10 مارس، 2010

القطة..

1
... أحد المساءات الربيعية.. في تلك اللحظة التي يكون فيها قرص الشمس في متناول كفَّيك.. اللحظة التي تتوهَّج فيها التنانير.. وتنعقد حُزَم الدخان فوق الوادي.. كانت القِطَّة تتمدَّد في تجويفٍ تحت الصخرة.. غائبة عن الوعي.. بلغ الألم مُنتهاه.. حتى تلاشى الإحساس بالألم.
أفاقت.. استدارت.. غمرها إحساس جارف بالأُمومة.. هذه أول مرَّة تعرف طعم هذا الإحساس.
تأمَّلت أُسرتها.. خمس قُطيطات.. أربعٌ بِيض.. وواحدٌ أسود.. تشمَّمتْهم..
ــ البياض لِيّ.. والسواد له.. تُرى أين هو الآن؟ لا هَمَّ له سوى النّزول من فوق قِطَّةٍ واعتلاء أُخرى.. ثُمَّ يتلهَّى ويصطاد.. إنه لا يعرف حتى مذاق الألم.. ولكن.. لا بأس.. دعونا نتذوَّق اللحظة الراهنة.
لحستْهم.. واحداً واحداً.. ثُمَّ استلقت من جديد.. ومنحتْهم أثداءها الطافحة بالحليب.
2
في الصباح.. ألْقتْ نظرةً على صغارها العُميان.. لقد ارتوتْ.. وهي الآن مستغرِقة في نومٍ عميق.. كل واحد يدسُّ رأسه في حضن الآخر.
خرجت لاصطياد ما يمكن اصطياده.. تطلَّعت حولها.. إنها في مأمنٍ من شقاوة الأولاد.. اختارت هذا التجويف الصخري البعيد.. حتى لا تكون هدفاً للمقاليع.
الْتفتت إلى بيتها..
ــ ولكن ماذا لو تسلَّلت إحدى الأفاعي؟
ارتعشت وهي تتصوّر ذلك.. أخذت تُضيِّق الفتحة.. كوَّمت التراب في المدخل.. ثُمَّ...
ــ ماذا يفعل هذا الثعلب الملعون هنا؟ إنه يتشمَّم كل شيء.. لا يجب أن يراني.
عادت.. حشرت صغارها في أعماق التجويف.. وأخذت موقف الدفاع.. فكَّرت:
ــ إننا قريبون من المدخل.. في متناول المخالب.
شرعت تحفر إلى الداخل.. تحفر.. حتى توغَّلت.. ولم تعُد ترى صغارها.. عادت.. أخذت تلتقطهم من أعناقهم.. يتأرجحون بين فكَّي الأُمومة!
ــ والآن أصبحتم في مأمن.
مكثتْ قليلاً.. تلتقط أنفاسها.. لعقت صدرها.. ثُمَّ أطلعت رأسها من الفتحة.
ــ اختفى الثعلب.. لكنَّ رائحته لا تزال قوية.
رفعت أنفها في كل الاتجاهات..
ــ آه.. المخادع يترصَّد من خلف الصخرة.. يظنُّ أنه يخدعني.. صغاري لن يكونوا لُقمة سهلةً لأحد.
... وبقيت تسدُّ المدخل.
... في المساء.. حطَّت بُومة على الخَرُّوبة المجاورة.. ونعبت نعيباً فاجِعاً.
ــ لم يعُد ينقصني سوى البومة.. إنها أخطر من الثعلب.. لن تجد صعوبة في الدخول.. لكنني لن أترك صغاري الآن.. سأرى مَن منَّا ستصبر أكثر؟ هل ستبقَين فوق الغصن إلى الأبد؟!
3
... في آخر الليل أخذت القطيطات تموء.. وتتحسَّس الأثداء.. لم يغمض للأُم جفن.
ــ ماذا أفعل لحمايتهم؟ ماذا أفعل لدفع الخطر عن العائلة؟ إذا خرجتُ الْتهمهم المُترصِّدون.. إذا بقيتُ قتلهم الجوع.. ذلك السافل.. يغرز أسنانه في عنقي.. يقذف في أحشائي عائلة كاملة.. ثُمَّ يختفي.. كأنَّ الأمر لا يعنيه.. لو أنه يأتي الآن لتناوبنا الحراسة.. ولكن لا مناص من الخروج غداً.. لابُدَّ من الخروج في نهاية المطاف.. لن أسمح لهم بدفننا أحياء.
أطلعت رأسها.. تأملت القمر الحائم فوق الوادي.. وظِلال الأشجار الباهتة.. أطلقت البومة ثلاث نعبات متتالية مُؤكِّدةً وجودها.. ومسحت سحابةُ ضوءَ القمر.
4
في الفجر.. رفعت نفسها بوهن من بين صغارها.. التي لم تَكُفّ عن المواء طوال الليل.. زحفت ناحية المَخْرَج.. جفَّت الأثداء.. الجوع ينهشها.. كانت تسمع تكسُّر البَيض في الأعشاش الدافئة.. والزقزقات الأولى للعُصَيفيرات الوليدة.. أخرجت رأسها.. استرابت..
ــ كالعادة.. الأمور على أسوأ ما يُرام.. الثعلب فوق الصخرة.. البومة في أعلى الشجرة.. ولا شك أنَّ الأفعى تكمن في الجِوار.. إنهم يترصَّدون صغاري من فوق ومن تحت.
أغمضت عينيها.. ثُمَّ.. قررت أن تعود.. لا يزال هناك خِيار.. سدَّت المدخل بكومة من التراب.. وغابت في ظلمة الصخرة.
5
... عند ارتفاع الضحى.. بدأت كومة التراب تتحرَّك.. انتصبت أُذنا الثعلب.. أدارت البومة رأسها.. تكوَّرت الأفعى.. انزاح التراب.. برز المخلبان.. الرأس.. الكتفان.. انضغط الجسد مقذوفاً إلى الخارج.. مُنتفِخة.. تتمايل.. أثداؤها تنُزُّ بالحليب.. انحدرت مع الوادي.. تمشي بهدوء.. لا يبدو عليها أثر للخوف.. أو القلق.
... تسابق المُترصِّدون..
الأفعى أول الداخلين.. كانت أقربهم... توغَّلت.. أحسَّت بدفء التراب.. أخرجت لسانها تلتقط الرائحة الشهية.. ولكن.. لم يكن هناك أَثرٌ لشيء.. لا شيء سوى نُتَفٍ من الوَبَر.. وبُقَعٍ من الدَّم!
***
(1997)

هناك تعليق واحد:

  1. القطة التي أكلت صغارها ، ليس لسد الجوع ولكن حبا في حمايتهم من الخطر المتربص بهم ، ومن الحب ما قتل ....
    الأستاذ أحمد قلت اقرأوا قصة القطة إن شئتم ، ها أنا ذي قد قرأتها ، ومازلت على نفس رأي عندما علقت على قصة العنكبوت ، الذكر ليس إلا كائن شبق ، يبحث دائما عن اشباع رغباته والذهاب خلف نزواته غير عابئا بما ستكون عليه نهاية الدرب ، قلت الذكر كائن من كان تصنيفه بين مخلوقات الله .

    ردحذف