22 فبراير، 2010

الْخفّاش

أحد كهوف (وادي الكوف) بعدستي.
(إلى روح إبراهيم جمعة عبدالعليم.. ملح البيت.. رفض التخلِّي عن طفولته.. فآثر الرحيل مُبَكِّراً)
1
... أنا من كائنات الليل.. بعضُهم يَحْلو له أن ينعتنِي بـ(الكائن الظَّلامي).. لِيَكُنْ.. الظَّلام هو الوجه الآخر للضِّياء.. والمسائل نسبيّة.. آخرون يعتبِروننِي مَصّاصاً للدماء.. الكلُّ يَلَغ في الدماء.. الفارق هو أن بعضَنا يلعقها مباشرة.. على فِكْرة.. أنا الخَفّاش الوحيد.. أَعنِي الكائن الوحيد الذي يستطيع الطيران في الظلام داخل الكهوف.. أو وسط الغابة بسرعة خارقة دون أن يصطدم بشيء.. أليس هذا شيئاً يبعث على الزَّهْو؟ عليّ أن أمتدح نفسي إن لم يفعل الآخرون ذلك.
2
لا أعرف شيئاً اسمه أزمة سكَن.. فـ(وادي الكُوف) سُمِّي بذلك لكثرة الكهوف.. مئات الكهوف تفغر أفواهها السوداء على ضفَّتِي الوادي وسط أدغال البَلُّوط والصنوبر والسَّرو والخرُّوب والشّماري والبَطُّوم.. هناك الكثير من الأَوشاز أيضاً.. كهوف مُعَلَّقة.. مُحَصَّنة.. تُؤطِّر مداخلَها نباتاتُ الزَّيتا والرِّينش.. وعلى فوهاتها وجُدرانها الخارجية يتدلَّى نبات القَبّار.. إنَّها فردوس الخفافيش.
طال هذا النهار.. أشعر بالخَدَر في ساقَيّ.. فمنذ الفجر وأنا مُعَلَّق في وضعٍ مَنكوس في هذا السَّقْف الحجري.
3
... تعالوا يا أولادي.. طالت أجنحتُكم.. آن الأوان لتذوقوا طعم الدم.. يُمكنكم هذه الليلة أن تذهبوا معي في أوّل رحلة صيد.. لكن قبل ذلك سأُحدِّثكم عن أَسْلافنا.. فلا بأس بشيءٍ من التاريخ.. المعرفة حَصانة.. إليكم الدَّرْس الأَوّل:
كان جَدُّنا الأَوَّل فأراً هزيلاً.. يرتعش دائماً من الخوف.. يحفر أنفاقاً عميقة فراراً من القِطَط والأفاعي.. من أجل لُقمة عَيْشِهِ يخرج من مَكمنه خِلْسة.. كان يُحاول حماية نَسْله من الانقراض.. في إحدى لحظات عجزه يصرخ في وجه الإله: (لماذا خلقْتَنِي عاجِزاً هكذا أمام الأفاعي والقِطَط السِّمان؟ ألَسَتَ قادراً على أن تَمنحنِي القوّة؟).. ثُمّ يُحسّ بالندم.. فيقول من خلال الدموع: (اغفر لي يا إلهي هذا التجديف.. إن كنتَ تريد أن أخرج لتلتهمنِي الأفاعي والقِطَط.. فسأفعل ذلك إرضاءً لَك).. وينام متوسِّداً التراب.. دون أن يَمْسَح دموعه.
في آخر الليل يَمسح الإلهُ بيده الْمُقدَّسة على ظهر جَدِّنا.. فيستيقظ.. يُحسّ بالدفء.. لم يجد ذيله.. بل وجد فوق ظهره جناحين من قُماشٍ ناعِم.. منذ تلك اللحظة ترَكَ الوَحْل والأنفاقَ الضيّقة.. تعالَى على القطاطيس والثعابيْن.. لَمْسة الإله جعلتْ منه فأراً طائراً.. سَكَنَ الكهوف والمغارات.. فالْمَجْدُ للإله.
4
ــ ما هي الأفاعي يا أبي؟
ــ مخلوقات باردة الْمَلْمَس.. طويلة.. تَمْشي على بطونها.. تتسلَّل في صمت.. تبتلع فرائسها.. تتسلق الأشجار.. تعيش في تجاويف الصخور.. وفي الكهوف أيضاً.. يقولون (الأفعى ترقد حيث تنمو الأزهار).
ــ وما هي القِطَط؟
ــ مخلوقات تسمن بين يومٍ وليلة.. سريعة.. تستطيع الوصول إلى رؤوس الأشجار بلا جناحين! الشمس على وشْك المغيب.. لحظة غياب الشمس أُحسّ بالجوع.
5
... لا تستسلموا لإغراء الأجنحة.. ابقوا قريباً منِّي يا وطاويطي.
ــ ماذا تعني كلمة وطاويط؟
ــ اسم يُطلقه علينا البشر.. هكذا أصرخُ مُحذِّراً.. أو أُغنِّي أحياناً: (واط.. واط.. واط).. فسمّونِي الوطواط.. البشر لديهم طرائق غريبة في إطلاق الأسماء.. يُسمّوننِي أيضاً في هذا الوادي بالذّات (طوَيْر الليل).. هكذا (طوَيْر)! سأُريهم ماذا يُمكن أن يفعل طوَيْر الليل.
ــ هل سُمِّي الفأر فأراً لأنّه يفِرُّ دائماً من القِطط والأفاعي؟!
ــ رُبَّما.. تعليل معقول يا بُنَيّ.. على طريقة البشر.
6
... انتبهوا.. هناك حِصان في أسفل الوادي.. يجب أن نُعاين الفريسة أَوَّلاً: حصان أَصيل.. يكاد يتفصَّد دماً حارًّا.. ماذا تفعل يا مولانا بكلّ هذا الدم الفائر؟! بدأ فمي يتحلَّب.. فأنا لا أستطيع مقاومة الدماء الأصيلة.. اقتربوا بهدوء.. لا تُحدِثوا رفيفاً.. سأُريكم مواضع العروق.. تحسَّسوا برِفْق.. إيّاكم ووخْز الحصان أو الوَطْوطَة.. سأتولَّى الحراسة.. هناك عيون تلمع تحت البَلُّوطة المجاورة.. سأستطلع الأمر.
واط.. واط.. واط.. احذروا.. خمسة قِطَط سِمان تتربَّص.. خمسة أفواه.. عَشْر عيون.. عشرون مخلباً.. واط.. واط.. واط..
7
... في طريق العودة سأل الخفّاش الصغير أباه:
ــ لماذا تبدو الأشجار مَقْلُوبة؟!
***
(2006)

