19 فبراير، 2010

لا أُريد أَنْ أُطيلَ عليكم

... يُلقي الدَّبُّور الكبير نظرة فاحصة على البناء.. يهزّ رأسه علامةً على الإعجاب.. ثُمّ يلتفت إلى دبابيره:
ــ لقد أنجزتم العُشّ في وقتٍ قياسي.. آية في البناء.. إنجاز ضخم لصالح الدبابير.. ستسمعون بعض الهراء كقول المشكِّكين إنّ بيتكم مُجرَّد كَومة من الطين الملتصِق.. أَلَم يعلم هؤلاء الجهلة أنّ الطين يتحوَّل إلى معجزة بين يدي الصانع الماهر؟ انظروا ماذا فعل الخالق بحفنة من الطين.. حوّل تلك العجينة اللزجة إلى مخلوقٍ عجيب اسمه الإنسان.. مع أنّ بعض البشر لا يزالون يحتفظون بلزوجة الطين ونتانته.. لا أُريد أن أُطيل عليكم.. وبالرغم من أنّ بيتنا معلَّق في سقف هذه المغارة.. إلاّ أنَّ أساسه ثابت في الصخر.. والبناء يتدلَّى.. نعم يتدلَّى.. هذه هي الكلمة المناسِبة.. إنّ الأمر يستحق الاحتفال.. حتى البشر المتبجِّحون بالهندسة لا يستطيعون إنجازَ شيءٍ كهذا.. فهم يضعون الأساسات في الأرض والبناء يصعد إلى الأعلى.. وحين مال بعض أبنيتهم دون أن يسقط عدّوا ذلك أعجوبة من عجائب الدنيا.
يصمت الدبُّور الأكبر حين يرى بعض الدبابير تتلفَّت وتتهامس.. يجلس في فوهة العُشّ.. يتصفَّح وجوههم:
ــ ام م م.. أعرف.. أعرف.. لقد انشغلتم اليوم بكامله في البناء.. أنتم جائعون.. لا يُمكن لأحدٍ أن يحتفل ومعدته خاوية.. لا أريد من رعيتِي أن تقول عنِّي: (حلاوة لسان.. وقِلّة إحسان).. لا تقلقوا من هذه الناحية.. لدي خطّة للعَشاء.. فأنا لم أكن أجلس في الظلّ طيلة اليوم لأتفرّج.. من أجل ماذا أنا زعيم إن لم أتدبَّر العَشاء لشعبي.. صحيح أنَّني غفوتُ بعض الوقت أثناء القيلولة.. وراودتني بعض الأحلام أيضاً.. لكن يجب أن يعمل البعض بينما يحلم آخرون.. هكذا تجري الحياة.
يطير من حافة الفوهة السفلية.. يحطّ على الحافة العلوية.. يتهيّأ لخطاب جديد:
ــ قبل أن أكشف لكم عن خطة العَشاء ـ على الرغم من أنّها من الأسرار العُليا ـ دعوني أقول لكم شيئاً آخر.. تسمعون ولاشك من حينٍ إلى آخر من يقول بأنّ الدبابير متوحِّشة.. هذا ليس صحيحاً.. بل هو مُجرَّد تشويه.. الدبابير قويّة وليست متوحِّشة.. فالمسألة مسألة لغة أكثر من أي شيءٍ آخر.. والويلُ لِمَن يُحرِّك عُشّ الدبابير.. يقولون بأنّ الفراشات كائنات لطيفة.. شَفّافة.. وأنا أقول بأنّها كائنات ضعيفة.. أرأيتُم؟ المسألة مسألة لغة لا أكثر ولا أقلّ.. لا أُريد أن أُطيل عليكم.. ثُمّ إنّ الدبابير تتمتَّع بجمالٍ لافِت.. فهي ذهبيّة تتخلَّلها حلقات سوداء مثل الأحزمة.. حتى إنّ البشر في هذا الوادي يسمُّون الدبور (بُومْحَزَّم) بسبب تلك الأحزمة.
تَميل بعض الدبابير على بعضها.. يطير دبّور من الصف الأمامي وينزل في الخلف.. يستأنف كبير الدبابير خطابه:
ــ حسناً.. يبدو أنَّني قد أطلت.. لا أريد أن يكون كلامي مجرَّد (مطر في بحر).. يجب أن يكون هذا اليوم تاريخيّاً في حياة الدبابير.. آن لي أن أكشف لكم عن خطّة العَشاء.
يشير إلى الحرس إشارة ذات دلالة.. تطير مجموعة من الدبابير.. تستكشف مُحيط العُشّ.
يهمس الدبور هذه المرّة على غير عادته:
ــ سنُهاجم مملكة النحل في الكهف المجاور.. مملكة تنُزّ عسلاً.. النحل مخلوقات ضعيفة.. تحكمهم أُنثى.. أنثى لا همّ لها سوى الإنجاب.. لعل سِرَّ قوّتِها يكمن في الكَم الكبير من الذرّيّة التي تلدها.. مهمتها الحفاظ على النسل فقط.. وهي لا تُفرز العسل.. بل تأكله.. يعني تأكل ما يُنتجه شعبها.. فالملكة لا تُنتج على عادة كل الملوك.. لا أُريد أن أُطيل عليكم.. وأكثر من ذلك فهي لا تُخطِّط لرعيّتها كما أفعل أنا.. بل تترك كل شؤون المملكة لشعبها.. تصوّروا! ونظراً لاستماتة شعبها في الدفاع عنها سنهاجمهم بمجموعة أسراب.
... الكهف يُظلم.. عُشّ الدبابير أكثر إظلاماً.. يرفع الدبّور الكبير صوته هذه المرّة:
ــ اسمعوا.. لا أُريد أن أُطيل عليكم.. فأنا أعرف أنّ طول السلك يُضيّع الإبرة.. أضعف نُقطة في النحلة هي وسطها.. خصرها.. ذلك الجزء الرفيع الذي يُشبه الخيط.. اقطعوا ذلك الخيط بضربة واحدة وينتهي كل شيء.. ألَم أقل لكم بأنّ النحل مخلوقات ضعيفة؟
... تُحلَّق أسراب الدبابير مُعتقدةً أنّ الخطاب قد انتهى.. لكنّ الدبور يصيح خلفها:
ــ اسمعوا.. كلمة أخيرة.. لا أُريد أن أُطيل عليكم.. (قصر الكلام منفعة).. لا تقتلوا الملكة.. إيّاكم أن تقتربوا من الملكة.
... يجلس الدبّور الكبير على الحافة السُّفلية للعُش.. يؤرجح رجليه الخلفيّتَين.. يقول بصوتٍ يُقطّعه التثاؤب:
ــ مَن.. قال.. بأنّ.. الدبابير.. متوحِّشة؟!
***
(2008)

