11 مارس، 2010

امْرَأة الحِكَاية

( ا )
... تقول الأسطورة عندنا: (في السماء غِربالٌ ضخم.. حوافُّه العليا تختفي خلف سواد الغَيم.. وعندما يغصُّ بالسُحُب.. وتتلقلق بين حوافِّه المياه.. يهتزّ.. يرقص.. فتهبط الشآبيب.. رَشَّةً رَشَّة.. صافية.. نقيَّة).
( ل )
... ذيول الضباب تتلاشى صاعدة.. فتشفُّ عن غابةٍ مقرورة.. وصخورٍ لامعة.. تقطر حوافها.. وطُرقٍ جبلية متعرِّجة عبَّدتْها أقدامُنا.. وفوق الضباب سُحبٌ سوداء.. بِيض الحوافّ.. تُعانِد الريح.
( ن )
... في الصباح الباكر نصعد الجبل المُعمَّم بالغيوم.. حُزمة من الأطفال تحملنا الدهشة.. نتسابق لرصد الغربال لحظة اهتزازه.. مع اقترابنا من رأس الجبل بدت السُحُب تحتنا.. أغشية رقيقة فوق تعرُّجات الأودية.
( س )
... على رأس الصخرة في قمّة الجبل فوجئنا بامرأةٍ تجلس.. رداء بلون السماء.. شال بلون الغيم.. ووجهٌ استعار إشراقه من الماء والليالي المُقمرة.. حين أبصرتْنا ابتسمت.. مدَّت يدها إلى طَرَف المزنة.. سحبت خيطاً.. وشرعت تنسج.
( ا )
... في وقوفنا الذاهل.. جاء صوتها الدافئ:
ــ اقتربوا.. أنا الناسجة.. نسّاجة الغيم التي تعرفونها في حكاياتكم.. ألم يُخبروكم بأنني موجودة بالفعل.. الحَكايا ليست مجرَّد حَكايا.. إذا كان العالم هو كل ما تلمسونه وتُحسُّونه فقط.. فما أضيق هذا العالم.. كنتُ أعلم أنكم ستأتون لرؤية الغربال.. اقتربوا.. خذوا هذه المعاطف.. معاطف بيضاء في نصاعة الحليب.. وأخرى سوداء مُبطَّنة بالأبيض.. هناك قمصان أيضاً.. ليس المُراد من السحابةِ الأمطارُ.. أنا أختصر الأمر.. أنسج لكم من المُزْن مباشرة.. عندما تعودون إلى قريتكم.. ستجدون أنَّ معاطفكم وقمصانكم قد اعشوشبت.. اخبروا أمهاتكم وأخواتكم أنَّ مَن تأتيني ساعة الغروب فستحصل على رداء بلون الشفَق.
( ج )
... في اليوم التالي كنّا جميعاً نلتفُّ حول الناسجة.. حتى العجائز اللاهثات استطعن ارتقاء السفح الوعر.. يتأمَّلن بدهشةٍ الشالات التي ينبت عليها العُشْب.
( ة )
... في لحظة انهماكنا.. اكتشفْنا فجأةً أننا مُسيَّجون بالعساكر المُدجَّجين.. بنادقهم مُصوَّبة نحو النسّاجة.. وفي لحظة فاصلة.. بَرْزَخيّة.. لحظة اشتعال شهوة البنادق.. يلفُّنا الغيم الأسود.. وما إن ينقشع حتى تبدو الصخرة اللامعة.. وقد غادرتْها امرأةُ الحِكاية.. كنّا مُبتهجين بالمعاطف.. والقمصان.. والعُشْب النامي على أكتافنا.. هذه هي المرَّة الأولى التي نُحسُّ فيها بعجز العساكر.. رفعنا وجوهنا إلى السماء.. حيث اختفت امرأة الحِكاية.. لازلنا حتى الآن نسمع حفيف ردائها في ثنايا الغيم السابح.
(2001)

هناك 4 تعليقات:

  1. عبدالله أحمد28 يوليو 2009 في 1:33 ص

    تهٌزّنا يا أحمد حكاياتك .. جميل جداً .. يقول بيكاسو :- كل طفل فنّان .. المشكلة كيف تبقى فناناً حين تكبر .. و أنتَ لازلتَ طفلاً بديعاً.

    مع المحبة.

    ردحذف
  2. النساجة سلالم مغطاة بالعشب الذي أستعيذ به .....

    ردحذف
  3. حتى العجائز اللاهتات لهن الحق في أن تكون لهن شالات ينبت عليها العشب ، هن على يقين أنه ( مادامت الروح في اللوح لا ياس من مراحم ربي ) أولسن هن من كن يتقدن نارا وإعصارا من حياة ونضج وخصوبة ، فلم نستغرب أنهن استطعن إرتقاء السطح الوعر .
    شكرا لهذا الوصف الذي يرقى إلى أعلى مستوى ، هناك فوق الغيوم أينما جلست ( إمرأة الحكاية ) نساجة الغيم رغم أنف بنادق العساكر ، وكثيرات هن من يجلسن في براح خروبتك يفتشن عن لحظات حياة ، يتوسدن عتبات الأماني ، وأنا أولاهن .

    نساجة الأمل

    ردحذف
  4. . الحَكايا ليست مجرَّد حَكايا.. إذا كان العالم هو كل ما تلمسونه وتُحسُّونه فقط.. فما أضيق هذا العالم.

    ليس المُراد من السحابةِ الأمطارُ.. أنا أختصر الأمر.. أنسج لكم من المُزْن مباشرة..

    اخبروا أمهاتكم وأخواتكم أنَّ مَن تأتيني ساعة الغروب فستحصل على رداء بلون الشفَق

    حتى العجائز اللاهثات استطعن ارتقاء السفح الوعر.. يتأمَّلن بدهشةٍ الشالات التي ينبت عليها العُشْب.



    رائع

    ردحذف