هناك 5 تعليقات:

  1. صالح المبروك22 فبراير 2010 في 12:54 ص

    ــ لماذا تبدو الأشجار مَقْلُوبة؟!
    ههههه،، نسى الخفاش انه هو اللي كان مقلوب في الكهف.

    ردحذف
  2. حتى مص الدماء تختلف فيه المذاقات ، ويبقى الدم الأصيل أصيلا حتى عند الخفافيش ... !!

    ردحذف
  3. كثير من الحقائق التي نراها مقلوبة كانت نتيجة لأننا التقطناها من زوايا مقلوبة أيضاً... (الأفعى ترقد حيث تنمو الأزهار). أعجبتني هذه الحكمة .

    ردحذف
  4. الم يكن من الافضل للخفافيش ان تعود الي اصلها فئران ,علي الاقل ان تري الاشياءعلي حقيقتها,
    هل تصدق ان العلم اثبت ان الخفافيش ترصد طريقها عن طريق ارسال موجات فوق صوتية تنعكس عن الاشياء التى امام الخفاش ليتجنب الاصطدام بها,الخفاش ايظا من الحيوانات التي تنقل مرض السعار او داء الكلب ,ولحسن حظنا ان هذا النوع لايعيش في منطقتنا فمكان تواجده امريكا الشمالية,لعل هذا السبب في اصابة بعض من روؤساء امريكابداء السعار السياسي,ولكن في اطار العولمة اعتقد ان المرض بداء يصل الي منطقتنا.دمت قاصا وفيلسوفا

    ردحذف
  5. وااااااااااااااااااااااااو ....
    رائع يا د, ناصر

    ردحذف