01 فبراير، 2010

العَجِين

1
... الضباب الراكد ينقشع.. تظهر الغابة أكثر اخضراراً.. يصيح الديك مُبَدِّداً كآبة الصباح.. ينهض الكلب.. يتمطّى فاتحاً فمه.. مادًّا لسانه إلى أقصى ما يستطيع.. ويتغربل نافضاً عنه الندى البارد.
... تستيقظ عزيزة.. تتعوذ من الشيطان الرجيم.. تتجه نحو الحُفرة.. تُحرِّك الرماد.. تُخرِج جذوةً مدفونة بعد نار البارحة.. تضع فوقها بعض العيدان الرقيقة.. وتنفخ فيها.. تتوهج الجمرة.. ينبثق لسان اللهب.. يسري في كومة الأعواد.. ويتصاعد دخان أزرق خفيف.
2
... يدور الجُعَل حول روث البقرة.. يتشمَّمه.. يصعد فوقه.. يتحسَّسه.. وفي أكثر الأماكن طراوةً يُحدِث ثُقباً صغيراً.. ويبدأ في صنع كُرَته.
3
... في الزاوية العُليا القَصيَّة من البرَّاكة.. عند مُلتقى الجدارين مع السقف.. يدور العنكبوت مُستكشِفاً المكان.. ثم يشرع في نسج خيوطه.. مُبتدئاً من السقف.
4
... تضع عزيزة برّاد الشاي على النار.. تُحضِر كل العدة اللازمة للعجين.. رقعة الدقيق.. الغربال.. القصعة.. الخميرة.. الملح . والسَّخّان.
تهتزُّ مع رقصات الغربال بين كفَّيها.. وهي تستمتع بصوت غليان الشاي.. تضع الخميرة والملح مع الدقيق.. تسكب الماء.. وتبدأ العَجْن.
5
... معالم كُرة الرَّوث تبدأ في الظهور.. الجُعَل يُبلِّلها بلعابه.. يقتطع من جوف الزبل الطريّ.. يعجن.. يُضيف إلى كُرته.. حريصاً على استدارة أطرافها.
6
... في الرُّكن الأعلى.. لايزال العنكبوت ينسج في صمت.. دون أن يلحظه أحد.. يُرسي الدعائم الأساسية.. يُشكِّل النسيج من الداخل.. حريصاً على منحه الارتخاء المناسب.
7
... تَسْبِت عزيزة عجينتها.. تُكَوِّرها.. تُطبطب عليها.. تغطيتها بدِثارٍ سميك.
... ينتهي الجُعَل من صنع عجينته.. يدور حولها دورةً كاملة.. وعندما يُحسُّ بالرضا عن إنجازه.. يُثَبِّت رجليه الأماميتين في الأرض.. ويرفع أرجله الخلفية حتى تُلامس كُرة الرَّوث.. ومن وضعه المُنَكَّس يُدحرج وليمته.
... العنكبوت يتربَّع وسط الشبكة.. يمدُّ أذرعه.. يهِزُّ النسيج ليختبر متانته.
8
... عزيزة تَرْقب طفلها وهو يُحاول الجلوس وسط الغربال.. وحينما يعجز عن ذلك يبول.. مُبلِّلاً فخذيه العاريتين.. تقهقه عزيزة.. يتعثّر الطفل بحافّة الغربال ويسقط.. ينهض باكياً.. تحتضنه.. وهى تضحك وتُقبِّل مكان الألم.
... تعترض القُطيطة طريق الجُعَل.. تقفز حوله بفرحٍ ودهشة.. تحاول لَمْسَه بحذر.. تمِيل رأسها يميناً وشمالاً.. وهي تَرْقبه باستغراب.
... في تلك اللحظة.. التي يواصل فيها الجُعَل دحرجته.. غير مُكترِثٍ بدهشة القطة.. تقع حشرة مُجنَّحة في شبكة العنكبوت.
(1998)

هناك 10 تعليقات:

  1. صرفت الكثير من الوقت واستغرقني التفكير الطويل وأنا أقرأ هذه القصة وأعاود قراءتها من جديد ... وقفت حائرة من أين سأبدأ التعليق عليها ، من البداية أم أجمل تعليقي عنها مركزة على خاتمتها حتى في مرة قررت الاكتفاء بالقراءة ، لكني عدت وشرعت في كتابة تعليقي :
    الاتقان فن جميل ... المرأة ، الجعل ، العنكبوت .. كل أتقن ما قام به من عمل مع اختلاف الهدف ...
    تناسق مدهش وتوافق ساحر ، ذلك ماجاء في السرد الوصفي للأحداث ،وبراعة في تصويرها من قبل المؤلف ، لكن ما يلفت أكثر أنه ثمة نار تحت الرماد دائما !!

    نعيمة الطاهر

    ردحذف
  2. المبدع / أحمد يوسف عقيلة

    قصة قصيرة رائعة و مدهشة إكتملت فيها كل عناصر الحرفية والإبداع ..
    حيرتني يا أخي أحمد !! هل أقول بأنك القاص الرجيم وشيطان القصة القصيرة أم أقول أنك ملاكها ؟

    دعنا نؤجل الحكم إلى حين عودتك لنا مظفراً .

    أنا معك بكل جوارحي مع خالص تمنياتي القلبية لك بالتوفيق والنجاح الذي أنا على يقين بأنك ستدركه.

