قراءة في مجموعة (الحرباء)
للقاص الليبي أحمد يوسف عقيلة
أ . هويدا صالح / مصر القصة القصيرة فن سردي له دهشته، له مذاقه الخاص، ربما يختلف كثيراً عن الرواية والشعر، وإن كان لمرونته ودهشته قد سرّب رهاناته إلى الرواية، فتغيرت طرائق السرد الروائي وأفادت من تقنيات القصة القصيرة، كما أفاد الشعر من القصة القصيرة ولغتها، فرأينا قصيدة النثر تنافس وبجدارة قصيدة التفعيلة.
ولن يقف التجريب في القصة القصيرة عند حد، بل ستظل القصة تجدد نفسها وتقدم رهاناتها في تطور ونمو، ومن كتاب القصة القصيرة الذين يجيدون التجريب سواء من حيث اللغة المكثفة الدالة والموحية الكاتب الليبي (أحمد أبو عقيلة) في مجموعته: 'الحرباء'، فهو يقدم لنا سرديات تشبه الحياة نفسها بمختلف تناقضاتها وتعقيداتها وأزماتها وتقلباتها وتحولاتها وانفراجاتها. يفلح الكاتب في إعادة إنتاج الحياة سردياً، كما يقدم لنا الذات بكل تناقضاتها، وموقفها من العالم.
يبدأ سردياته بنص رمزي استعاري يقدم لنا فيه رحلة تحمل أسئلة الوجود وحيرة الذات على لسان رغيف خبز مهموم بوضعيته في العالم، يسائل الكاتب العالم في حوارية بين الرغيف والتنور، ويكشف عن همه:
"ــ وماذا بوسع رغيفٍ مثلي أن يفعل؟
ــ ... تَخَلَّ عن صمتك.. ما دمتَ قادراً على الحَكِي فإنك لن تموت".
وكأن هنا الكاتب يدرك أن السرد والحكي هو الحياة، هو المحافظة على الحياة، وربما تكون هذه الجملة كاشفة لسؤال الكتابة، فالمؤلف يرى أن الكتابة تساعده على الانتصار على الموت والتغييب.
وذات الرمزية يستخدمها الكاتب في النص التالي: (خط أحمر) حيث يكشف المسكوت عنه في أسئلة الوجود ولكن على لسان الحيوانات والطير:
"تثاءب.. نبح نبحتين في الفراغ.. أحسَّ بأنهما خاليتان من المعنى.. لا تليقان ببلاغة الكلاب.. فينبغي قبل كل شيء أن يُصغي إلى نباحك الآخرون.
كان جائعاً.. مقروراً.. مُلطَّخاً بالوحل.. فاجتاحتْه رغبة في أن ينبح على أحدٍ ما.. تلَفَّتَ في كل الاتجاهات.. نهض.. وأخذ ينبح على لهب الغروب خلف سواد الغابة".
كما أن المجموعة لها خصوصية وتفرّد تمكن الكاتب من نحت عالمه الخاص ولغته المتفردة في قصة (امرأة الحكاية):
"... في الصباح الباكر نصعد الجبل المُعمَّم بالغيوم.. حُزمة من الأطفال تحملنا الدهشة.. نتسابق لرصد الغربال لحظة اهتزازه.. مع اقترابنا من رأس الجبل بدت السُحُب تحتنا.. أغشية رقيقة فوق تعرُّجات الأودية".
يحمل (أحمد عقيلة) ذاكرة جمعية تمكنه من تقديم تفاصيل مجتمعه وبيئته في سرديات صغيرة متتالية وكاشفة بشكل واضح للذاكرة الشعبية الليبية، وانطلاقاً من مقولة (إداورد سعيد) "إن الأمم ما هي إلا سرديات كبرى"، أرى الكاتب قد قدم لنا ذاكرته الشعبية في سرديات متلاحقة، وفي لغة مكثفة وشعرية، ففي قصة (امرأة الحكاية) يقدم لنا أسطورة مدينته الخاصة:
"تقول الأسطورة عندنا: (في السماء غِربالٌ ضخم.. حوافه العليا تختفي خلف سواد الغَيم.. وعندما يغص بالسحب.. وتتلقلق بين حوافه المياه.. يهتز.. يرقص.. فتهبط الشآبيب.. رَشة رَشة.. صافية.. نقية".