هناك 6 تعليقات:

  1. وضعتني يا عقيلة في عش الدبابير، لم أكن أعرف أنه بكل هذه الروعة.
    غادة.

    ردحذف
  2. كثيرون هم أمثال الدبابير، أصحاب الخطابات الطويلة..

    ردحذف
  3. تكلم رجل فأطال الكلام . ثم سأل أعرابيّـًا كان بين الجالسين عن العِـي فقال الأعرابي : ما كنت فيه الآن .

    مفتاح امعيزيق .

    ردحذف
  4. لا أريد أن أطيل عليك ، قد يكون سر الأنثى في الكم الكبير من الذرية التي تلدها ، لكن قوتها تكمن في هذا الضعف الذي تدعيه وهي التي تتبع فئة ( كيدهن عظيم ) (إياكم أن تقتلوا الملكة ) تلك هي الرسالة ....
    من قال أن الدبابير متوحشة ؟!!

    نعيمة الطاهر

    ردحذف
  5. عزيزي / أحمد
    لعلك أطلت قليلاً ولعل هذه الإطالة مسألة لغة لا أكثر .. النص جميل بمجمله وفي ثناياه أكثر من حكمة .
    عبدالحفيظ أبوغرارة

    ردحذف
  6. لا أريد أن أطيل عليك ، قد يكون سر الأنثى في الكم الكبير من الذرية التي تلدها ، لكن قوتها تكمن في هذا الضعف الذي تدعيه وهي التي تتبع فئة ( كيدهن عظيم ) (إياكم أن تقتلوا الملكة ) تلك هي الرسالة ....
    من قال أن الدبابير متوحشة ؟!!

    ردحذف