28 فبراير، 2010

استرداد لَحظة

1
... كان يتَّكئ مُفترِشاً النَّطْع.. واضِعاً المخدَّة تحت إبطه.. يَرْقُب البَرّاد وهو يُحشرِج في طرَف الكانون.
قالت زوجته:
ــ يا لَه من مطرٍ أبدي.. لم ينقطع منذ أكثر من شهر.
ــ هل يُضجركِ ذلك؟
ــ كل شيء لا بُدَّ له من نهاية.. مهما كان مُحَبَّباً.
ــ هذا يتوقف على النهايات.. خُذي مثلاً حياتنا.. كُنّا قبل الزواج..
قاطعتْه بحِدَّة:
ــ ها أنت تعود إلى هذا الموضوع مرةً أخرى.
تثاءب:
ــ إذا لم يكن هناك جديد.. فلا مناص من اجترار الماضي.
حَكَّ أنفه براحته:
ــ العشق مرحلة اكتشاف.. ذلك ما يجعله رائعاً لا يتسرَّب إليه الملل.
ــ وهل كان من الممكن أن نظلَّ عاشقين إلى الأبد؟ لا بُدَّ للعشق أيضاً من نهاية.
اعتدل.. بسط راحتيه فوق الكانون:
ــ إذا كنتِ تقصدين الزواج.. فهو نهاية سيئة للعشق.. نهاية لمرحلة الاكتشاف.. ويؤسفني أن أقول إنَّ أعظم قصص الحُبّ وأكثرها خلوداً في التاريخ هي تلك التي لم تنتهِ بالزواج.. صدِّقيني.. الزواج عبارة عن تعليب للحُبّ.
ــ هذا ليس أمراً سيئاً.. حتى لو سَلَّمنا بذلك.. فالتعليب حِفْظ للأشياء من الفساد.
قهقه:
ــ لكنَّكِ نسيتِ ـ أو تناسيتِ ـ أنَّ المُعلبات لها مُدَّة صلاحية معيّنة.
ضحكتْ وهي ترفع البَرّاد من فوق الجمر:
ــ أنتَ تُسمِّي الأشياء دائماً بغير أسمائها.. تعتبر الاستقرار نهاية سيئة.
ــ استقرار! ها أنتِ قُلْتِها.. الاستقرار أُلفة.. والأُلفة عادة.. والعادة نوع من العبودية.
ــ لكنَّها عبودية باختيارنا.
ــ ذلك ما يجعلها أسوأ أنواع العبودية.
عاد إلى الاتّكاء.. وغرق في لحظة وجُوم.
نظرتْ إلى الفحمة العالقة بالبَرّاد.. وقالت مُحاولةً انتشاله من وجُومه:
ــ انظرْ.. سيأتينا ضيف.
ــ مَن سيأتينا في ليلةٍ كهذه؟!
أعادت المحاولة مرةً أخرى:
ــ أتذكر عندما كنتَ تتسلل إليَّ في أواخر الليالي.. مُلتصِقاً بجذوع الأشجار؟
ــ وهل ذلك شيءٌ يُنسَى؟
ابتسمت:
ــ مَن يراك على تلك الحال يعتقد أنَّك لِصّ.
ــ اللصوصية في العشق هي التي تمنحه طَعماً خاصًّا.. تماماً كلَذَّة الصيّادين.. في المُطاردة.
