28 يناير، 2010

السَّجِيْن

1
... في كل ليلة يقف بالقرب من النافذة.. يُنْصت إلى البُوم.. أو إلى كلابٍ تنبح على شيءٍ يبتعد في الظلام.. وقُبيل الفجر تستيقظ زوجته.. تقوده مِن كتفيه إلى فراشه.. تسحب فوقه الغِطاء.. تلفّ البطانيّة حول قدميه.. تُدثِّره كطفل.
2
... في كُلّ ضُّحى يقول لزوجته وهو يتشمَّس فوق العتبة:
ــ في هذه الساعة يسمحون لنا بالخروج من الزنازين إلى الشمس.
فتهِزّ رأسها كشخصٍ اعتاد سماع أمرٍ يعرفه.. وتقول:
ــ تنذكر وما تنْعاد.
3
... بعد الغداء يقول:
ــ أتعرفين.. في هذا الوقت بالذات يضربوننا.
يقول ذلك وهو يلوك بعض محّ الخُبْز الذي يغمسه في الشاي الأخضر.
4
ــ هذا وقت تبادل الرسائل.
تفشل أحياناً كثيرة في إخفاء غضبها.. فتردّ بعصبيّة:
ــ لَك سنة كاملة.. تردِّد نفس الاسطوانة!
فيقول بهدوء.. كأنَّه لم يسمعها:
ــ كُنّا نتبادل الرسائل بواسطة الخيوط من فوق الزنازين أو من شقوقٍ في الجدران.
5
... كعادته يقف بالقُرب من النافذة.. ينظر إلى القمر وراء الأشجار.. يُنصِتُ إلى الأصوات الليليّة.. إلى الكلاب التي تنبح على أشياءَ تبتعد.
كانت تجلس وسط السرير.. تحتضن الوسادة.. تُطَوِّق رُكبتيها بذراعيها.. تنظر بِحنان إلى ظهره الغارق في الظلمة.. إلى كتفيه اللتين يُضيء أعلاهما القمر.. منذ عام لم تجرؤ ليلةً واحدة على أن تُذكِّره بفراش الزوجيّة.. كان قلبها يحدس بالشيء المخيف الذي حدث في السِّجن.
قالت بنبرة يشُوبها الخوف:
ــ بعد أيّام يبدأ الشتاء.
قال دون أن يلتفت إليها:
ــ حين يحلّ الشتاء يُغرِقون الزنازين بالماء البارد.
مرَّت فترة صمت.. استلقت على جنبها.. سحبت الغطاء على وجهها.. تكوَّرت على نفسها واضعةً رُكبتيها في صدرها وهي ترتجف.. هل كانت تبكي أيضاً؟ كان يُمكن ملاحظة اهتزاز كتفيها تحت الغطاء.. بينما ظلَّ هو واقفاً ووجهه إلى النافذة.. ينظر إلى القمر من خلال القضبان.. وظِلُّه الباهت ينطرح على أرضية الغرفة.. ويصعد متكسِّراً فوق السرير.
(2005)

هناك 4 تعليقات:

  1. ( كلاب تنبح على أشياء تبتعد ....
    تنظر ...... إلى كتفيه اللتين يضيء أعلاهما القمر ...
    ظله الباهت ينطرح على أرضية الغرفة .. ويصعد متكسرا فوق السرير ... )
    عند أقصى درجة من درجات اليأس يولد الأمل ، وفي قمة الإحساس بالعجز تتولد الرغبة في ممارسة الحياة ، أعجز عن التعليق أحمد عقيلة ، لكن عند قراءتي لهذه القصة وجدت قدماي اللتين تعطلت فيهما الحياة تستعيدان القدرة على الإحساس بها ، السجين هو من استسلم لليأس ووقف وراء قضبان الوهم والألم والظلم ، القمر ينشر نوره لأجل أن يعطينا القدرة على رؤية الحياة على حقيقتها ، يكفي أن نعلق أهدابنا في قرصه الفضي البازغ في صدر السماء لنجد أرواحنا تعاود ممارسة فعل البقاء من جديد
    عشت وبوركت .

    نعيمة الطاهر

    ردحذف
  2. أشكرك نعيمة.. يبقى الأمل دائماً ينير نفوسنا.

    ردحذف
  3. جمال المغربي30 يناير 2010 في 7:32 ص

    لقد ماتت روحه هناك في السجن وبقى جسد بلا روح, وهو يفعل نفس الذي فعلوه به مع زوجته.

    ردحذف
  4. شكراً أخي جمال.. هذه قراءة أخرى للنص.

    ردحذف