدلت.. أنصتت..
ــ ما هذا الصوت؟ يبدو أنها قطرات ماء.
كلَّما تقدمت.. ازدادت القطرات وضوحاً.. تذكَّرت كيف كانت تتبع صوت المزمار.. هزَّت رأسها لتطرد الخوف.. مدَّت يدها في الظلام.. حرَّكتْها يميناً ويساراً.
ــ لا أثر للماء هنا.. هذا ممرّ آخر على اليمين.. يبدو أنَّ القطرات في هذا الاتجاه.. لا.. إنها على اليسار.. إنه سرداب آخر.. كل سردابٍ يُفضي إلى عدَّة سراديب.
وقفت حائرة.. ثم تحسَّست الأرض.. جَثَت.. ألْصقت ذراعيها على فخذيها.. وأخذت تسترجع كلَّ شيء..
ــ ذلك الوحش.. له رائحة كرائحة الفحل.
فكَّرت في سعد.. وفي المزمار.. وأُمِّها.. والقطيع.. الخَرُّوب.. الضباب.. الشمس..
ــ هل هبط الليل؟ لكن ما جدوَى ذلك؟ هذه المَتاهة يستوي فيها الليل والنهار.
... نهضت.. أخذت تنتقل بين السراديب.. تتلمَّس طريقها بيدين ممدودتين.. وتتسمَّع القطرات..
... منذ ذلك اليوم.. وأطفال قريتنا لا ينامون.. حتى يسمعوا من جَدّاتهم حكاية العذراء التي ابتلعها الكهف.
***
(1996)

هناك 9 تعليقات:

  1. أي شعور حين ننعرض للاغتصاب دون أن ترى وجه مغتصبك!

    ردحذف
  2. وأنا ايضاً لم انم مثل اطفال قريتك من حزني على العذراء التي ابتلعها الكهف.
    جمال المغربي

    ردحذف
  3. فعلاً استاذي الفاضل



    لمن المُحزن ان لا تعرف تلك الفتاة من فعل ذلك



    ولكن تمنيت انها لا تدع الفرصة للجري وراء ما تحب دون ادني تفكير في ما وراء هذة الاصوات



    ستكون عبرةً لنا


    شكراً لك ودام نسج خيالك



    صلاح الرشيد

    ردحذف
  4. أهلاً بك أخي صلاح الرشيد.. نوّرت الخروبة.

    ردحذف
  5. زينب.ع.م.البحراني25 ديسمبر 2009 في 2:51 ص

    قلمٌ ينمّ عن روح أدبيّة متميّزة.. زادك الله توفيقًا

    ردحذف
  6. أهلاً زينب البحراني.. أسعدني مرورك.. مؤكّد خروبتي تتباهى أمام كل الخروب.

    ردحذف
  7. أحمد يوسف عقيلة :
    مبدع يحق لجبلنا أن يفخر بك ويحق لأدبنا أن يزهو بك .
    هنيئاً لنا ولمدينتنا بكاتب يندر أن يجود به الزمان في هذا الزمان .
    بدون توقيع حتى لا أتهم بالمجاملة

    ردحذف
  8. كما أن ليس كل ما يلمع ذهبا ،، كذلك ليس كل من يعزف المزمار سعد .....
    الاندفاع وعدم إعمال التفكير يقود دائما إلى متاهات تقود إلى أخرى .
    نعيمة الطاهر

    ردحذف
  9. شكراً نعيمة الطاهر.. قادرة دائماً على قراءة المساحات البيضاء.

    ردحذف