ولا تكتفي الذات الساردة بتقديم الأساطير التي تسكن الذاكرة الجمعية، بل تجسدها حية أمام عيون الأطفال، فنساجة الغيم التي تسكن السماء وترسل المطر تحادث الأطفال في وقفوهم الذاهل، وتهديهم أردية وملابس بألوان الطيف، بل وتعدهم بتقديم هدايا المتفردة لكل من يأتيها من النساء في الغروب، ويفرح الناس، حتى العجائز يصعدن السفح الوعر من أجل رداء الحياة المدهش.
تواصل الذات كشفها لذاتها وللآخر، ترسم التشكلات النفسية والاجتماعية فنجده يهدي لصديقه الشاعر نصاً يكشف فيه عن هموم الذات المشابهة له في الكتابة، فها هو شاعر يوقع كل البنات في حبائل حَرفه البهي، شاعر يجذب كل أنظار المستمعين له فيسلب انتباهم ويقدم لهم الدهشة الطازجة، إنه غواية الحرف. يستعير الكاتب صورة الشاعر في مواقف فيها من المفارقة والدهشة الكثير ليقدم لنا المتخيل الذهني لصورة المبدع التي يتمناها:
"الحبلُ الذي قفزتْ فوقَه كلُ بنات الشارع..
مُعلَّقٌ في آخر الضجيج مِشنقةً لجروٍ يعوي..
وسط ضحك الأطفال!.
يعلو صوت من داخل القاعة:
ـ انظروا إلى الحبل كيف يكون مصدراً للفرح وللموت؟!".
ولا يكتفي الكاتب عبر هذه اللغة الشعرية المكثفة بهموم الذات المفردة، الهموم والتفاصيل الإنسانية فقط، بل يقدم لنا نصوصاً فيها من الهم العام والسياسي الكثير لكنها تأتي بشكل فيه من الإيحاء أكثر ما فيه من التصريح، بل يستخدم الرمز أحيانا كثيرة لكشف الهم العام والسياسي، بل يصل الأمر إلى حد السخرية والمحاكاة الساخرة لمعالجة هكذا موضوعات، فنجده في قصة (التراب الوطني) لا يميل إلى الرمز كما في قصة (خط أحمر)، بل يميل للمحاكاة الساخرة، فها هم مجموعة من التلاميذ بصحبة معلمهم، في رحلة يحكي لهم عن حروب خاضها الأجداد لتحرير التراب الوطني، ويتحدث عن التراب الوطني بقداسة ورهبة، وحين يبول أحد الأطفال في مكان ما على البعد ينزعج الصغار ويصرخون، بل يجلده المعلم على تبوله على التراب الوطني:
"التراب الوطني يحاصر خطواتنا ..يكبلها ..يخنقها ..بدأنا نمشي على أمشاط أقدامنا وداخلنا إحساس بالخطيئة .. قبل انتهاء الاستراحة أطلقنا صرخة جماعية مهرولين باتجاه المعلم:
ـ يا أستااااااذ .. العَيّل بال عَ التُّراب الوَطنييييي!!
خَلَع مِعطَفَه الرمادي.. شمّر كُمّيه.. أَسرع مُلوحاً بعصا الزيتون:
ـ تعال هنا يا خَراء.. أنت اللي دَنّست التراب الوَطني؟! مدّ يَدّك.
وصرخ التلميذ من خلال دموعه:
ـ الله غالب يا أستاذ.. كلّه تراب وَطني.. وَيْن نبُول؟!"
وهكذا رأينا عبر سرديات متنوعة حياة وتفاصيل المجتمع الليبي بلغة طازجة ومدهشة، ونصوص موغلة في الوجع، وموغلة في الرمزية أحياناً، ومحاولات جادة لكشف المسكوت عنه في مجتمعه، المسكوت عنه سياسياً واجتماعياً. يمتلك الكاتب رؤية واعية بمشكلات مجتمعه، ورؤية عميقة تجاه الذات وعلاقتها بالآخر المفرد والجمعي.
***
2010