    وكم تمنيت أن أكون معك وجنبك .
    بل أنا معك وجنبك ولو تباعت المسافات .
    مع خالص المحبة والتقدير .
    أخيك / عبدالحفيظ أبوغرارة .

    ردحذف
  3. لو اعتبرنا شيطان الإبداع كائن خير ، فلما لا يكون الأستاذ أحمد عقيلةشيطان القصة ، لكن الرجيم سيدي عبد الحفيظ أبو غرارة هو المنبوذ والمغضوب عليه ولا أظنه كذلك ، فمن لا يحب أحمد عقيلة ويذوب حبا في كل إبداعاته الرائعة ، وأنا أوافقك الرأي ، كلنا معه بكل جوارحنا ، فهو الذي يجعل كل من يستمع إليه يقول : إيه ليبيا ، هنيئا لك بمبدع مثله ، وأنا معك أيضا بأننا كلنا جنبه وإن تباعدت بيننا المسافات .
    الرائع أحمد ، بدأ للتو ومنذ دقائق قليلة يوم الرابع من فبراير حيث تبدأ سنة جديدة في عمرك المديد نتمناها سنة حبلى بالجديد ، مليئة بكل ماهو حلو وطيب ومتميز ، وهل يبدأ المتميزون أمثالك سنواتهم إلا بمزيد التفرد ؟ .
    عشت ودمت محبا لليبيا التي هي في خواطرنا نغما يتردد صداه صادحا في خاطرك .
    مع خالص عرفاني لمؤازرتك لي التي جعلتني أحث الخطى من أجل الوصول إلى واحة الشفاء وبراح العافية بسرعة ما كنت أعتقد أني مدركتها لولا دعمك.

    نعيمة الطاهر

    ردحذف
  4. ملحوظة :
    جهازي مبرمج به التاريخ زائد يومان ، الساعةالآن الواحدة إلا الثلث من صباح يوم الثالث من فبراير 2010
    ما علينا ، أكون قد كسبت سبق التهنئة تحت ظلال الخروبة بمناسبة عيد مولدك ، دمت سالما .

    ردحذف
  5. جمال المغربي3 فبراير 2010 في 7:10 ص

    لا تعليق لدي على هذه القصة لانك جعلتني اعيش داخلها بل جزء منها, وكل العام وانت بالف خير, وعقبال 100 عام.

    ردحذف
  6. عبدالسلام الحجازي3 فبراير 2010 في 8:01 ص

    هذه القصة نابضة بالحياة والحركة منذ انقشاع الضباب وحتى سقوط الحشرة في شبكة العنكبوت . شكراً يا أحمد على هذه القصة التي تدعو إلى التفاؤول ونبذ الاستكانة والركود . ولأنك رصدت كل هذه الحركة أضيفك بطلاً آخر لأبطال هذه القصة . دمت ودام نشاطك.

    ردحذف
  7. اليوم الخميس 4 فيراير هو ذكرى يوم مولدك .... انا اعتقد أن له طعم مغاير وانت بعيد عن حضن الحبيبية ليبيا ، وبعيد عن جنبات الجبل الأخضر حيث يمكنك استراجع الشعور بلحظة وصولك إلى هذه الحياة ، خاصة وانك قلت ذات لقاء صحفي بأنك ولدت في الغابة بكل المعنى الحرفي للكلمة ، الغابة تبحث عن ابنها الذي يوم أن يولد رسمت له على ترابها وأوراق اشجارها وبين صفحات صخورهاصورة المبدع الآتي ، ميلادك تاريخ جديد في دنيا المبدعين ، عشت سالما .

    ردحذف
  8. الأحباب: نعيمة الطاهر.. عبدالحفيظ بوغرارة.. عبدالسلام الحجازي.. جمال المغربي.. ممتن لكم كثيراً.. نعليقاتكم ونس في السفر.

    ردحذف
  9. عزيزي / أحمد
    إسمح لي أن أختلس القليل من فسحة مدونتك لأرد على الأخت الفاضلة نعيمة الطاهر والتي أقدرها كثيراً من خلال كل تعقيباتها وتحليلها الرائع وقراءاتها الجميلة لكل نتاجك ، وبخصوص ( القاص الرجيم ) وحتى لا أطيل أرجو منها أن ترجع للتعليقات على " صخب الأحذية " لكي تعرف بأني لست انا من أختار كلمة " الرجيم " لوصفك كقاص شيطان أو شيطان قاص .
    وأقدم إعتذاري لها ولك عن ما حدث من سوء فهم أيها ال ..؟
    عبدالحفيظ أبوغرارة

    ردحذف
  10. شكرا أستاذ عبد الحفيظ أبوغرارة على تعقيبك الجميل وأنا كنت أنفي عن الأستاذ أحمد صفة الرجيم بمعناها المألوف وأعرف أنه هو من تساءل عما إذاما سيكون القاص الرجيم عند تعقيبه على تعليقات صخب الأحذية ، ودعني أقولها بطريقة أخرى : سيكون القاص الرجيم فعلا كون كل من يقرأ له سوف يرجمه بالورود والتحايا ... ومشاعر التقدير وغزير الأماني بأن يبقى مبدعا مجددا ومتألقا .
    نعيمة الطاهر

    ردحذف