ــ كنتَ دائماً ترتدي ملابس داكنة.. أتذكر تلك الليلة التي أتيتَني مُلطَّخاً بالوحل.. ومَقروراً حتى العَظم؟
ــ تلك الليلة بالذات لا أنساها.. فقد خضتُ السيل.. وسبحتُ وسط التيار.. وكنتِ أنتِ تتجلَّلين بلِحافٍ أسود.. تحت وابل المطر.. تستندين إلى جِذْع البَلُّوطة.. وتَرقُبين الطريق.
ــ يئستُ من مجيئك تحت ذلك المطر.
ــ لكنَّكِ بقيتِ تنتظرين! كان ذلك في نفس هذه الأيام.. وفي مطرٍ كهذا.. كنتُ أسمع وجِيبَ قلبكِ وأنتِ تقفين بالقرب منِّي.
ــ وكنتُ أُحسُّ بحرارة جسدكَ تحت البَلل.
ابتسم.. لمع في عينيه بريق:
ــ ما رأيكِ لو نستعيد تلك الليلة.. لو نستردّ تلك اللحظة؟
ــ بعد هذه السنين؟
ــ تقصدين أنني ضعفت.. ولم أعد أستطيع اجتياز السيل.. سترين.
وانتصب واقفاً..
تعلَّقت بيده..
ــ أرجوك.. دع المطر حتى يخِفّ.. ويهدأ السيل.
ــ لا.. ذلك مُخالف لأصول اللعبة.
الْتفتَ قبل أن يخرج:
ــ لا تقلقي.. من هنا سأعبر من خلال القَنطرة.. لكنني سأعود من الأسفل.. حيث التيار على أَشدِّه.. هل تخشين ألاّ أسمع دقات قلبكِ؟ أنا أيضاً لست واثقاً من أنكِ ستشعرين بدفء جسدي تحت الملابس المُبتلَّة.. لكن لماذا نستبق الأحداث؟
هَزَّت رأسها باسمة.. وهي تُنصت إلى وقع خطواته..
ــ مجنون!
2
... هدير السيل يطغَى على كل شيء.. وفي لحظات خاطفة يلمع الزَّبَد تحت بُهرة البَرْق.
اقترب مُتعلِّقاً بالأغصان.. أَحسَّ بقوة التيار.. بحث في القاع بقدميه عن شيءٍ صلب.. انزلق.. قذفه التيار.. تمسَّك بالغصن.
ــ يا لها من ظُلمة.. سأنتظر حتى يومِض البرق.. صدقت زوجتي.. لم أعد قوياً كما كنت.. الزوجة أول من يعرف ذلك! هذا الغصن لن يصمد كثيراً.. سأقفز قبل أن ينقَصِف.
حاول القفز.. انهار شيء تحت قدميه.. ترنَّح مُلوِّحاً بيديه في الظلمة.. سقط على ظهره.. اصطدم رأسه بصخرة.. فَقَدَ الوعي.. و.. ذهب مع السيل.
3
... وسط الدَّغْل الكثيف.. كانت لا تزال تستند إلى جِذْع البَلُّوطة.. وهي تتجلَّل باللحاف الأسود.. بدأ القلق يُساورها.
زغردت ضفدعة.. فامتلأ قلبها بالفرح.
... من خلال ومضات البرق.. ظلَّت تَرْقُب الطريق الشاحب.. الْمُقْفِر.. تحت وابل المطر.
***
(1996)

