(إلى أحمد إبراهيم سعد..
وُلِدت هذه القصة يوم مَولِده)
( س )
... أنا ـ وأعوذ بالله من كلمة أنا ـ عامل سقوف.. تعدَّت شُهرتي إلى القُرى المجاورة.. لستُ سَقّافاً للبيوت فقط.. بل للحظائر والزرائب ومراح الأغنام.. وحتى لِقنّ الدجاج.. فأنا مُتخصِّص في شيء اسمه سَقف.. الخَرساني.. القرميدي.. الصفيحي.. المُسَطَّح.. المُحَدَّب.. المُتحرِّك والثابت.. والقِباب أيضاً.. الكبيرة كقِباب المساجد.. والصغيرة كقِباب الأولياء.. بل حتى من الناحية اللغوية.. فأنا قتلتُ السَّقفَ بحثاً.. فمِن تقليبات الفعل (سَقَفَ): فَسَقَ: والفسوق لُغةً هو خروج الرُّطَبَة من غِشائها.. فالفسوق هو الخروج عن سَقْف الطاعة.. ومن التقليبات أيضاً: فَقَسَ: فالبيضة تُشكِّل السَّقْف الذي يحمي الطائر.. و(السّقَف) في اللهجة الليبية هو عُشّ الطائر الكبير.. كالعُقاب والحدَأة والغُراب.. ويبدو لي أنَّ معنى السَّقف جاء من هنا.. فهو يعني الارتفاع.. كأعشاش الطيور الكبيرة المركوزة في أعالي الشجر وحواف الأجراف الصخرية.. والسَّقِيفة هي المكان المَسقُوف الذي لا جُدران له.. لكن دعونا الآن من القاموس.
( ق )
هناك بعض السقوف تحيُّرني.. تربكني.. لا أحبُّ التعامل معها.. كسقف الوظيفة.. فأنت عندما تدخل مؤسسةً ما طالِباً وظيفة.. يقول لك المدير دون أن يلتفت إليك:
ــ السَّقف الوظيفي ما يسمحش.
فتنظر إلى فوق.. إلى السَّقف.. فتبهرك الثُّريّات.. تفتح ذراعيك على اتساعهما.. وتمضي دون أن تفهم.
... هناك سَقف آخر ألعن.. هو سَقف الإنتاج.. فهو يعلو ويهبط.. شيء لا تستطيع الإمساك به.. أو حتى لَمْسه.. وهناك سَقف للزواج أيضاً.. فأنت لا تستطيع أن تتزوج أكثر من أربع نساء.. أَعني مهما كانت فحولتك.. لكن دعونا من هذا.. واسمعوا ما حدث معي في مركز الشرطة.. فقد طلب مني السيّد رئيس المركز أن أُرَمِّم سَقف السجن.. فهو.. كما يقول.. عبارة عن بُرْج قلعة منذ العهد الإيطالي.. والإيطاليون ورثوه عن الأتراك.. والأتراك ورثوه عن الرومان.. والرومان قالوا بأنه تَرِكة من تَرِكات الإغريق.. ويُقال أيضاً بأنَّ فرسان القدِّيس يوحَنّا قد استعملوه أيضاً.. حين غزَوا بلادنا في العصور الوسطى.. فلا شكَّ أن سَقفه قد اهترأ بفعل الشتاءات الباردة والجليد.
( ف )
... كان السجن مُكتظًّا.. يسندون ظهورهم على الحِيطان المُتقشِّرة.. يضمُّون رُكَبَهم إلى صدورهم.. يتقفقفون.. وينشقون بأنوفهم.
لسعني البرد أيضاً.. رفعت رأسي.. تبدو الجدران لا نهاية لها.. ذاهبة في السماء كَطَعْنة.. تسلَّقَتْ عيناي الجُدران إلى حوافِّها العُليا.. فتبيَّن لي أنَّ السجن لم يكن له أيّ سَقف أَصلاً.
***
(2002.8.3)