10 فبراير، 2010

قَابِيل

1
... هذا المساء هو دوري في رَعي الجِدْيان.. أنا وشقيقي التوأم نتناوب.. قالت أُمِّي:
ــ اسرح بعيداً.. وسنرى ما إذا كانت الجديان ستشبع كما أشبعها راعي الأمس.. لا تُخيِّب ظنِّي.. أنتَ ابني.. وهو ابن أبيه.. انتبِه للجروَين.. لا تدعْهما يغيبان عن عينيك لحظةً واحدة.
... راعي الأمس.. ها أنا ـ اليوم أيضاً ـ أدخل معه سِباقاً آخر.. سباقاً من السباقات الخاسرة مُسبَقاً.
أبي.. وأُمي.. وحتى الجيران.. مولَعون دائماً بالمقارنة بيننا.. ذات مساء قال أبي:
ــ اذهبا إلى تلك الخرُّوبة.. وقفا جنباً إلى جنب.. حتى أرفع يدي.. وسنرى مَن منكما الفارس.
قالت أُمي:
ــ ابني هو الغالب ولا شكّ.
ــ بل ابني هو الفارس.. سترين أنَّ ابنكِ لن يستطيع حتى إكمالَ السباق.
... وقفْنا تحت الخرُّوبة.. ننتظر إشارةَ أبي.. كنتُ أرتعش.. أبلع رِيقي.
و... ارتفعت يد الأب كالسَّوط.
انطلقْنا.. غاصت قدماي.. أحسستُ بأنهما مشدودتان إلى الأرض.. ولحظة ارتماء شقيقي في أحضان أبيه.. كنتُ لا أزال في منتصف المسافة.. وقهقهات الأب والجيران تسدُّ طريقي.
لم أستطع النظر في وجه أُمِّي.
2
... كنتُ لا أفهم لماذا هو الأكبر؟ ألم نولَد في نفس اللحظة؟ وماذا يعني أنَّه سبقَني بدقائق.. ألم نكُن بُويضةً واحدةً انشطرتْ؟! ألسْنا ثمرة نفس الليلة؟ نفس الدفقة؟ لحظة الشبَق ذاتها؟
عندما يقترب الامتحان تزداد مخاوفي.. يسدُّ عليَّ الطريق أثناء المذاكرة.. كنتُ أراه قابعاً في ذيل كل صفحة!
3
... كلمة أُمِّي لاتزال تتردَّد في أُذني:
ــ اسرح بعيداً.. انتبِه للجروَين.. لا تدعْهما يغيبان عن عينيك لحظة.
الجروان يتمسَّحان بِي.. أمسكْتُ جرو أخي.. تفرَّستُ فيه.. بصبص بذيله.. ولعقَنِي.. ربطتُ طرفَ الحبل في عنقه.. رميت بالطرَف الآخر إلى فرع الصنوبرة.. وسحبْتُه إلى الأسفل.. تشمَّمنِي.. لعقَنِي لَعقةً أخرى.. ثُمَّ أقعَى.
بدأتُ السَّحْب.. الحبل يتوتَّر.. يضغط على الرقبة.. الذراعان تحفران التراب.. أسحبُ.. الجسد يرتفع.. يَخرجُ اللسان.. يتدلَّى.. أسحبُ.. تجحظ العينان.. تتساقط قطرات البول.. أسحبُ.. يختلج.. يتشنَّج.. يُحشرج.. أسحبُ.. أسحبُ.. يُحشرج.. يُحشرج.. يتأرجح.. يـ..تـ..ـأ..ر..جـ..ـح..
... في تلك اللحظة حلَّق فوق الغابة غُراب.. ينعق بلا انقطاع.
***
(1996)

هناك 13 تعليقًا:

  1. صالح المبروك6 يونيو 2009 في 11:49 م

    لايزال هذا المشهد يتكرر، لايزال الإنسان يشنق أخيه الإنسان كل يوم.

    ردحذف
  2. ابداع ينبض بالعطاء المتواصل .. دائما بالجديد والنادر ..

    تحياتي واحترامي

    ناجي الزوي

    ردحذف
  3. شكراً صالح المبروك.. ناجي الزوي.

    ردحذف
  4. كيف استطعت أن تحيل طفل صغير إلى كومة من الحقد والغيرة وتمثًل الانتقام من أخيه في شخص الكلب ؟
    احساس يكاد يكون وصف لحالة حدثت وليست مجرد قصة تروى
    كل هذا التفرد لا يملكه الا من ولد وفي خلجات روحه تستقر دفقات الإبداع .
    غراب قابيل علمه كيف يواري أخاه التراب ، ترى هل أحس طفلك المقهور بالرزء والخسارة عندماحلق الغراب ناعقا ؟
    أقصد رزء الأخوة الذي تم دفعه إليه دون أن يختار

    ردحذف
  5. جمال المغربي10 فبراير 2010 في 10:35 م

    لم يكفيه ان امه كانت تحبه هو اكثر من اخيه, ولكنه اراد اكثر من ذلك, اراد ان يقول أنا خير منه , جزء البويضة الذي كنت فيه خير من الجزء الذي كان هو فيه, وكلبي خير من كلبه, انها النفس البشرية.

    ردحذف
  6. دفقة ولحظة شبق ... بويضة وانشطار ... توأم وميلاد كل ذلك يؤكد أن الإنسان يولد خير وسوي بالفطرة ... ذاك أبن أمه وهذا إبن أبيه .. اختلاف في النزعات والنوايا أي أن من حوله هم من يجعلونه صورة من قابيل ، يطربه نعيق الغربان .....
    السؤال الملح : كيف لك أن تصور كل ذلك بضربات على الحروف تشبه تماما ضرب الفنان على ريشته ليبدع أجمل اللوحات ؟ ... دعني أرفع لك القبعة إجلالا وتقديرا ..

    ردحذف
  7. بلا كلهم لابسين قبعات ..

    ردحذف
  8. أخي أحمد..
    مررت لأستمتع بريشتلك..وأعلم أن أي إطراء لا يفيك حقك,ولك كل التحايا

    ردحذف
  9. المبدع / أحمد يوسف عقيلة

    قصة في غاية الروعة ،فيها سبر لأغوار طفولة واقعة تحت نير مشاعر الكبار ورغباتهم ، غوص في أعماق أولئك الصغار الذين ليس عليهم الإجابات بل طرح الأسئلة ..
    ولعل حادثة شنق الجرو البريء هي مجرد سؤال.

    هذه القصة تحتاج أكثر من وقفة .

    عبدالحفيظ أبوغرارة

    ردحذف
  10. جمال المغربي.. سالم الكواش.. عبدالحفيظ أبوغرارة.. تسعدني دائماً زياراتكم.

    ردحذف
  11. حتى وإن نسى المعلقون كتابة أسمائهم فما كان يجب أن تتجاهل تعليقاتهم سيدي الفاضل
    معرًف يقول !!

    ردحذف
  12. http://www.v9f.net دردشة عراقية
    http://www.z5c.net مركز تحميل اكس بي

    ردحذف
  13. ابداع ينبض بالعطاء المتواصل .. دائما بالجديد والنادر ..

    تحياتي واحترامي

    ردحذف