هناك 7 تعليقات:

  1. عزيزي / أحمد
    ها أنا احاول أن أخرج بهدوء من زحمة خانقة تفرضها الحياة بكامل تفاصيلها / مشاغل لاتنتهي وعالم اصبحت كل جزئية فيه مدعاة للتساؤل والنقاش والبحث ..
    عزيزي أحمد ..
    حتى لا اذهب بعيداً
    ليست المرة الاولى التي اقرا هذه القصة / وها انا اقرءها مجدداً
    استشعر مذاقها الجميل ..
    في ليلة شتائية شاحبةمن ليال الجبل

    .....
    عزيزي
    كان صوتك كل صباح يذكرني انني شاعر .. فلا تبتعد عني كثيراً
    تصبح على خير !!

    ردحذف
  2. أوافقك الرأي في أن العشق مرحلة اكتشاف ، وأن اللصوصية في العشق هي التي تمنحه طعما خاصا ، فنحن نسرق لحظات من عمر الحياة نعيش فيها العشق بعيدا عن رتابة الحياة ، لذلك ليس من الضرورة أن يكون الزواج النهاية الحتمية لحالة عشق يعيشها إثنان ، ولا عدم حدوثه سببا لإلغاء حالة عشق قائمة ، كما أن وجيب القلوب يُسمع عن بعد ... وحرارة العشق تسرى عبر الدروب وإن بعدت المسافات ، وجنون العشق هو منتهى التعقٌل ..
    ذهب بطل قصتك مع السيل حتى يثبت أنه مازال يضج بالعشق العنيف ، كما ذهب غيره قبله مع الريح !!
    لكن الجميع في نهاية الأمر عشاق يتعدي معشوقوهم على حدود ذواتهم فيعلنون عشقهم لذلك التعدي . .
    ما يفرح في الأمر أن معاودة قراءة هذه القصة هو نوع من ممارسة العشق (واستشعار مذاقها الجميل ) كما قال الشاعر الجميل عبد الباسط أبوبكر ، دمت قاصا عاشقا يحكي كل تفاصيلنا الصغيرة .......
    مجهولة لكنها عاشقة ،،،

    ردحذف
  3. سالم الكواش2 مارس 2010 في 3:06 ص

    العزيز أحمد..
    لا أحد يصارع الدهر..فهذا العاشق دفع حياته ثمناًً لإسترداد لحظةٍ مضت..أظنه كان يرتدي وجه غير مناسب في تلك اللحظة..دمت بخير.

    ردحذف
  4. الشاعر عبدالباسط أبوكر.. المجهولة العاشقة.. الشاعر سالم الكواش.. أسعدتموني بدفء حضوركم.

    ردحذف
  5. الإستاذ / أحمد

    يقول الكاتب الكبير والرائع " أريك سيغال " في روايته قصة حب ( الحب هو أن لا يكون لنا أبداً أن نقول إننا أسفون ) ..وهو هنا لا يفسح لنا مجال للندم ونحن لا نريد ذلك ولا نستطيع أن نعيش اللحظة مرتين .

    مع خالص تقديري ومحبتي
    عبدالحفيظ أبوغرارة

    ردحذف
  6. اخي عبدالحفيظ..
    ذكّرتني بهذه الرواية الجميلة التي قرأتها منذ أكثر من ثلاثين عاماً.. وشاهدتها فيلماً سينمائياً كان أقل من الرواية.. ربما لأن السينما تحجر على الخيال الذي تمنحه قراءة الرواية.. في الفيلم لا تحس أنك تشارك في شيء.. على عكس القراءة التي تجعلك مشاركاً في النص بطريقة ما.

    ردحذف
  7. سيدي الفاضل: أولا تحية طيبة لجهدك البناء ومثابرتك واحساسك الرائع وشاعريتك الدافئة . سيدي الصورة جميلة كجمال الزمن الذي تحاكيه وكجمال الاحساس الباهر الذي تنضح به في كل سطورها ولو سمحت لي سيدي فعنديي ماأقول:بقدر التشويق والذي ابتدأت به الحكاية بقدر ماانطلقت بنا سريعا الى غرق العاشق وخيبة المعشوقة , فحينما كانت الحكاية تنضج على مهل كدفء جلسة النطع وبين نحن ننتظر طاسة الشاي في ذلك الجو الساحر وكنا افترشنا الحلم , نتفاجأ بالانحدار سريعا الي بطن الوادي حيث الخوف القديم يتجدد والوعد بالفراق وكأنه لم يؤجل , سيدي: العشق غير معني بالاستقرار ولايكون مرحلة اكتشاف , وليس عادة ولن يكون , فالعشق سيدي الفاضل جوهر الفرح وينبوع العطاء الدائم, العشق سيدي كالليل وأسرار النجوم , والشمس وأبهة الفصول الاربعة , والكلام في العشق مجادلة عصور , وكنت تمنيت أن يسهر أبطال الحكاية مفترشين كلمات العشق الذي لايزال يزين المكان , ويعطر أكواب الشاي بعبق الحب , فما أحوج زمننا هذا الى الحب وماأحوجنا للتلذذ بحكايات العشق البهية البريئة, فدعنا سيدي نغمض عيوننا ونغرق في جميل سردك وحكاياك. ووفقك الله وسدد خطاك .

    ردحذف