17 فبراير، 2010

نَشْرة السّاعة العاشِرة

(إلى الشاعر: الرويعي الفاخري)
1
... الحاج (منيْسِي) يعود من المدينة إلى بيته في طرف القرية قبل العاشرة مساءً بقليل.. يضع الراديو على طاولة صغيرة.. يوجِّهه إلى الغرب للحصول على أنقَى صوت.. يُقرّب مخدَّة ليسند عليها الهوائي الذي يرفض الوقوف بنفسه.. ينادي على أحفاده:
ــ تعالوا أسمعوا النَّشْرَة.. جَدّكم تعشَّى مع الوزير.
يدخلون بتثاقل.. يتحلَّقون حوله.. يتَحَسَّس بيده المعروقَة نوط الجهاد اللامع الْمُعَلَّق على صدره.. يَمِيْد إلى الأمام وإلى الخلف في انتظار نشرة الساعة العاشرة.
2
... (منيْسِي) مواطن ليبِي.. مَخْتوم في كُتَيِّب عائلته (مُقيم منذ الولادة).. ليس هذا فحسب.. بل هو سَليل أُسرة شُهَداء.. سقطوا جميعاً في الحرب ضد الطليان.. شارك هو شخصيًّا في أواخر الحرب.. تعرَّض للضَمّ في المعتقلات.. وفوق هذا وذاك يقبض راتبَ المجاهدين.. أربعة وتسعين ديناراً ونصفاً.. قد تتأخَّر عِدَّة أشهر.. لكنّها تأتي في نهاية المطاف.. يقف في الطابور مُستنِداً على عُكّازه بِضْع ساعات.. يُضطَرّ إلى الجلوس أحياناً وسط الطابور.. ينعس أيضاً.. ويلكزه أحدهم:
ــ يا حاج.. فاتَك الدَّوْر.
3
... (كان هذا هو الْمُوْجَز.. وإليكم التفاصيل)..
يضع الحاج (منَيْسِي) سبّابته على شفتيه وهو ينظر إلى أحفاده.. ويهمس:
ــ التفاصيل!
(أقام الأخ رئيس الوزراء مَأْدبة عَشاء هذه الليلة.. حَضَرَها كُلٌّ من الأخ وزير الْخارجية..).
ــ صحيح.. حضر معانا وزير الخارجية!
(والسيّد جوليانو فيليبّو سفيْر إيطاليا في ليبيا..).
ــ حتى الطلياني تعَشَّى معانا.. واحد أشقر طويل.
(والثائر النيكاراغوي غونزاليس اليخاندرو..).
ــ بلحيته.. شعره طويل.. وحتّى اسمه طويل.. خلاص.. قريّب يسمُّونِي.
(والسيّد موهنداس راجا.. أحد نمُور التاميل..).
ــ صَحّ.. نمر أسْمَر.. انتبهوا.. قريّب يسمُّونِي.
(ورجل الأعمال الأمريكي يوسف مردوخ..).
ــ صحيح.. اسمه كيف أسامي العرب!
يرفع الحاج (منَيْسِي) يده للتنبيه إلى الإنصات..
(كما حضر المأدبة أيضاً لفيف من المواطنين).
ــ أيوه.. هَذي.. الكلمة الأخيرة.. لفيف.. أنا في اللفيف!
يَنهض بدون عُكّازه.. يضمّ أحفاده واحداً واحداً.. يقبّلهم.. يُردِّد:
ــ في اللفيف.. في اللفيف..
ينسحب أحفاده متثائبين.. يُرَدِّد:
ــ في اللفيف.. في اللفيف..
يَمشى في الممرّات.. يفتح كلّ الحجرات.. يخرج إلى الْمَنْوَر.. يفتح الباب الرئيسي.. يُطّل على الشارع الْمُظلِم الخالِي من المارَّة.. يتلفَّت وهو يخطو على الرصيف.. يعود بأنفاسٍ مبهورة.. يجلس على العتبة.. يرفع وجهه إلى السماء.. يلمع نوط الجهاد في الظلمة.. يبسط كفَّيه على رُكبتَيه.. يدسّ رأسه بينهما.. يرتعش.. يُحسّ ببَلَل الدمع في راحتَيه.. يردّد هامساً:
ــ في اللفيف.. في اللفيف..
***
(2006)

هناك 10 تعليقات:

  1. لايهم أن يُذكر هو..المهم الإيطالي والأمريكي و...
    فهو لايجني البترول ولاحمل الدولارات في حقيبته التي جاء بها مُجَعَّدة... ألا يكفيه أنه حُشر في المُعتقل؟؟؟
    تحياتي...تفضلوا.

    ردحذف
  2. (يا حاج فاتك الدّور)، هذه الجملة تلخيص للقصة كلها، الحاج منيسي يبقى على الهامش، أو في اللفيف كما عبّر عقيلة، بينما المتن للآخرين، وجميلة عبارة (يلمع نوط الجهاد في الظلمة)، فهي ذات دلالة.والاسم (منيسي) يتطابق مع محتوى القصة.

    ردحذف
  3. قلت لك سابقا وهبت حس الفعل فوهبتنا حس الكلمه يكفيه ويكفينا أنت يا أحمد

    ردحذف
  4. جمال المغربي16 فبراير 2010 في 11:57 م

    عند نهاية قراتي للقصة نسيت جميع الاسماء والشخصيات التي حضرت, فقط الحاج منيْسِي هو من بقى في ذاكرتي.

    ردحذف
  5. يقولون لكل شخص من إسمه نصيب ، منيسي ، لكن عند الوزراء والمسؤولين رغم من أنه ( مقيم منذ الولادة) كما جاء في كتيب عائلته ، لكن لن أزيد على ماقاله الأستاذ جمال المغربي ، عند نهاية قراءتي للقصة  لم يبق في ذاكرتي غير اسمه ، وقطرات من دمعه على راحتي يدي سأمسح بها وجهي حتى اداوم الوجود في ذاكرة الناس ، دام ابداعك بكل ما يحمله من مضامين ومدلولات .

    نعيمة الطاهر

    ردحذف
  6. السلام عليكم

    رائعة ...

    ردحذف
  7. نحن القادمون مع خيوط الشمس تحفنا سنابل القمح يطوق جبيننااكليل نسج من رفات الاجداد لا ينقصنا قدر ولا تاريخ ,نحن نبحث عن حقوق ضاعت علي مرآي من اعيننا,هكذا دائما حال الشرفاء والابطال,
    مااحزنني اننا اصبحنا من اللفيف بالرغم من التضحيات والدماء الطاهرة,

    ردحذف
  8. الاستاذ / أحمد
    رائع أنت في إلتقاطك لهذه التفاصيل ورصدك لهذه المشاهد .
    كلنا يعلم بأن نشراتنا الإخبارية تفصل على مقاسات معينة ولشخصيات بعينها لأنها مسيسة تماماً .
    ولا عزاء للحاج " منيسي " .
    سوف يبقى هو وأمثاله على هامش التاريخ وسوف يفوته أكثر من دور .

    عبدالحفيظ أبوغرارة

    ردحذف
  9. اصدقك القول اذا قلت لك انني في مرات كثيرة اجد نفسي الحاج منيسي....اهنئك على هذه اللفته الكريمه لكل الحجاج المنسيين .

    ردحذف
  10. مؤلمة ....أقسم

    ردحذف